العسكرة تدمر الأرض وتلوّث السماء
التغيّر المناخي مستمر، ويمكننا تلمسه من خلال التغييرات الكبيرة في أنماط الطقس، حيث الفيضانات المميتة والجفاف وحرائق الغابات. والأدلة أكثر من كافية على أننا نزيد باستمرار من انبعاثات غاز الدفيئة في طبقات الجو لدينا، وخاصة ثاني أكسيد الكربون والميثان اللذين ينتجهما نظامنا الاقتصادي العالمي المعتمد على الوقود الأحفوري.
نزل الملايين من البشر الذين أدركوا العواقب المميتة للاحتباس الحراري إلى الشوارع ليطالبوا الحكومات بأن تتخذ إجراءات حقيقية لإنهاء استخدامنا للوقود الأحفوري كجزء من تحوّل اقتصادي واسع النطاق وهائل من شأنه أن يضمن تحولاً عادلاً لجميع المجتمعات وأفرادها.
ولم تكن الولايات المتحدة بمنأى عن نشاط الحركات الجماهيرية التي استهدفت صناعة الوقود الأحفوري والقادة السياسيون الذين يستمرون في مقاومة الجهود الهادفة لتعزيز أنماط أكثر استدامة وأكثر عدلاً، سواء من الطاقة أو النقل أو الزراعة أو الإسكان، وهي أكبر مولدات لانبعاثات غازات الدفيئة التي تستمر بالطيران فوق الغيوم بعيداً عن أعين العامة. وكما أعلنت نيتا كروفورد، المديرة المساعدة في برنامج تكاليف الحرب في جامعة براون في دراستها الحديثة عن البنتاغون واستخدامه للوقود وتغيّر المناخ: «وزارة الدفاع الأمريكية هي أكبر مستخدم مؤسساتي في العالم للبترول، وعليه فهي أكبر منتج مفرد لغازات الدفيئة في العالم».
فوق الغيوم
تملك الولايات المتحدة ميزانية إنفاق عسكري أضخم وأكبر من الإنفاق العسكري للدول السبع التالية مجتمعة: الصين وروسيا والهند وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والمملكة السعودية. تسيطر ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية وحدها على أكثر من نصف الإنفاق في الموازنة الفدرالية الأمريكية كلّ عام. ونضيف إلى ذلك الإنفاق على نشاطات الأمن القومي والأسلحة المشتملة في ميزانيات الوزارات الأخرى، مثل وزارة الطاقة. وتصل حصة الميزانية العسكرية إلى ثلثي جميع الإنفاقات المتوفرة.
إنّ هذا النوع من المعلومات متاح الاطلاع عليه بسهولة، لكنّ إسهام الجيش الأمريكي في زيادة ظاهرة الاحتباس الحراري ليس بهذه السهولة. أحد الأسباب لذلك هو الضغط الحكومي، فعندما فاوضت الحكومة الأمريكية على بروتوكول كيوتو للمناخ اشترطت كي توافق، أن يتم استثناء الانبعاثات التي تتولد بسبب النشاط العسكري من حساب الانبعاث الوطني، وألّا يتمَّ التبليغ عنه. ورغم أنّ حكومة الولايات المتحدة لم توقع أبداً على بروتوكول كيوتو فقد بقي الاستثناء موجوداً في الاتفاقية. وربّما هذا هو السبب في أنّ الفريق الحكومي الدولي المعني بالتغير المناخي لم يشمل الانبعاثات التي تسببها الجيوش الوطنية في حساباته. ورغم أنّ اتفاق باريس قد أزال هذا الاستثناء، فالحكومة الأمريكية ستنسحب من التزاماتها بموجب هذا الاتفاق بدءاً من عام 2020.
الكشف عن الكربون العسكري
رغم أنّ الجيش الأمريكي لا يعلن للعامّة استخدامه للوقود، فقد قام أربعة من الباحثين- أوليفر بيلتشر وبنجامين نيمارك وباتريك بيغر وكارا كينلي- بنشر تقريرٍ يزودنا بتقديرات ملائمة، مستخدمين البيانات التي يوفرها قانون حرية المعلومات الواجب على الوكالة اللوجستية للدفاع الأمريكية أن تقدمها.
الوكالة اللوجستية للدفاع الأمريكية «DLA» مسؤولة عن مراقبة سلاسل المؤن التي تدعم جميع الأنشطة العسكرية، ومن ضمنها العمليات الحربية، وعمليات الحفاظ على السلام وسير القواعد العسكرية الداخلية والخارجية. وهناك ضمن هذه الوكالة وحدة الطاقة المسؤولة عن إدارة متطلبات الجيش من الطاقة. وبحسب كلمات الباحثين الأربعة: «وحدة الطاقة التابعة للوكالة اللوجستية للدفاع هي المتجر الوحيد الذي يؤمن مشتريات الوقود وعقوده في الجيش الأمريكي، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، ويعمل مثل سوق داخلي للجيش الأمريكي لجميع المواد الاستهلاكية بما في ذلك الوقود».
