الكينزية الجديدة واستغلال السذاجة أو التآمر «اليساري»
يحنّ الكينزيون الجدد للفقاعة الاقتصاديّة التالية للحرب، ويتخيلون بأنّ الإنفاق الحكومي يمكنه خلق عمالة كاملة وحلّ أزمة النيوليبرالية. لكنّ تحليلهم خاطئ فيما يتعلق بالماضي، وخاطئ فيما يتعلق بالحاضر، وخاطئ بشأن الرأسمالية نفسها.
لقد عادت مسألة التدخل الحكومي واسع النطاق في الاقتصاد إلى جداول أعمال الدول واحدة تلو أخرى، ولهذا فليس من المفاجئ أن يتفتّق عقل بعض الأكاديميين عن نسخة كينزية «عصريّة»، ومن بين هؤلاء مراكز أبحاث «تقدميّة» ومنظمات نقابية وأحزاب عمّالية، مثل: بعض عناصر حزب العمّال الأسترالي، والديمقراطيين الاشتراكيين الأوروبيين. مثالهم: ما قاله جون ستانفورد من «مركز أبحاث العمل المستقبلي» الذي تعامل مع النيوليبرالية بتجريد نزعها من سياقها عندما قال: «بسبب أعوام من الاقتصاد الفاشل وقمع الأجور، دخلنا إلى وباء كوفيد-19 باقتصاد بالكاد يمكنه النمو».
يتحدث هؤلاء عن أنّ الإنفاق الحكومي- في الفترة ما بين 1946 والسبعينات- قد وُجه الإنفاق الحكومي تجاه مشاريع نافعة اجتماعياً، ورفعت من نسب التوظيف المباشر في الدولة، وعززت في الوقت ذاته الأجور، وبالتالي طلبات الاستهلاك. وعن أنّ هذه السياسة قد حققت النمو وخدمات اجتماعية ذات نوعية جيدة. وبأنّ هذه الأوقات الجميلة قد انتهت بسبب السياسات النيو ليبرالية التي خفضت النمو، وفاقمت من انعدام الأمن الاقتصادي واللامساواة الاجتماعية.
العبرة من هذه القصص، هي أنّه يمكن إعادة الأوقات الجميلة إذا ما توافرت الإرادة السياسية وتمّ الاعتراف بأخطاء النهج النيو ليبرالي، الذي لم يخلق الاقتصاد المرن الذي نحتاجه. ويمكن تحقيق ذلك إذا ما تمكن الأشخاص الطيبون أصحاب الأفكار الجيدة بالفوز في المعركة السياسية، وعندها سيكون كلّ شيء على ما يرام.
عدم فهم الرأسمالية
هذه القصّة خاطئة ببساطة، وعبرتها مضللة. هناك بكل وضوح فرقٌ بين الرأسمالية الكينزية لفترة ما بعد الحرب والتغيير النيوليبرالي. ففي الكينزية كانت البطالة أدنى بالمقارنة مع معدلات التشغيل الكامل والدائم. رغم ذلك، فقد ارتفعت نسبة المشاركة في القوى العاملة كنسبة مئوية بين السكان في ظلّ النظام النيوليبرالي.
لنأخذ أستراليا كمثال: بين عامي 1971 و2001 انخفض عدد العاملين في وظيفة بدوام كامل من 89% إلى 69% من القوى العاملة. وتفاوت هذا الانخفاض بين الأقسام المتعاقبة من الرجال والنساء. أدّى هذا التغيير الاجتماعي إلى تحوّل المجتمع خلال النصف الأخير من القرن العشرين. الكثير من التغييرات مرتبطة بشكل وثيق بمشاركة الناس في سوق العمل، وبطبيعة العمل نفسه. انعكست التغييرات في الاتجاهات على مشاركة المرأة في القوى العاملة «من 37% إلى 55%» بين عامي 1971 و2001. كما ساهمت زيادة مشاركة المرأة في زيادة المشاركة الإجمالية في القوى العاملة «من 59% إلى 63%».
في الفترة ذاتها، ساهمت التغييرات في سوق العمل بانخفاض حصّة العاملين بوظيفة بدوام كامل. علاوة على ذلك شهد المجتمع الأسترالي زيادة في قطاع الخدمات، مع زيادة العاملين فيه من 57% إلى 75% بين عامي 1971 و2001. أدّى هذا إلى زيادة فرص العمل في مواقع العمل الجزئي.
نرى من هذا وبشكل جزئي، أنّه في الوقت الذي تترك فيه الخيارات السياسية للدول تأثيرها على المسارات الاقتصادية، فالكينزيون الجدد يبالغون بشكل كبير في أهمية سياسة الحكومة مقارنة بالقوى العالمية والمنهجية الأخرى.
