هل لدى لولا «المؤهلات» اللازمة لإنقاذ الاقتصاد البرازيلي
وين يي وين يي

هل لدى لولا «المؤهلات» اللازمة لإنقاذ الاقتصاد البرازيلي

بعد عودة لولا إلى الحكم ضمن الموجة اليسارية القوية في أمريكا اللاتينية، هل لديه ما يكفي من المؤهلات كي ينقذ الاقتصاد البرازيلي، وأن يزيل مشكلة الفجوة بين الأغنياء والفقراء التي تمزق البرازيل؟ هي يمكنه أن يوقف الاتجاه الخطير للتراجع عن التصنيع الذي بدأ منذ زمن طويل؟ حاول بروفسور الاقتصاد في جامعة شنغهاي جياو تونغ الصينية، وين يي، أن يجيب عن هذا السؤال في ورقة بحثية طويلة تتناول تاريخ التطور الاقتصادي والصناعي منذ ما بعد استقلالها منذ قرابة 200 عام، إليكم أبرز ما جاء فيها:

ترجمة: قاسيون

العوامل القاتلة والجهود الضائعة

لدى البرازيل أراضٍ زراعية شاسعة وغابات مطيرة واسعة. وفقاً لبيانات 2020، تغطي الأراضي الزراعية في البرازيل 28,3٪ من إجمالي مساحة البلاد لتبلغ 237 مليون هكتار. لكن فقط 6,7٪ من هذه الأراضي مزروعة، ما يعطي البرازيل إمكانية أن تصبح «سلّة خبز» العالم في القرن 21. كما تبلغ مساحة المراعي في البرازيل ثلاثة أضعاف مساحة الأراضي المزروعة. لكن لماذا لم تتمكن البرازيل على مدى 200 عام منذ الاستقلال من النضال من أجل التصنيع من حلّ حتّى مشكلة الجوع؟ إنّه السؤال الذي لم تتمكن لا النيوليبرالية ولا الاقتصاد المؤسسي الجديد من الإجابة عنه.
تتركّز الأراضي القابلة للزراعة في البرازيل في الشرق. الاعتماد البرازيلي المفرط اقتصادياً وسياسياً على نظام العالم الرأسمالي الأوروبي وصولاً إلى القرن العشرين، وحماية حقوق الملكية الخاصة الصارمة للأرض، منعت الحكومة البرازيلية من تطبيق إصلاح زراعي يغيّر نظام أراضي المزارع الكبيرة الذي تطوّر خلال فترة الهجرة الاستعمارية الغربية والنهب، إلى نظام «الأرض للمزارعين» الذي كان بإمكانه بناء ورعاية ورشات العمل والمؤسسات الريفية القائمة على اقتصاد أصحاب الحيازات الصغيرة. الأمر الذي أدّى بالفلاحين إلى ترك قراهم والتوجّه إلى المدن بحثاً عن عمل.
لا يمكن لاقتصاديي التنمية الغربيين أن يجيبوا عن سؤال: لماذا تطور التصنيع البرازيلي ببطء في القرن 19 بينما تطوّر التصنيع الياباني بسرعة مع أنّ كلا النظامين لديهما نظام ملكية الأرض نفسه؟ لماذا تقلّصت قدرات البرازيل التصنيعية في الثمانينيات من القرن الماضي بينما تعاظمت قدرات الصين بعد الانفتاح والإصلاح؟ تنطبق الأسئلة ذاتها على سبب قدرة الصين على إدارة الاقتصاد الكلي والسياسة المالية بينما لم تستطع البرازيل لا تفادي الأزمات ولا التضخم؟
تعود المشكلة في جذورها إلى كون البرازيل قد خرقت عندما بدأت مسار التصنيع مبدأ «التنمية الجنينية» عبر فرض إقلاع صناعي ثقيل على أساس قاعدة صناعية خفيفة ضعيفة التطور. ما أدّى إلى مطبات عنيفة وأزمات ديون مستمرة وسقوط سريع. كانت فرص العمل في المدن البرازيلية الكبرى محدودة للغاية، فالصناعات المدينية الوحيدة التي تمكنت من استيعاب أعداد كبيرة من الفلاحين السابقين من ذوي المهارات المنخفضة هي صناعة المنسوجات الخفيفة كثيفة العمالة. وحتّى هذه الصناعة لم تتمكن من التطوّر وتطوير وسائل إنتاجها بسبب تكاليف الأرض وحجم العمالة، ما أجبرها على البقاء كما هي دون القدرة على المنافسة والوصول إلى السوق العالمية. أثّر هذا على كامل الاقتصاد وأبقاه إلى حدّ كبير أسير الصادرات الزراعية، وخاصة القهوة.
