التكنولوجيا والعمّال: نقمة رأسمالية ونعمة اشتراكية!
يشهد عالم العمل اليوم صعود وتطور صيغ عمالة جديدة كلياً، وبعض هذه الصيغ متصل بشكل مباشر بصعود ما يسمّى «الاقتصاد الرقمي»، وهو مصطلح مطّاط يضم داخله الأتمتة والتحوّل إلى الروبوتات، وكذلك المنصات الرقمية. ليس هذا النوع من التطوّر التكنولوجي سيئاً على العمّال بحد ذاته، ولكنّه يضحي كذلك إذا ما كانت القوى الرأسمالية هي من تسيطر عليه وستستخدمه في تثبيت سيطرتها على الإنتاج وعلى تقسيم العمل. إنّ البنى المجتمعية، سواء في الدول المتقدمة أو الدول النامية، عرضة للمزيد من اللامساواة والفقر والتدهور الاجتماعي إذا ما استمرّت الطبقات الرأسمالية بالسيطرة على مسار واستخدام التطور التكنولوجي.
إعداد: عروة درويش
بعض صيغ العمالة الافتراضية
يُستخدم مصطلح العمل أو العمالة الافتراضية للإشارة إلى جميع أنواع العمل التي يتم إجراؤها سواء في المنزل أو في أحد الأماكن العامة أو في أيّة بيئة عمل غير تقليدية باستخدام الإنترنت أو الكمبيوتر أو أيّة أداة تعتمد على تكنولوجيا المعلومات.
يعتبر كلّ من «العمل الحشدي Crowd working» و«العمل على الطلب on-call» من أشهر صيغ العمل الافتراضي، وهو العمل الذي يتم عبر منصات رقمية تسمح للمنظمات أو للأفراد بالتواصل عبر الإنترنت مع منظمات أو أفراد آخرين غير معروفين مستعدين لحلّ مشكلة معينة، أو تزويدهم بخدمات أو منتجات معينة مقابل مدفوعات مالية. إنّ هذه المنصات «مثل: كليك وركر أو أمازون ميكانيكال ترك» هي نوع من السوق للمهام الصغيرة في مجالات مثل: تصميم المواقع الإلكترونية، أو التصميم، أو تمييز الصور، أو معالجة البيانات، أو تشفير الصوت... إلخ.
قد يكون العاملون في هذا المجال محترفين ماهرين يبحثون عن دخل إضافي، وقد يكونون أشخاصاً بلا عمل أو حتّى طلاباً جامعيين. يقوم العمل الحشدي بوضع العمّال في منافسة مفتوحة بدون النظر إلى كونهم مبتدئين أو محترفين. يمكن رؤية هذا الأمر بشكل واضح عندما يوضع عمل أحدهم في مزايدة «مثل: تصميم شعار» ولا يتلقى أية مدفوعات عليه ما لم يفز.
إنّ آثار هذا النوع على ظروف العمل تميل لتكون سلبية. فهي تخفض الأجور بشكل هائل لدرجة إيصاله إلى القاع، وخاصة بعدم تمييزها لمكان أداء العمل يصبح حوض العمّال المتنافسين المحتاجين إلى العمل أكبر بكثير، ومستعدين لقبول أدنى الأجور. كما يعاني العمال، وهم الذين لا يعترف بعلاقة العمالة معهم، من نقص الحماية ومن شبه فقدان وسائل حفظ حقوقهم الأساسية. كما أنّ العمال في هذه المنصات عرضة للشعور بالعزلة والضغط لكونهم وحدهم مسؤولين عن تنظيم العمل. وهذه الأنواع من الأعمال تلغي الحدود بين مفاهيم العمل والحياة العادية لتقوم بالهيمنة على أوقات العمال بشكل كلي.
يحاول المدافعون عن هذا النوع من الأعمال الإشارة إلى كونه يوفّر العمل لأولئك الذين لم يتمكنوا من إيجاد عمل بالطريقة التقليدية، أو للمعوقين الذين يصعب عليهم التحرك إلى أماكن العمل وخاصة في البلدان غير المتقدمة. وفي بعض الأحيان يدافع البعض عن المرونة رغم أنّ هذه المرونة، ليست عاملاً يُعتدّ به إذا ما أخذنا التعدي على الحياة الخاصة للعمال بالاعتبار. لكنّ جميع هذه الإيجابيات لا تعادل سلبية تهشيم معايير العمالة.