الخطأ الأول: هو افتراض أنّ الاقتصاد يدفعه الطلب. فإذا نظرنا إلى ما قالته رئيسة مجلس النقابات الأسترالي جيد كيراني: «الأساسي الاقتصادي هو أنّ المال في جيوب الناس هو ما يحرّك الاقتصاد السليم» لرأينا مدى عمق الخطأ. الطلب مهمّ بلا شك، فإن لم تجد السلعة مشترياً لها، يذبل رأس المال ويذوي. لكن بالنسبة للأعمال، فإنّ بيع البضائع والخدمات ليس هدفاً بذاته، بل الهدف هو مراكمة رأس المال: أي: تحويل مقدارٍ من المال إلى مقدار أكبر من المال، وذلك دون نهاية. فإن لم يكن بالإمكان جني الأرباح، لن يتمكن أيّ قدرٍ من الطلب أن يحفز الإنتاج.
دافع الربح هو ما يعزز المنافسة. فالشركة التي تنتج بشكل غير فاعل إمّا تخسر الحصّة السوقية من خلال تقاضيها أسعاراً أعلى من الوسطي، أو تولّد أرباحاً أدنى من الاستثمار. لهذا تجبر المنافسة الأعمال على النمو وتكثيف الإنتاجية. يتمّ هذا من خلال ضغط العمّال أكثر «ساعات عمل أطول وأجور أدنى واستبدال شروط العمل الملائمة بالمرونة... إلخ»، أو يتم من خلال الاستثمار في الإنتاجية وزيادة التكنولوجيا والأتمتة، بحيث يصبح ذات القدر من العمالة أكثر إنتاجيّة.
وكما شرح ماركس، فعندما تطابق الأعمال الأخرى هذا الاستثمار، فالقيمة الزائدة التي تنتجها قوّة العمل– مصدر الأرباح– تنخفض بالمقارنة مع إجمالي النفقات الرأسمالية، والنتيجة تكون انخفاض معدل الربح. «للاستزادة مراجعة مقال دراسة جديدة: معدلات الربح العالمي بانخفاض مستمر المنشور في موقع قاسيون».
يمكن أخذ قطاع التصنيع الأسترالي كمثال تعليمي هنا. وفقاً «لهيئة الإنتاجية»، فتبعاً للاستثمار التكنولوجي في 2001-2002 كان هناك حوالي 1,1 مليون عامل «أقلّ بنسبة 15% من عام 1966» ينتجون ضعف المخرجات الحقيقية التي كانت تنتج في عام 1966. لكن وفقاً لتقرير الحكومة الفيدرالية في 2014، فبالرغم من النمو في الإنتاجية بين 2001 و2014 «فقد انخفض إجمالي الأرباح التشغيلية من شركات التصنيع من 9,5 إلى 7,8%».
ومع انخفاض معدلات الربح، يتردد الرأسماليون عن الاستثمار، وهو ما يسمى عادة «فرط التراكم» حيث يجعل هذا الميل من الأزمات حتمية. فزيادة الطلب، سواء من خلال الإنفاق الحكومي أو معدلات الفائدة المنخفضة، يمكنه فقط أن يؤخّر المحتوم لا أن يرده.
السياسات الحكومية ليست المسؤولة
ألم يؤدّ تدخل الدولة التالي للحرب العالمية الثانية إلى تحقيق توظيف كامل؟ الإجابة البسيطة: لا، لم يفعل.
التوظيف الكامل كان أثراً جانبياً لفقاعة لم تدم طويلاً. يخفق الكينزيون الجدد اليوم في فهم هذه النقطة. إنّهم يفرطون في التركيز على تأثير السياسات الحكومية، ويبالغون في تأثيرها على النمو ويسيئون فهم الأزمة التي وضعت نهاية للكينزية الكلاسيكية.
كمثال، كتبت سكرتيرة حزب العمال الأسترالي سالي مكمانوس في 2019: «في الاقتصادات حيث الأعمال في قطاع عام قوي متاحة، على أرباب العمل الخاصين التنافس للحصول على العمال من خلال عرض شروط عمل وأجور أفضل... لمدة ثلاثين عاماً من الحرب العالمية الثانية، أي منذ حكومة كورتين العمالية، وحتى نهاية حكومة ويتلام العمالية في السبعينات، كان لدى أستراليا مثل هذه السياسة».