في ثلاثينات القرن العشرين استعانت الحكومة البرازيلية بلجنة خبراء أمريكية «Cooke Mission» لإجراء تقييم شامل للاقتصاد البرازيلي، وكانت النتيجة في محصلتها هي التوصية بدعم وتخديم قطاعات الاقتصاد الحقيقي، وتنويعه. ولهذا واعتماداً على توصيات اللجنة، وتأثراً بتجربة الاتحاد السوفييتي الناجحة للاقتصاد المخطط، فقد طبقت البرازيل إستراتيجية تنمية ناجحة في الفترة ما بين 1941 – 1961 حققت فيها نمواً هائلاً وسريعاً، وتطويراً في حجم الصناعة وتنويع المنتجات الصناعية. لكنّ إهمال تطوير الصناعات الخفيفة وإصلاح الأرض أنتج عدم قدرة على تحسين الدخل لدى غالبية السكان في البرازيل، وأدّى إلى نقص حاد في الطلب على المنتجات الصناعية في السوق المحلية، ليبدأ تأثير الدومينو الذي أوصل في النهاية إلى ملء السوق البرازيلية بالبضائع المستوردة وضرب التصنيع، حتّى في القطاع الوحيد الذي كان قوياً في البرازيل قبل الحرب العالمية الثانية: النسيج.
رغم كونها تملك موارد طبيعية وفيرة ونظاماً سياسياً منسوخاً عن الغرب، عجزت الحكومة البرازيلية عن تأمين العائدات اللازمة لتقديم اللوازم العامة التي تخدم الاقتصاد الحقيقي، بما في ذلك البنية التحتية والتعليم الأساسي والرعاية الصحية.. إلخ. لم يتمّ اتباع سياسة تنمية قادرة على تطوير البلاد صناعياً بالشكل المناسب. في الحقيقة عانت البرازيل من ديون وأزمات تضخم مستمرة منذ الستينيات، وبدلاً من تحفيز تطوير الصادرات للسلع الصغيرة والبضائع الخفيفة، خفضت الحكومة البرازيلية تكاليف استيراد المنتجات الأجنبية عبر رفع سعر الصرف بشكل صناعي، ما قلّص القدرات التنافسية للبضائع المصنّعة في البرازيل في السوق العالمية، ما أدى إلى زيادة اعتماد البلاد المفرط على الدين الأجنبي للاستثمار والأعمال.
قرابة 1980 بات الوضع كارثياً واحتاج إلى إصلاحات اقتصادية جذرية بسبب الضغوط المالية والتضخمية المحلية. ولكن بما أنّ هذا الإصلاح كان يتمّ بإرشاد من واشنطن ويعتمد على النيوليبرالية، لم يمضِ وقت طويل حتّى احتلّت بضائع ومنتجات البلدان النامية الأسواق البرازيلية، ما عنى إطلاق رصاصة قاتلة لقطّاع التصنيع البرازيلي الذي بالكاد تمكّن من البقاء حياً خلال 150 عاماً سابقة، ليقودنا إلى بداية «الرجوع عن التصنيع»، ومغادرة البرازيل نهائياً لحقبة النمو الاقتصادي المتسارع بعد الحرب العالمية الثانية، والوقوع في فخّ الدخل المتوسط الذي يجمع الدين المرتفع والتضخم المرتفع وعدم الاستقرار المرتفع والنزاع السياسي الداخلي المرتفع.
تمّ إجبار البرازيليين على أن يتضورا جوعاً في الثمانينات والتسعينيات بسبب برامج الإصلاح التي اقترحتها واشنطن. ورغم توفير هذه البرامج لبعض المال للحكومة البرازيلية كي تدفع ديونها، فقد أتى ذلك على حساب ركود اقتصادي حاد، لتزيد الأمور سوءاً ويصل التضخم في البرازيل في 1985 إلى 235٪، ثمّ في 1988 إلى 1083٪، ثمّ في 1993 إلى 2708٪. ومعه ارتفع معدل الفائدة الاسمي للديون، ليصل في 1993 إلى 3488.45٪، أيّ أنّ ما كانت تقترضه البرازيل بالدولار بداية العام كان عليها أن تعيده مضروباً بـ 3500 في نهاية العام.
ربّما الإجابة الأفضل والقادرة على تفسير الكثير: السبب الجذري هو غياب قدرة الدولة على وضع وتنفيذ سياسات اقتصادية وصناعية صحيحة في البرازيل. لم يعد بعدها مهماً من يأتي إلى السلطة، أو مدى البراعة الاقتصادية التي يتمتع بها فريقه، فطالما أنّ الإصلاحات هي نيوليبرالية يقودها السوق، ويشرف على تنفيذها خبراء دوليون توافق عليهم واشنطن، كان ذلك يعني الفشل في إصلاح الاقتصاد ونتائج مدمرة وكارثية أكثر على البرازيليين.
إنّ تراجيديا العودة عن التصنيع ليست حكراً على البرازيل، بل تشمل أيضاً الكثير من البلدان في أمريكا اللاتينية والدول الاشتراكية سابقاً وجمهوريات الاتحاد السوفييتي. إنّها السياسة ذاتها التي حولت روسيا من قوّة صناعية بارزة إلى دولة تعتمد عل تصدير المنتجات الزراعية والطاقة. لا يحتاج لولا إلى «مؤهلات» خارقة لإنقاذ الاقتصاد البرازيلي، بل إلى برامج حكومية ثابتة تبدأ القطيعة مع النيوليبرالية بشكل نهائي من البرازيل...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1106
آخر تعديل على الأحد, 29 كانون2/يناير 2023 14:11