كما أنّ هذه المنصات، ورغم أنّها هي من يضع شروط العمل ووسائل الدفع ويضع الإعلانات في بعض الأحيان، فهي ترفض تعريف العاملين لديها كعاملين، متهربة من المسؤوليات الاجتماعية تجاههم ومن دفع الضرائب. فتطلق عليهم تسمية «متعاقدين». إنّ أشهر مثال على مثل هذه المنصات هي «أوبر Uber»، منصة النقل والتوصيل وغيرها. هناك أمام المحاكم الكثير من القضايا حول تعريف الأشخاص العاملين لدى أوبر، هل هم عاملون أم متعاقدون؟ وسواء تعلّق الأمر بأوبر أو بالكثير غيرها، مثل: فودورا، لم يعد اللجوء إلى القضاء والمحاكم خياراً، فقد تفادت مثل هذه الإجراءات عبر النص في الشروط التعاقدية على شرط التحكيم.
نشرت «الوكالة الأوربية للسلامة والصحّة في العمل» منذ وقت قريب لائحة مطولة جداً عن المخاطر على السلامة والصحة المرتبطة بصعود العمل الحشدي. ميزت هذه اللائحة بين المخاطر البدنية المرتبطة بالعمل على الشبكة «مثل: العمل المعتمد على الشاشة ونقص وسائل الراحة والتوتر... إلخ»، وتلك المرتبطة بنقص الشفافية كونها منظمة في الواقع عبر منصات رقمية «قيادة تكسي أو تولي خدمة عدد هائل من الزبائن... إلخ». كما تضمنت اللائحة عناصر خطر نفسية قصيرة وطويلة الأمد لا يمكن في الواقع منعها ضمن إطار العمل الحالي المتبع.
في دراسة لإراني وروبرت تمّ نشرها عام 2015، لفت المؤلفان النظر إلى أنّ هذه المنصات تحمل خطراً شديداً على العمّال فيها، يتمثل في تعرضهم المستمر- عبر المنصة نفسها أو وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة التي تخدمها- إلى عدد لا منتهٍ من النصوص والصور والفيديوهات التي تحوي العنف والوحشية والسادية والإباحية والانحرافات الجنسية المتنوعة، مثل: الرغبة بالأطفال... إلخ. إنّ هذا المحتوى غير القابل للمراقبة يؤثر على صحتهم العقلية وعلى تأقلمهم الاجتماعي.
إنّ الاستيلاء على النتاجات الفكرية والأدبية للعاملين في هذه المنصات هو أمر شائع كذلك، ويسبب بدوره مشكلة كبرى لكونه أحد الأشكال الجديدة للاستيلاء على القيمة الموجودة في صلب نمط العمل الرأسمالي. كمثال على ذلك يمكننا ذكر قيام منصة الصور «فوتوليا Fotolia» بدفع ثمن الصور يورو واحد، ثمّ إعادة بيع هذه الصور بقيمة تتجاوز ألف ضعف السعر الذي دفعته بها. لم تقم هذه المنصات لا بالاستثمار في أدوات التصوير ولا في التكاليف التي يتحملها المصور ولا في تنمية مهاراته. لقد قامت ببساطة بالاستيلاء على الصور وضرب أيّ حقّ ملكية يخول المصورين المطالبة بجزء عادل من ثمن نتاجهم الفكري.