بكلمات أبسط: يحتاج الجيش إلى الوقود- لتطيير المقاتلات والمدمرات في مهمات الاستطلاع والمهام الحربية ولإيصال القوات والأسلحة للقواعد ومناطق الاشتباك، ولتشغيل السفن من أجل المناورات. وتشغيل المركبات التي تعمل على البترول وتفعيل القوات المقاتلة وصيانة القواعد وإدامة عملياتها في الداخل وحول العالم. ولأنّ الوكالة اللوجستية هي من تؤمن وتوزع الوقود المطلوب، فقد استخدم الباحثون الأربعة قانون حرية المعلومات ليكشفوا عن بيانات وسجلات الوكالة لجميع عمليات شراء الوقود المعروفة للمركبات الجوية والبحرية والبرية، وكذلك عن عقود الوقود الموقعة مع المشغلين في الجيش الأمريكي في القواعد والمعسكرات والمحطات والموانئ العسكرية الخارجية ما بين عامي 2013 و2017. وكانت الحسابات النهائية التي نجمت عن معلومات مشتريات الوقود واستخدامه بمثابة الأساس الذي تمّ عليه تقدير توليد الجيش الأمريكي لانبعاثات غازات الدفيئة.
تشغيل الجيش الأمريكي للوقود
لقد نما اعتماد جيش الولايات المتحدة على الوقود بشكل هائل مع مرور الوقت، ومردّ ذلك بشكل كبير إلى طبيعة التطوير المستمر لمنظومات الأسلحة وإستراتيجيات العمليات الحربية. مثال: إنّ الاستخدام الوسطي للوقود من قبل الجندي الأمريكي الواحد قد نما من غالون واحد يومياً «الغالون = 3,8 لتر» أثناء الحرب العالمية الثانية إلى تسعة غالونات في اليوم عند نهاية حرب فيتنام إلى 22 غالون يومياً في الحروب التي حصلت في العراق وأفغانستان.
أحد الأسباب من وراء هذا المسار التصاعدي، هو أنّ جيش الولايات المتحدة قد وصل إلى نقطة الاعتماد أكثر فأكثر على القوة الجوية لتوجيه أو للتهديد بالهجوم على الأهداف، وكذلك بفعل الدعم اللازم لها من قبل القوى الأرضية الثقيلة التي تعمل في البلدان الأجنبية «صواريخ ومدفعية... إلخ». فكما شرح كروفورد الأمر: «يستهلك الجيش الأمريكي طاقة بهذا القدر لأنّه يعتمد على أدوات حرب تستهلك الوقود بمعدلات هائلة... والمعدات والمنشآت اللوجستية والقواعد التي تدعم استخدام هذه الأدوات الحربية تعمل باستخدامات وقود كثيفة للغاية».
وقد أورد كروفورد مثالاً عن ذلك هو استهلاك القاذفة B-2 للوقود عند 4,28 غالون في الميل «1 ميل = 1,6كلم». بينما استهلاك الوقود للقاذفة المقاتلة F-35A هو 2,37 غالون في الميل. وحتّى المركبات غير المسلحة للجيش هي غير فاعلة من ناحية استهلاك الوقود. فعلى سبيل المثال، مركبات الهمرز البالغ عددها 60 ألفاً الباقية في أسطول الجيش الأمريكي، تستهلك غالوناً من وقود الديزل لكلّ أربعة إلى ثمانية أميال تقطعها.
وليس بنا حاجة للقول بأنّ الجيش يحرق الكثير من الوقود ضمن جدول عمله شديد الكثافة. فكما أشار الباحثون الأربعة: «بين عامي 2015 و2017، كان الجيش الأمريكي نشطاً في 76 بلداً، ومنها سبعة بلدان يتم الهجوم عليها عبر الجو بالطائرات أو بالطائرات المسيرة بلا طيار، و15 بلداً فيها قوات عاملة على الأرض، و44 قاعدة عسكرية في الخارج، و56 بلداً تتلقى تدريبات على ما يسمى بمكافحة الإرهاب.
