حقائق جديدة: كيف دمرت الولايات المتحدة خطوط السيل الشمالي
كتب صحفي التحقيقات والكاتب السياسي الأمريكي سيمور هيرش مقالاً تحقيقياً طويلاً، بالاعتماد على مصدر «لديه معرفة مباشرة بالتخطيط لعملية نسف خطوط أنابيب السيل الشمالي 1 و2» التي تمّت في تشرين الثاني العام الماضي 2022، ووجّه أسئلة لجميع الجهات التي ادعى المصدر اشتراكها في العملية، فردّ بعضها بالنفي، وامتنع بعضها الآخر عن الرد. إليكم مختصر لأبرز ما جاء في التحقيق الصحفي.
ترجمة: قاسيون
في حزيران الماضي قام غواصو المخابرات المركزية الأمريكية تحت غطاء تدريبات الناتو بزرع المتفجرات، وبعد ثلاثة أشهر دمرت هذه المتفجرات ثلاثة من أصل أربعة خطوط أنابيب من التي كانت تزود أوروبا بالغاز الطبيعي الروسي زهيد الثمن. كان هناك عدّة أسباب منها بيروقراطية للاعتماد على الغواصين، فهؤلاء تابعون للبحرية فقط، وليسوا أعضاء في قيادة العمليات الخاصة الأمريكية التي يجب أن تبلغ عن عملياتها للكونغرس ومجلس النواب، فإدارة بايدن كانت تفعل كلّ ما بوسعها لتفادي التسريبات.
في كانون الثاني 2021، أي قبل شهرين من دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا، عقد مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، لقاء جمع فيه رؤساء القوات الخاصة والمخابرات المركزية ووزارتي الخارجية والخزينة، وطلب منهم إعداد الاقتراحات لكيفية الاستجابة لعمل روسي في أوكرانيا. كان هذا الاجتماع هو الأول في سلسلة اجتماعات سرية للغاية، حيث أدّت الأحاديث المعتادة في النهاية إلى خروج المجموعة بخطة لتدمير خطوط أنابيب السيل الشمالي.
اقترحت البحرية استخدام الغواصات الحديثة لمهاجمة الخطوط مباشرة، وناقشت القوى الجوية إلقاء القنابل ذات الانفجار المتأخر لأداء المهمة. لكنّ المخابرات المركزية فهمت أنّ على العملية أن تكون سرية، فالجميع كانوا مدركين: «ليس هذا بمثابة لعبة، فإن كان بالإمكان تتبّع الفعل ليصل إلى الولايات المتحدة سيعدّ بمثابة: عمل حرب».
في ذلك الوقت، كان بيرنز الذي عمل سفيراً معتدل السلوك في روسيا وكوزير خارجية في إدارة أوباما، هو من يدير المخابرات المركزية. في المجموعة الخاصة ببيرنز كان هناك من يعرف بقدرات الغواصين التابعين للبحرية المتموضعين في مدينة بنما، وبدأ خلال أسابيع قليلة بصياغة خطة لعملية سرية يقوم فيها الغواصون بتفجير الأنابيب.
لكن المجموعة المشتركة ورغم تأكيد المخابرات المركزية والبحرية على خبرتهما في هذا النوع من العمليات من قبل، كانوا متشككين في القدرة على تنفيذ هجوم سري في أعماق البحار. كان هناك الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها، فمياه بحر البلطيق عميقة وتتمّ مراقبتها بدوريات مكثفة من البحرية الروسية، وليس هناك منصات نفطية يمكن استخدامها كغطاء لعمليات الغوص، ولهذا كان البعض في وزارة الخارجية يقولون: هذه خطة غبية وإن خرجت للعلن سيكون الأمر بمثابة كابوس سياسي.
لكن في 7 شباط بات واضحاً بأنّ هناك شخص آخر، رغم بعض المواقف المتذبذبة، قد انضمّ للفريق الأمريكي: المستشار الألماني أولاف شولتز. في المؤتمر الصحفي الذي تلا لقاءه مع الرئيس الأمريكي بايدن في واشنطن، قال بايدن بشكل واضح: «إن قامت روسيا بالغزو... لن يكون هناك سيل شمالي 2. سنقوم بإنهائه». وقبل ذلك بعشرين يوماً أوصلت مساعدة وزير الخارجية نولاند الرسالة ذاتها بتغطية إعلامية أقل: «أريد أن أكون واضحة معكم جداً اليوم. إن غزت روسيا أوكرانيا، فبطريقة أو بأخرى لن يمضي السيل الشمالي 2 قدماً».
انتقلت الخطة لنسف السيل الشمالي 1 و2 فجأة من كونها عملية سرية تتطلب إبلاغ الكونغرس إلى عملية استخباراتية سرية للغاية بدعم عسكري. لم يعد من الناحية القانونية هناك واجب لإبلاغ الكونغرس، لكن كان يجب إبقاء العملية سرية، «فالروس لديهم مراقبة فائقة لبحر البلطيق».