كما بينت دراسة رافنسدوتير عام 2014 بأنّ مثل هذه المنصات والتغييرات التي حملتها ليست حيادية فيما يخص الجنس. أولاً: لأنّ الكثير من النساء يلعبن أدواراً وسيطة تتلقى ضربات قاسية من العمل في المنصات، سواء من حيث عدد الوظائف أو من حيث طبيعة هذه الوظائف. ثانياً: لأنّ النساء عموماً لا يزلن أقلّ تمثيلاً في قطاع المعلوماتية وتطور البرامج والتطبيقات ليتمكن من المساهمة في تحديد الأعمال التي يقمن بها. ولكن ومن منطلق أكثر عملية، فإنّ ما يعوّل عليه بأنّه «مرونة» في أوقات العمل يحمل معانيَ مختلفة بالنسبة للرجال والنساء. فهذه الأعمال تعيد إنتاج علاقات السطوة التقليدية التي تميّز بين الرجال والنساء. فهي لا تلعب دور المحايد، بل تشجع النساء على قبول العمل بشكل هامشي من أجل الحفاظ على أدوارهن ومهامهن العائلية. هذه المنصات الرقمية توفّر أرضية لتعزيز تقسيم الأدوار التمييزية بين الجنسين بتوفيرها عمل هامشي بأجور منخفضة للنساء دون أن تهدد زيجاتهم والأفكار التقليدية عن كونهن أمهات جيدات.
الروبوت واستبدال العمّال
على مدى السنوات العشر الأخيرة تحديداً، تسارع التطور التكنولوجي في الكثير من المجالات: «الغيوم Clouds» لتخزين كميات هائلة من المعلومات بغض النظر عن التوضع الجغرافي، وكذلك تقنيات «المعلومات الكبرى Big data» التي غيّرت أساليب معالجة البيانات وجمعها. لكن من أكثر التطورات التكنولوجية التي يحتدم الجدل حول تأثيراتها على المجتمع، وأماكن العمل هي الروبوتات والآلات ذاتية التعلّم وشبه ذاتية التعلم. فرغم أنّ أفكاراً مثل: حلول الآلات محل البشر في أماكن العمل لا تزال أفكاراً غير ناضجة، فإنّ المهام التكميلية الملقاة منذ الآن على عاتق هذه الآلات تجعلنا ننظر إلى العلاقة المعقدة بين التكنولوجيا والعمل بشيء من الاهتمام. فالابتكار الاجتماعي موجّه اليوم نحو تراكم الثروة في يد أصحاب اليد الطولى في تطوير وابتكار هذه الآلات الذكية.
نرى اليوم تحوّل مصانع شبه خاوية من العمال تديرها برامج الكمبيوتر إلى حال طبيعية، وليس ذلك مقتصراً على البلدان المتقدمة صناعياً، بل يمتدّ إلى البلدان النامية كذلك. ورغم أنّ الأمر لا يمكن تعميمه على جميع قطاعات الأعمال، يمكننا أخذ صناعة الصلب كمثال. لطالما كانت صناعة الصلب مرتبطة بعمّال الياقات الزرقاء، لكنّ التطور التكنولوجي سمح لمالكي هذه الصناعات بتقليص عدد العمّال فيها بشكل ملحوظ في العقود الماضية. ارتفع إنتاج الصلب بين عامي 1982 و2002 من 75 مليون طن إلى 120 مليون طن، بينما تقلّص عدد العاملين في صناعة الصلب من 289 ألف إلى 74 ألف عامل.
قد تكون إعادة موضعة الإنتاج في البلدان ذات أجور العمالة المنخفضة، مثل: الصين، سبباً مهماً ساهم في هذا النقص في عدد العمال الداخلين في الإحصاء، لكنّ الواقع يرينا بأنّ أموراً أخرى كانت تحدث بين عامي 1995 و2002. فعلى الصعيد العالمي هناك 22 مليون عمل صناعي اختفى من الاقتصاد العالمي، بينما ازداد الإنتاج العالمي بنسبة تجاوز 30%. خسر العمال في الولايات المتحدة 11% من أعمالهم لصالح الآلات، أمّا في الصين فقد ألقيت الظلال على 16 مليون عامل صناعي تمّ استبدالهم بالروبوتات بهدف الحفاظ على إنتاج أزهد ثمناً من العمالة الرخيصة حتّى.