الأثر الكربوني للجيش
توصّل الباحثون الأربعة إلى أنّ: «جيش الولايات المتحدة يستهلك وقوداً مسالاً أكثر، ويبعث غاز ثاني أكسيد كربون مشبعاً أكثر من الكثير من الدول ذات الحجم المتوسط». فعند مقارنة استهلاكات الوقود المسال لعام 2014 بين البلدان والجيش الأمريكي، ظهر أنّ جيش الولايات المتحدة يقف من حيث المرتبة «إن تمّت معاملته كدولة» بين البيرو والبرتغال. إنّ انبعاثات غاز الدفيئة الصادرة عن الجيش الأمريكي لعام 2014، فقط من استخدامه للوقود، كان مساوياً تقريباً للانبعاثات التي صدرت من جميع أنواع المصادر، أي ليس من الوقود فقط، لرومانيا». وتبعاً لإحصاءات عام 2014 أيضاً: يقع الجيش الأمريكي، ومن جراء استخدامه للوقود وحسب، في المرتبة 47 كأكبر مصدر انبعاث لغازات الدفيئة في العالم، وليس بعيداً في مركزه هذا عن الكثير من الدول الأخرى المتقدمة عليه في المراتب.
وسيحتل جيش الولايات المتحدة مرتبة أكبر كمصدر انبعاثات غاز الدفيئة لو تمّ تشميل مصادر الانبعاث الأخرى غير استهلاك الوقود المسال، كما هي الحال في استخدام الكهرباء والغذاء المخصص لاستخدام الجيش، أو استخدام الأراضي وتغييرها جرّاء العمليات العسكرية. وبالطبع لا يشمل أيّاً من هذا الانبعاثات من الشركات الكثيرة التي تعمل فقط كمصنّعة لأسلحة الجيش. في 2017، اشترى الجيش الأمريكي حوالي 269,230 برميل نفط يومياً، وأصدر انبعاثات 25,375 كيلوطن غاز ثاني أكسيد كربون مشبع جرّاء إحراق هذا الوقود.
أحد الأسباب التي تجعل من الجيش الأمريكي أحد أكبر مصادر غاز الدفيئة في العالم هو أنّ معظم وقوده هو من الوقود الذي يستخدم في الطائرات التي يتم شراؤها من قبل القوات البحرية أو الجوية. إنّ طائراتهم تحرق الوقود بمعدلات تصاعدية هائلة، ما ينجم عنه تفاعلات كيميائية متنوعة وينتج احتباساً حرارياً أكثر باثنين إلى أربعة أضعاف التفاعلات التي تحدث في الأرض.
التعتيم كآلية ممجوجة
هناك دراستان حديثتان أشارتا عن قرب إلى الأثر الذي تتركه العسكرة والجيش الأمريكي على المناخ. إحداها هي «استخدام البنتاغون للوقود والتغير المناخي وتكاليف الحرب» والتي أعلنت بأنّ البنتاغون مسؤول عن حوالي 77 إلى 80% من استهلاك حكومة الولايات المتحدة للطاقة منذ عام 2001، بحيث قدرت أنّ الجيش الأمريكي مسؤول عن انبعاث قرابة 1,2 مليار طن مكعب من ثاني الأكسيد الكربون وما يشبهه. والدراسة الثانية هي «تكاليف الكربون المستترة» التي أشرنا إليها أيضاً فيما سبق.
لكن ورغم أنّ هاتين الدراستين، ناهيك عن غيرهما، لم تتلقَّ في الواقع أيّة تغطية إعلامية من جميع وسائل الإعلام الكبرى المملوكة للشركات من صحف وتلفزيونات وقنوات أخرى. أظهر بحث البيانات الذي أجرته شبكة نيكسس بأنّ نيويورك تايمز وول ستريت جورنال وواشنطن بوست ولوس أنجلس تايمز وإن.به.أر وبه.بي.سي وإ.بي.سي وإم.إس.أن.بي.سي. وسي.بي.أس وسي.أن.أن لم تتطرق للموضوع لا من قريب ولا من بعيد.
كما أكد بحث نيكسس الموسع أنّ وسائل الإعلام التي لديها القدرات الأفضل على تغطية مثل هذه الأحداث من ناحية الموارد حاولت أن تدفنه حياً.
وربما الأهم ممّا وصلت إليه هاتان الدراستان ويجب إخفاؤه هو أنّ كليهما وجدا بأنّ: «الطائرات العسكرية والسفن الحربية الموجودة (والتي يستمر بالتعاقد عليها) تحبس الجيش الأمريكي في دائرة استهلاك الهيدركربون لسنوات كثيرة قادمة... وبأنّ البنتاغون لا يعترف بأنّ استخدامه للوقود يشكّل مساهمة رئيسة في التغيّر المناخي». لا يجب أن يفاجئنا هذا الأمر بشيء، فإن توقعنا أن تقوم وسائل الإعلام هذه بعرض هذه الأدلة وعدم محاولة دفنها، يعني أننا نتوقع أن تحاول قتل نفسها. ولهذا تقوم هذه الوسائل بإخفاء أنّ الجيش الأمريكي يشكل تهديداً على العالم وعلى الشعب الأمريكي نفسه عبر كونه مصدراً هائلاً للكربون.