المشكلة هنا أنّ الاستنتاج لا يستند إلى أرضيّة واقعية. فالحديث بين الكينزيين الجدد الأستراليين على سبيل المثال يبالغ في أمر ما يسمّى بوثيقة «الورقة البيضاء» التي كانت موجودة بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها الحلّ السحري لاستعادة الكينزية، وتخليصنا من شرور النيوليبرالية. لكن وكما أظهر البحث الأكاديمي لأنطوني أودونيل، فالورقة كانت وثيقة متواضعة للغاية تستند إلى فكرة استثمار معتدل لمواجهة التقلبات الدورية. فقد اقترحت الحفاظ على العمالة الكاملة باستخدام الإنفاق الحكومي لتعزيز الطلب، وتغذية الاستثمار الخاص. وبسبب الخوف من أنّ ارتفاع الأجور سيقود إلى التضخم، ربطت بين زيادة الأجور ومكاسب الإنتاجية.
والمشكلة الأكبر في طرح هؤلاء، أنّ هذه الوثيقة لم توضع موضع التنفيذ بين الحرب العالمية الثانية والسبعينات. فكما أظهر إيفان جونز من جامعة سيدني، فتدخل الدولة كان براغماتياً ومتناقضاً في أغلب الأحيان، وركّز على مشاكل محددة، وليس على المشكلة الرئيسة. مثال: الحكومة العمّالية رفضت آنذاك مطالب النقابات للقيام بالسيطرة على التضخم.
في واقع الحال، وكما شرح جونز بشكل وافٍ، فالتدخل الحكومي لم يلعب إلّا عاملاً ثانوياً في الفقاعة التالية للحرب، فالرئيس في إنتاج هذه الفقاعة هي عوامل أخرى متعددة محلية ودولية. لقد وثّق بروس مكفارلن الدور الرئيس للشركات الأمريكية متعددة الجنسيات في عقود النمو المرتفع في العالم الغربي. هذه الشركات، والتي كانت تقبع في حينه في قلب الاقتصاد العالمي، ضخت رأس المال في العالم الغربي بشكل جزئي، لأنّه كان ممّا تعدّه هذه الشركات آمناً سياسياً. وقد تمّ تمويل تدفق رأس المال هذا من خلال الاستغلال الفائق في العالم الثالث.
وكما قال كيفين راولي عن أستراليا في حينه، الأمر الذي ينطبق على كامل العالم الغربي تقريباً: «استفادت أستراليا من الظرف الدولي الذي عزز التدفق الهائل للعمالة ورأس المال والتكنولوجيا، وسمح لمصدّري الإنتاج الأساسي والمعادن بالازدهار». وكما أشار راولي، فقد تمّ استخدام الرسوم الجمركية لحماية الصناعات المحلية كأداة لتشجيع استثمارات رأس المال الأمريكي.
النيو ليبرالية لم تأتِ من العدم
يتجاهل الكينزيون الجدد، عمداً أو سهواً، أنّ النيوليبرالية قد صعدت أساسياً كاستجابة للأزمة الاقتصادية التي شملت زيادة التضخم والبطالة وركود النمو «والتي يشار إليها مجتمعة باسم الركود التضخمي».
بشكل عام، نتجت أزمة السبعينات عن عاملين، الأول: كان الميل نحو فرط التراكم الذي تحدثنا عنه. وفي الوقت نفسه أدّت المستويات القياسية من النضال العمالي، والحركات الاجتماعية القوية إلى ارتفاع الأجور والفوز بدولة الرفاه. وبالاجتماع مع تكاليف حرب فيتنام، قلّصت هذه العوامل الأرباح وأبطأت الاستثمار. لم يساوِ نمو القوة الشرائية المخرجات المتنامية، ما أدّى لارتفاع الأسعار.
في الولايات المتحدة بين عامي 1966 و1970، تهاوت حصّة أرباح الشركات من الناتج المحلي الإجمالي GDP من 11% إلى 7,1%. لكن بين عامي 1967 و1972 ارتفعت الأجور بنسبة 15%. تسارع الإنفاق الاجتماعي من 25% إلى 50% من الإنفاق الفيدرالي بحلول 1978. كما ارتفعت موازنة الدولة، كنسبة من الناتج الوطني الإجمالي GNP، من 18% إلى 24% في ذات الفترة.
وكما أشار ليو بانتش وسام غيندن، فبحلول 1970 كان معدل الربح في الولايات المتحدة قد انخفض بالفعل بنسبة 40% من أعلى مستوى له في منتصف الستينات. ويمكن شرح هذا الميل بالإشارة إلى ارتفاع الأجور وانخفاض الفاعلية في الاستثمار في الأتمتة، لنلاحظ بأنّ كلا العاملين متصلان بشكل وثيق بالصراع الطبقي في أماكن العمل.
