التأثير الإعلامي البريطاني على كامل أوروبا
مع بداية العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، بدأت وسائل الإعلام في الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الناتو ببناء غالبية المقالات فيها متأثرة بسيل من المصادر والمعلومات المنقولة من المؤسسات الإعلامية والبحثية البريطانية، سواء السياسية منها أو حتّى الفضائحية، متجاهلة مبادئ التحليل النقدي للمعلومات والمهنية الصحفية والإعلامية، ومسلّمة بكونها مجرّد مرآة جامدة للترويج أحادي الجانب للمعلومات المنحازة بشكل دائم ضدّ روسيا أو الصين أو أيّة دولة لا تقف مع الإجماع الغربي.
الإعلام الناطق بالإنكليزية
يتوجب علينا عندما ندرس مدى تأثير وسائل الإعلام البريطانية أن نتذكر مدى الهيمنة الثقافية للغة الإنكليزية على وسائل الثقافة والإعلام حول العالم. إنّ أسلوب وسائل الإعلام البريطانية، والناطقة بالإنكليزية كلغة أصلية في العموم، هو استخدام مجموعة من الاستعارات المعرفية لوصف الوضع السياسي المحلي أو السياسة الخارجية لدولة أجنبية ضمن سياق الحفاظ على سرد ذي صلة، والتركيز ينصبّ دوماً على التنميط واستخدام الدلالات السلبية لتفسير الأحداث.
تمّ استخدام هذه الأساليب بشكل واضح للمتابعين في الاتهامات الكاذبة للزعيم العمّالي البريطاني جيريمي كوربين، كما أصبحت هذه الأساليب هي السمة المميزة لما يسمّى «مبادرة النزاهة»، وهي المشروع الذي تمّ إنشاؤه في 2015 لإجراء عمليات استخبارات سرية تتمّ دراستها واتخاذ القرار فيها في «مؤسسة الكفاءة السياسية»، وهي مركز أبحاث غير معروف كثيراً مقرّه لندن، أسسه مكتب الكومنولث للشؤون الخارجية للمملكة المتحدة بالتعاون مع الناتو ووزارة الخارجية الأمريكية ومؤسسة «سميث ريتشاردسون» التي تربطها علاقات وثيقة مع الوكالات الحكومية الأمريكية بهدف تعزيز المصالح الأمريكية في الخارج، ناهيك عن كونها ممولة من مركز أبحاث «المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية» الذي يتشارك البناء مع «مؤسسة الكفاءة السياسية» في وسط لندن. تعمل هذه المراكز والمؤسسات بشكل منسق ومتناغم بتوجيه من الوكالات الأمنية البريطانية والأمريكية.
يمكننا على سبيل المثال أن نرى بأنّ منصب مدير «المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية» قد شغله ما بين 2006 و2017 نايجل إنكستر، والذي كان يشغل قبله منصب نائب رئيس المخابرات الخارجية البريطانية «MI6». من أعراض هذا التعقيد والتداخل أنّ الدوريات البريطانية نفسها غالباً ما تستشهد بمصادرها بالتحالفات المعادية لروسيا والصين، مثل تحالف العيون الخمسة، وذلك من أجل تعزيز الخطاب الذي يبرر العداء في الخطاب السياسي الغربي، والتأثير على المتلقين باستخدام استعارات شبيهة بالتي كان يتمّ استخدامها أيام الحرب الباردة.
إذا ما أردنا أن نبحث كمثال عن صحف ناطقة بغير الإنكليزية لنفهم الأمر، يمكننا أن نتابع الصحف السويدية الأربع الأشهر في الفترة ما بين كانون الثاني ونهاية عام 2022 «أفتونبلادت، إكسبرسن، داغنس نيهيتر، جي.بي بوستن»، لنتمكن بدون الكثير من الجهد من الكشف عن اتجاه نمطي مترسخ في غالبية الصحف الأوروبية الكبرى تقريباً. المجتمع الصحفي في الغرب توّاق «للتطابق conformism» لدرجة أنّ جميع المصادر الإنكليزية التي يتمّ نقل الأخبار والمعلومات الدولية عنها لا تخضع عملياً لأيّ نوع من التدقيق. يتمّ تقديم المعلومات للقارئ بصورة مشوهة وباستعارات بلاغية تظهر بأنّ المصدر «أرقى وأسمى» من أيّ مصدر آخر.
والأكثر إثارة للاهتمام أنّ الإعلام غير الناطق بالإنكليزية ليس وحده من يتأثر بالإعلام الناطق بالإنكليزية والمؤسسات التي يرتبط بها، بل أيضاً مؤسسات وطنية يُفترض كونها مصدر المعلومة الرئيسي. في المثال السويدي، أصدرت المخابرات السويدية «سابو Säpo» في شهر آذار تقريراً عن المخاطر الأمنية التي تهدد السويد، وكان من ضمنها «روسيا التهديد الحالي الأكبر، والصين التهديد طويل الأمد، وإيران التهديد الملموس». وعند سؤال الناطق الصحفي للمخابرات عن معنى كلمة «تهديد ملموس» كان الرد غير مفهوم ولا يعبّر عن تعبير «ملموس/محسوس/مدرك» وكأنّه يشرح تصريحاً لجهاز آخر، حيث تحدّث عن نوايا إيران وغيرها من الكلمات الرنانة التي لا يمكن لأيّ مهني وصفها «بالملموس». ثمّ بعد البحث تبيّن بأنّ الإعلام البريطاني عموماً كان يستخدم تعبير «الخطر الإيراني الملموس/محسوس/مدرك» بشكل مستمر في عام 2022 في إشارته إلى «التهديد الإيراني الملموس للمصالح الغربية في المنطقة وعلى أمن [إسرائيل]» وخاصة في سياق الاتفاق النووي الإيراني.
