هل تضطرّ الولايات المتحدة لمواجهة فيتنام من جديد!
أوديت الحسين أوديت الحسين

هل تضطرّ الولايات المتحدة لمواجهة فيتنام من جديد!

منذ هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام وانسحاب قواتها في 1973، تغيّر شكل فيتنام كثيراً لتصبح «على غرار الصين» من الدول التي فتحت أبوابها للاستثمار الغربي، وباتت اليوم من الشركاء التجاريين الأكبر للولايات المتحدة «المرتبة العاشرة بحجم تجارة 10,23 مليار دولار في تشرين الثاني الماضي». لكن على غرار الصين أيضاً، تصبح مصالح جميع المنتجين الحقيقيين حول العالم في تناقض أعمق وأشد مع مصالح الإمبريالية المالية التي يستفيد منها المستثمرون المضاربون. من هنا ربّما تكون التحركات السياسية الأخيرة التي تشهدها فيتنام هي جزء من موقف جديد مناهض للإمبريالية يؤدي إلى الانضمام أكثر إلى قوى النظام العالمي الجديد.

كان الرئيس الفيتنامي المُقال نوين سوان فوك قد استلم الرئاسة في فيتنام منذ نيسان 2021 وحتى وقت استقالته بداية العام الحالي وسط فضائح فساد. وكان قبل ذلك قد استلم رئاسة الوزراء منذ 2016 وحتى استلامه الرئاسة. أعلن مسؤولو الحزب الشيوعي الفيتنامي بقيادة أمينه العام نوين تشونغ بأنّ ما حدث للرئيس فوك هو جزء في سلسلة تطهير غير مسبوقة لمكافحة الفساد في جميع مواقع السلطة الفيتنامية، جاء بعد قيام الحزب بفتح ملفات الكثير من المسؤولين الحكوميين وإقالتهم ضمن ما سمّته بعض الصحف الغربية «الحرب ضدّ التكنوقراط». ورغم أنّنا لا يمكننا التأكيد أو الجزم على نتيجة هذا التحرّك، فـ «الهلع» الذي استقبلت فيه وسائل الإعلام الغربية والمحسوبة عليها الأمر يستحق أن يوضع تحت الفحص.
كان فوك معروفاً بميله نحو الغرب، ولهذا ومنذ وجوده في رئاسة الوزراء في 2016 عزز بشكل كبير العلاقات بين هانوي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تمّ في 2019 توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين فيتنام والاتحاد الأوروبي لتكون بمثابة رمز على تصميم فوك على المضي قدماً في تدويل الاقتصاد الفيتنامي وزيادة جاذبيته في السوق العالمية.
كان البروفسور زاكري أبوزا من كليّة الحرب الوطنية في واشنطن قادراً عن غير قصد على فتح مجال التحليل لما يمكن أن يحدث في فيتنام عندما تحدّث عن «النتائج الكارثية» لإعفاء الرئيس فوك من منصبه: «إعفاء فوك من منصبه أمر جيّد للصين ولروسيا... وإشارة إلى أنّ أمين الحزب تشونغ قد انتصر في حربه ضدّ التكنوقراطيين».
لطالما تمّت الإشارة إلى فيتنام بوصفها «الصين المصغرة» بسبب حزبها الشيوعي، والنمو المتسارع، والنموذج الاقتصادي القائم على التصنيع الضخم، وعدد سكان كبير يبلغ 98 مليون، وانخفاض التكاليف، والموقع الجغرافي الذي تحسد عليه بسبب وقوعها ضمن مجموعة الدول التي تصعد في آسيا.
ومثل الصين أيضاً ولكن بدرجة ضغط أقل، وخاصة في العقدين الأخيرين، وجد الفيتناميون بأنّ حفاظهم على نظامهم الاقتصادي الذي يقوده حزبهم الشيوعي المعتمد على شركات الدولة والقطاع المشترك، يصبح أكثر صعوبة في وجه إرادة المستثمرين الدوليين الذين يدعمون ويسعون إلى قطّاع خاص مهيمن، لدرجة يصبح فيها الصدام أعلى بشكل مستمر، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ مؤشرات كثيرة تمنع الفيتناميين من الوثوق بمؤسسات السوق المفتوح. على سبيل المثال بورصة فيتنام «سوق هوشه مينه للأوراق المالية»، فرغم كونها الأصغر من حيث القيمة السوقية بين اقتصادات جنوب شرق آسيا الكبيرة برأس مال يبلغ بالكاد 180 مليار دولار، فقد كانت الأسوأ أداء على مستوى العالم في 2022، لتسقط بنسبة تفوق 30٪ وسط فوضى قطّاع العقارات الخاص الذي أهلكته المضاربة «مثله في ذلك مثل سوق العقارات الصيني».
مشكلة جميع المنتجين الحقيقيين