يمكننا ملاحظة ذات الميل في بقية البلدان الغربية، ومنها أستراليا. فبين عامي 1972 و1975، ارتفعت حصة العمال من الدخل الوطني من 55 إلى 62%. هذا يتداخل مع تقلّص الأرباح في السبعينات. في دوائر الأعمال النخبوية، السياسية والإعلامية منها، كان من المقبول بشكل متزايد أنّ ارتفاع الأجور الحقيقية كان هو سبب المأزق في أستراليا، وأكثر من ذلك أنّ إخماده هو الحل.
إنّ ما ندعوه بالنيوليبرالية كان مجرّد استجابة للتطورات. علاوة على ذلك فقد بدأ تطبيق هذه السياسات في ظلّ قيادة رئيس الوزراء من حزب العمال غوخ ويتلام. ففي النهج الذي يصفه همفري بأنّه «التمهيد للنيوليبرالية» قام ويتلام بتخفيض الرسوم الجمركية وسعى إلى التضخم عبر فرض قيود على الأجور. وفي نهاية المطاف قامت حكومة حزب العمّال في 1983 بتقييد الطبقة العاملة عبر قانون الدخل، الذي قيّد النقابات واستعاد بشكل مؤقت مستويات الربح.
أمام كينزيّة جديدة؟
الوضع اليوم في الكثير من البلدان الغربية، ومثالها أستراليا، يشبه بشكل كبير الوضع الذي كان سائداً في الحقبة التالية للحرب: فالاقتصاد الأسترالي لا يزال يعتمد على الصادرات وتدفق رأس المال. لكن الوضع الاقتصادي العالمي اليوم يختلف بشكل كلّي عمّا كانت عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية. شهدت الحرب تدمير رأس المال والقدرة المنتجة على نطاق واسع. بينما اليوم لدينا فرط تراكم هائل في الاقتصاد العالمي. أدّت القدرة التصنيعية الزائدة إلى تقليص الطلب على العمالة، ما أدّى إلى تراجع التصنيع وانتشار العمالة الناقصة.
كما أشار آرون بيناناف: «إن كان خطاب الأتمتة يستأنف بشكل واسع اليوم من جديد، فالسبب يعود إلى أنّ عواقب الأتمتة تحيط بنا من كلّ الجوانب: الرأسمالية العالمية فشلت بشكل جلي في منح الوظائف للناس التي تحتاجها. بتعبير آخر: هناك تدنٍ مستمر في الطلب على العمالة، وهو ما لا ينعكس فقط في ارتفاع معدلات البطالة والانتعاشات المتزايدة بلا وظائف– وكليهما يتم الاستشهاد بهما من قبل منظري الأتمتة– بل أيضاً ينعكس في ظاهرة ذات عواقب أكثر عمومية: تقلّص حصّة العمّال من الدخل. العديد من الدراسات تؤكد اليوم بأنّ نصيب العمالة، الذي اعتبر ثباته معبراً عن واقع النمو الاقتصادي، قد استمر بالانخفاض على مدى عقود». يمكننا رؤية ذلك في الجدول:
لكن هل الأتمتة هي سبب انخفاض الطلب على العمالة؟ ليست كذلك.
ففي الوقت الذي ساعد فيه نمو التمويل، مدعوماً من البنوك المركزية، على إبقاء تدفق الأرباح، فهو لم يفعل الكثير لتعزيز الاستثمار والتشغيل. أي: إنّ الظروف الاقتصادية الدولية التي حفزت الفقاعة التالية للحرب لم تعد موجودة اليوم.
النظام معطّل، ما أدّى إلى نمو مذهل في البطالة. حتّى لو استطاع الكينزيون الجدد من «اليسار» وغيرهم التوافق والوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، فلن تؤدي سياسات التدخل الحكومي التي يروجون لها للنتائج المرجوة، فالمشكلة اليوم أعمق وأكثر تهديداً.
على اليسار والحركات العمالية بكل تأكيد أن تطالب بإجراءات عاجلة لتحسين الظروف السيئة للعمّال، وزيادة قوّتهم وكرامتهم واستقلالهم عن رأس المال. لكننا سنواجه حداً صارماً متأصلاً في منطق التراكم الرأسمالي. ولهذا فدون تحويل جذري للعلاقات التي تحكم الإنتاج، فالأشخاص ذوو النوايا الطيبة سيتم سحقهم بواقع الرأسمالية.
بتصرّف عن:
In Australia, Keynesianism Is Back in Fashion — but It Still Won’t Work
The falling share of Profits
Australia’s Resource Industry – A Look into the Crystal Ball
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 987