ازدياد الإنفاق العسكري
وفقاً لبيانات مؤسسة ستوكهولم الدولية لأبحاث السلام، يقدّر الإنفاق العسكري العالمي بأنّه كان عند 1822 مليار دولار في عام 2018. وهو أكبر بمعدل 2,6% ممّا كان عليه في عام 2017، وأكبر بمعدل 5,4% ممّا كان عليه في عام 2009، وأكبر بنسبة 76% مما كان عليه في عام 1998.
بقيت أكثر 15 دولة تنفق على العسكرة في العالم على حالها بين عامي 2017 و2018، مع استثناء مثير للاهتمام، أنّ روسيا لم تعد من بين أكبر خمسة منفقين على العسكرة لأول مرة منذ عام 2006. أكبر خمسة منفقين لعام 2018 هم الولايات المتحدة فالصين فالسعودية فالهند ففرنسا، والتي يشكل إنفاقها نسبة 60% من الإنفاق العسكري العالمي. وكما رأينا سابقاً تنفق الولايات المتحدة أكثر من هؤلاء مجتمعين بالإضافة إلى ألمانيا وروسيا وبريطانيا.
ازداد إنفاق الولايات المتحدة العسكري مبلغ 649 مليار دولار في عام 2018، أي بنسبة 4,6%، وتبقى الولايات المتحدة المنفق الأكبر ليشكل إنفاقها العسكري نسبة 36% من الإنفاق العسكري العالمي في عام 2018. وتأتي وراءها الصين بتخصيصها مبلغ 250 مليار دولار للإنفاق العسكري في عام 2018، وهو ما يمثّل نسبة 14% من الإنفاق العسكري العالمي، وليشكّل زيادة بمعدل عشرة أضعاف عن إنفاقها العسكري عام 1994.
إدراك الأمر لا يكفي
الجيش من أكثر المؤسسات المدركة لحقيقة التغيَّر المناخي ومخاطره- وذلك خلافاً للكثير من القادة السياسيين الذين يحاولون الاختباء وراء أصابعهم. أحد الأسباب كونه يدرك هذا الخطر، وأنّ هذا التغيّر يهدد جهوزيته العملياتية. يشرح كروفورد: «في بداية 2018، أصدرت الوكالة اللوجستية للدفاع تقريراً عن كون قرابة نصف منشآت الجيش قد اختبرت آثاراً متعلقة بالتغيّرات المناخية. بعد عام من ذلك أصدرت الوكالة تقريراً تعلن فيه أنّ جيش الولايات المتحدة يختبر بالفعل مئات الآثار للتغيّر المناخي على طول تواجد منشآته. يشمل هذا الفيضانات المتكررة «53 منشأة» والجفاف «43 منشأة» وحرائق الغابات «36 منشأة» والتصحر «6 منشآت»».
لكن والأهم من ذلك، أنّ الجيش يرى في التغيّر المناخي تهديداً للأمن القومي الأمريكي. فلسنوات عديدة أخذ الجيش في الاعتبار آثار التغير المناخي على خططه الدفاعية، وكما يشير تقرير حديث صادر عن مكتب مدير المخابرات الوطنية: «إنّ التشوه الإيكولوجي والبيئي، مثل التغير المناخي، هو غالباً ما يوقد المنافسة على الموارد والأزمات الاقتصادية وعدم الرضا الاجتماعي خلال عام 2019 وما بعده». ولكن رغم هذا فلا يزال الجيش الأمريكي ملتزماً ضمن خططه وردود أفعاله على التهديدات على الولايات المتحدة بتعزيز ذات الأفعال التي أدّت في المقام الأول إلى تعظيم آثار الفوضى المناخية.
باختصار: الناس مُحقّون بمطالبة الحكومة باتخاذ خطوات عاجلة وذات مغزى لإيقاف الاحتباس الحراري. ويجب أن تشمل هذه الخطوات تخفيضات كبيرة في الإنفاق العسكري، وكذلك التدخلات والتواجد العسكري الأمريكي في الخارج. فبما أنّ الجيش الأمريكي هو أكبر مَصْدرٍ منفرد لغازات الدفيئة في العالم، فالكفاح لاحتواء العسكرة في الداخل والخارج أمرٌ بالغ الأهمية. ومن المنافع الأخرى لمثل هذه الخطوات، أنّ المال الذي سيتم توفيره يمكن استخدامه في قضايا جيدة، مثل تمويل التحول واسع النطاق في النظام، الأمر المطلوب لخلق اقتصاد يلبي الاحتياجات البيئية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 939