العملية
علم الجميع أنّ النرويج هي المكان المثالي لإطلاق المهمة: في السنوات الماضية ومع اشتداد أزمة الشرق-غرب، وسّع الجيش الأمريكي حضوره بشكل كبير داخل النرويج. خلق البنتاغون في النرويج وظائف وعقود بقيمة ملايين الدولارات وسط جدل محلي، ووسّع منشآت البحرية والقوى الجوية الأمريكية في النرويج. بات بإمكان قاعدة الغواصات الأمريكية التي أُنشئت على طول أعوام أن تعمل مع الغواصات النرويجية للمراقبة والتجسس على معقل الغواصات النووية الروسية على بعد 250 ميلاً إلى الشرق، ووضع الأمريكيون أسطولاً من طائرات بوسايدون لتعزيز قدراتهم على التجسس على روسيا. بالمقابل أغضبت الحكومة النرويجية عدداً كبيراً من البرلمانيين لديها عبر تمرير اتفاقية تعاون دفاعي مع الولايات المتحدة، حيث يتمّ بموجبها تطبيق الاختصاص القضائي الأمريكي على الجنود الأمريكيين الذين يرتكبون جرائم خارج القواعد الأمريكية، وكذلك على المواطنين النرويجيين المتهمين أو المشتبه بهم بالتدخل في أعمال هذه القواعد. كما أنّ لدى النرويجيين مصلحة في تدمير السيل الشمالي، فهم يأملون أن يسمح لهم ذلك ببيع المزيد من كميات الغاز الطبيعي لديهم إلى أوروبا.
ذهب عدد من أفراد الفريق الأمريكيين إلى النرويج للقاء المخابرات والبحرية. كان الهدف هو تحديد المكان المناسب بدقة في بحر البلطيق لزرع المتفجرات. كانت البحرية النرويجية سريعة في إيجاد البقعة الصحيحة في المياه الضحلة لبحر البلطيق على بعد أميال من جزيرة بورنهولم الدنماركية. كان ذلك ممتازاً للغواصين الذين لم يكن عليهم القلق من تيارات المد والجزر الكبيرة عندما ينطلقون من سفينة كسح ألغام نرويجية من فئة ألتا، ويزرعون المتفجرات.
كانت هناك مشكلة أخرى: أيّ حركة غير معتادة تحت الماء قد تسترعي انتباه السلطات في السويد أو الدنمارك، والتي يمكن أن تقوم بالإبلاغ عنها. لهذا اتفق النرويجيون والأمريكيون على أنّ بعض المسؤولين الكبار في الدنمارك والسويد يجب أن يعلموا بشكل مختصر بنشاطات الغوص في المنطقة، وبهذا الشكل يمكنهم أن يتدخلوا ويبقوا التقارير خارج التسلسل الذي يوصلها إلى العلن بحيث تتمّ حماية عملية تفخيخ الأنابيب. تمّ الاتفاق بشكل منفصل مع الدنماركيين والسويديين.
كان النرويجيون هم الذين تمكنوا من حلّ بعض العقبات الأخرى، مثالها أنّ لدى البحرية الروسية تكنولوجيا مراقبة متطورة قادرة على التقاط واستهداف الألغام المزروعة تحت الماء، وكان ينبغي تمويه أجهزة التفجير الأمريكية بحيث تبدو جزءاً من المكونات الطبيعية في المياه للأجهزة الروسية. الأمر الآخر هو استخدام توقيت تدريبات الناتو الدورية التي أجريت ذلك العام في حزيران كتغطية للقيام بعملية زرع المتفجرات.
لكن فرض هذا الغطاء تغيير الخطة، فيجب أن يكون هناك فاصل زمني بين التدريبات وعملية التفجير، الأمر الذي وضع بعض التشويش على العملية. لكن تبعاً لتجربة المخابرات المركزية في تخطي القوانين، حتى الأمريكية منها، كان الأمر قابلاً للتنفيذ، مع زيادة مخاطر انفجار المفخخات من تلقاء نفسها في أيّة لحظة.
تمّت العملية، وتمّ تفجير الخطوط، وأبدى المسؤولون الأمريكيون سعادتهم الفائقة بتنفيذها، علناً أو في الخفاء. في تصريح حديث في بداية هذا العام لمساعدة وزير الخارجية نولاند أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ: «أنا مثلك – وأعتقد أنّ الإدارة كذلك – ممتنون للغاية لمعرفة أن السيل الشمالي 2 هو الآن خردة كبيرة من المعدن في قاع البحر». وقبلها كان بلينكن سعيداً أيضاً في تشرين الثاني الماضي عندما ردّ على سؤال حول انفجار الأنابيب: «إنّها فرصة هائلة لإزالة الاعتماد على الطاقة الروسية مرة واحدة وإلى الأبد، وبالتالي التخلص من قيام فلاديمير بوتين بتسليح الطاقة لتعزيز مخططاته الإمبراطورية».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1109