الإيديولوجية والتحوّل التجاري للسوق
كانت هذه التغطية المنحازة نتيجة للتحوّل التجاري في صناعة الإعلام الأوروبي الذي بدأ في ثمانينات القرن الماضي، والذي وفقاً لعدد من الأبحاث الأوروبية كان انعكاساً لتسليع الثقافة وجعل السوق هو الحكم النهائي على نجاح المنشورات. بعد أن حلّ السوق مكان المقاربة الجماعية للنشر، بدأت وسائل الإعلام الأوروبية الغربية الحديثة في تأسيس أنشطتها على الاتجاه الرائج، وهو ما جعلها مرتبطة بشكل هائل بشبكة من مراكز التحليل والأبحاث الخاصة في بريطانيا.
إنّ درجة عالية من التأثير على البيئة الإعلامية في بريطانيا وأوروبا تتمّ ممارستها من خلال هيئة الإذاعة البريطانية ورويترز اللتين تتعاونان بشكل كلي مع الحكومة البريطانية ووكالاتها المتعددة، ولكنّ التأثير الأعمق من بريطانيا يأتي عبر المؤسسات التالية: «Chatham House» تشاتام هاوس: مركز أبحاث المؤسسة الملكية للشؤون الخارجية، و«المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»: مركز أبحاث للسياسات الخارجية والأمنية أنشئ عام 2007 لتنسيق القرارات الأوروبية بين ممثلين موجودين في لندن وباريس وبرلين ومدريد وروما وصوفيا ووارسو، و«مركز السياسات الخارجية»: مركز أبحاث بريطاني متخصص بالسياسة الخارجية أنشئ عام 1998 من قبل وزير الخارجية روبن كوك.
إنّ هذه المراكز ومنظمات أخرى شبه مستقلة كانت نشطة في تشكيل المزاج العام منذ عقود بنشرها مواد إعلامية تهدف إلى تشويه سمعة الدول التي لا تشارك في موقف الغرب الجماعي. يتمّ توزيع هذه المواد بشكل فائق التنظيم عبر بي.بي.سي، والديلي ميل، والفايننشال تايمز، وبوليتيكو، وسكاي نيوز، والغارديان، والتلغراف، وتايم يوروب، وغيرها.
منذ منتصف 2010 كانت وحدة متخصصة من المخابرات العسكرية البريطانية والمخابرات الخارجية البريطانية «MI6» تشغّل وتنفذ عمليات نفسية عبر شبكة الاتصالات الإعلامية والإنترنت، جنباً إلى جنب مع الهياكل المتخصصة في الأجهزة البريطانية الأمنية الأخرى، وكذلك هياكل المخابرات الأمريكية المنتشرة على طول أوروبا.
في وقت مبكر من عام 2006، أثبت الباحث السياسي الإنكليزي سي.نيوتن من جامعة ساوثمبتون مدى التأثير الانتقائي لوسائل الإعلام على المزاج الجماهيري، حيث أشار إلى درجة عالية من تأثير المؤسسات الإعلامية على الجماهير غير المتابعة «المتلقون الذين لا يعرفون المعلومات من مصدرها الأصلي وليسوا على دراية بجميع جوانب الموضوع». بناء على نتائج البحث هذه ليس من الصعب تخيّل تأثير وسائل الإعلام الأقوى على الجماهير، فالوعي والتصور السياسي لدى الجماهير للأحداث السياسية يكون نتيجة أنشطة الصحافة والتلفزيون، فكلّ ما نعرفه عن العالم الذي نعيش فيه، وحتّى عن مجتمعاتنا المحلية، نعرفه من خلال وسائل الإعلام».
إنّ استمرار الإعلام الغربي في بثّ المعلومات الكاذبة عن عمد، وتجاهل الحقائق الموضوعية يؤكد بأنّ التحيّز هو العنصر الرئيسي في التغطية. كما أنّ الاعتماد المفرط على وسائل الإعلام الناطقة بالإنكليزية، وتحديداً البريطانية منها، هو شكل لامتداد محاولات إدامة سيطرة النظام الحالي الذي يصفه بعض المحللين بأنّه نظام «أنغلو-ساكسوني»، وذلك عبر خلق التبريرات والتهيئة النفسية للأوروبيين كي يستبعدوا الخيارات التي تصبّ في صالحهم في التعاون مع روسيا والصين، خاصة في مواجهة الأزمات التي تعصف بهم نتيجة إلغاء هذه الخيارات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1113