المشكلة التي تواجه فيتنام اليوم هي المشكلة التي تواجه جميع الاقتصادات العالمية الصاعدة التي تقوم على مزايا إنتاج صناعي كبيرة واقتصاد معدّ للتصدير، وتسعى إلى الحفاظ على نسب نموّ سنوي مرتفع. بالنسبة لهذه البلدان يصبح الاستمرار بالشكل القائم من ثلاثة عقود أصعب، والحاجة لاتخاذ إجراءات جذرية للاستفادة من حجم السوق المحلية الكبير واجباً لم يعد بالإمكان تأجيله. يعني هذا حكماً البدء باتخاذ إجراءات لمكافحة الفساد والمضاربة، والأهم إيجاد وسائل لإعادة توزيع الثروة.
لا يمكننا أن نجزم بأنّ الوضع الفيتنامي اليوم يعني بالضرورة أنّ التحركات السياسية تخدم هذا الاتجاه، ولكن بات من الواضح أنّ الاستمرار في الوضع القائم وسط الأزمات العالمية التي تشتدّ سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار السياسي في فيتنام إن لم يبدأ هذا الاتجاه بالسيادة. حتّى اقتصاديو المؤسسات الغربية يقرّون بشكل أو بآخر بذلك. فإذا ما استمعنا لما قاله المحلل الاقتصادي جون ماريت من مركز «وحدة المحللين الاقتصاديين EIU» يمكننا أن ندرك ذلك: «كان فوك أكثر وداً مع الأعمال من جميع المسؤولين الحكوميين، لكن استقالته الإجبارية لا تعني بالضرورة تحولاً عن الانفتاح الاقتصادي أمام الاستثمار الأجنبي.. بالنسبة للأمين العام للحزب الشيوعي وحلفائه، كان الرئيس المستقيل يمثّل شكلاً من الاندماج بين قطّاع الأعمال والحكومة، والذي تمّ النظر إليه كمصدر خطر للاستقرار السياسي وللحزب الشيوعي في فيتنام».
منذ فترة وجيزة وجدت فيتنام نفسها وهي ممنوعة من تصدير منتجات فائقة الأهمية لنمو اقتصادها – معدات وألواح الطاقة الشمسية – إلى السوق الأمريكية، لأنّ إدارة بايدن منعت استيراد هذه المنتجات من الصين أو أيّة مدخلات صينية فيها، «لينسوا» بذلك سلاسل الإنتاج الصناعية التي تجمع الصين وفيتنام، حيث تعتمد الصناعة الفيتنامية على المنتجات شبه المصنّعة والمعالجة أولياً في الصين. ورغم أنّ المشرّع الأمريكي قام بعد ذلك بإصدار استثناءات للمنتجات الفيتنامية، فلا بدّ أنّ المسؤولين الفيتناميين أدركوا ما قد يعنيه هذا الاعتماد بالنسبة لاقتصادهم. يمكننا أن نأخذ نقص نسبة التجارة مع الولايات المتحدة في الحسبان أيضاً، حيث سجلت نقصاً في الصادرات بقيمة «-4,68٪».
نأخذ في الحسبان أيضاً أنّه ورغم الحصار الغربي، نمت العلاقات التجارية بين روسيا وفيتنام ليزداد الاستيراد من روسيا على أساس سنوي بمعدل 80,2٪ والصادرات إليها بمعدل 5,32٪. استفادت فيتنام من الاتفاقيات بينها وبين روسيا التي جعلت الرسوم الجمركية بين البلدين تقارب الصفر، ولهذا كانت الإعلانات العام الماضي عن إنشاء خطوط نقل وشحن برية وبحرية جديدة وأكثر فعالية بين البلدين منطقية، رغم عدم رضا الأمريكيين عنها، وعدم قدرتهم على معاقبة فيتنام بسببها، إن لم يكن لشيء فلعدم دفعها نحو تحالف أشدّ مع الخصوم.
عانت مؤشرات الاقتصاد الفيتنامي العام الماضي من تأرجح وخوف المستثمرين الأجانب، وقد خفّض بنك التنمية الآسيوي تصنيف الآفاق الاقتصادية لفيتنام من 7,5٪ العام الماضي إلى 6,3٪ بداية هذا العام. سواء كان سلوك المستثمرين هذا مردّه كما يقول اقتصاديو المؤسسات الغربية: «عدم الثقة في الاستقرار السياسي»، أو أسباب أعمق مثل الأزمة العالمية ونمو العلاقات التجارية بين فيتنام وروسيا، فهذا النوع من التأرجح يقف في وجه تحقيق فيتنام لأهدافها في النمو ولرفع حصّة الفرد من الدخل. يريد المسؤولون الفيتناميون أن يستفيدوا من قدرات صناعتهم على امتصاص الكثير من المنتجات التي يسعى الغرب إلى إيجاد مورّد بديل لها عن الصين، لكنّهم يرفضون حتّى الآن أن يسمحوا للغرب بالتحكّم في مؤسسات نموهم بشكل كلي. لا يمكننا أن نجزم إن كانت التحركات السياسية الأخيرة في فيتنام هي خطوة كبيرة نحو إعادة التموضع إلى جانب قوى النظام العالمي الجديد، ولكن يمكننا أن نجزم بأنّ فيتنام بوصفها مركزاً صناعياً عالمياً هاماً لن تتمكن من تفادي تأثيرات الأزمة العالمية الرأسمالية دون هكذا خطوات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1106