كما أننا بتنا نسمع الكثير من الدعوات في الغرب عن إعادة الإنتاج الصناعي إلى الدول المتقدمة، وهو الذي تمّ إخراجه إلى البلدان النامية بسبب انخفاض أجور العمالة وتهلهل أنظمة حماية العمّال والبيئة فيها. ورغم أنّ هذه الدعوات لا تزال محلّ شكوك في واقعيتها، فقد بتنا نرى بعض الأمثلة على هذه الاتجاه. ففي هولندا، في المصنع الجديد لشركة فيليبس للإلكترونيات، تعمل الروبوتات البالغ عددها 128 بوتيرة سريعة جداً استدعت وضعها في عوازل زجاجية لحماية المشرفين عليها من الإصابات. تنتج فيليبس في مصنعها المؤتمت في هولندا اليوم ما يعادل منتجاتها في منشأتها في الصين وذلك باستخدام عُشر عدد العمال فقط.
حتّى الشركات العاملة في الصين بدأت تخاف من هذه الموضة، فشرعت بتخفيض عدد عمالتها زهيدة الثمن إلى عمالة أخفض ثمناً متمثلة بالآلات. فإن نظرنا إلى الشركة العملاقة العاملة في الصين فوكسكون، وهي المسؤولة عن تصنيع هواتف آيفون، نجد بأنّها أعلنت منذ بضعة سنوات عن خطتها لإدخال مليون روبوت في مصانعها، ممّا سيؤدي إلى تخفيض نسب العمالة البشرية فيها بشكل كبير. مع العلم بأنّ فوكسكون قد نقلت الجزء الأكبر من إنتاجها عالي التقنية مطلع هذا العام إلى الهند، وأحد الأسباب التي دفعتهم لذلك هو ارتفاع أجور العمالة الصينية ووجود تنظيم عمالي أكبر، بالمقارنة مع الهند.
الأعمال الفكرية ليست بمنجى:
كان يقال على الدوام: إنّ الأعمال التي تحتاج إلى مهارة فكرية لأدائها هي بمنجى من الأتمتة، وأنّ مجال الأتمتة مقتصر على الأعمال الروتينية الرتيبة. لكنّ هذا الأمر لم يعد دقيقاً اليوم. فلنأخذ أحد الأمثلة الشهيرة قصّة شركة «بلاك ستون للاكتشاف». عند مقارنة قضيّة كبرى منظورة أمام المحكمة في عام 1978، اضطرّ محامو الشركات في الدعوى إلى أداء مهمة لا يحسدون عليها، هي الاطلاع على أكثر من 6 ملايين وثيقة على مدى أشهر. كلّف الأمر أجور عمالة تبلغ 2,2 مليون دولار. أمّا في عام 2011، فقد قامت شركة بلاكستون بتحليل 1,5 مليون وثيقة قانونية باستخدام تطبيقها الرقمي بكلفة أدنى من 100 ألف دولار. يمكن اليوم لحامٍ واحد أن يقوم بعمل كان يتطلب كادراً من المحامين يبلغ عددهم أكثر من 500، وبدقة أكبر.
ومن المجالات الفكرية الأخرى التي وجدت التكنولوجيا طريقها إليها أيضاً صناعة الموسيقا. قامت شركة ناشئة تدعى «ميوزك إكس-راي» باستخدام طرق معالجة البيانات الكبرى وخوارزمياتها لتحديد المقطوعات الموسيقية التي يحتمل أن تلاقي رواجاً وتحقق إيرادات. قامت الشركة بالتعاقد مع أكثر من 5000 فنان خلال فترة تقلّ عن ثلاثة أعوام، معتمدة في اختيارهم على برنامج متطور لمقارنة هياكل أغنياتهم مع الأغاني المسجلة سابقاً والتي حققت نجاحات. حققت الشركة بالفعل سجلاً مذهلاً في الأغاني التي حققت النجاحات. وهناك شركة «إيباجوجيكس» تقوم بالمثل مع تحليل نصوص الأفلام السينمائية. وقد جعل نجاحها في اختيار النصوص اليوم من استخدام الخوارزميات في هذا المجال أمراً اعتيادياً.
المشكلة رأسمالية وليست تكنولوجية
ليست المشكلة في التطور التكنولوجي بكل تأكيد، بل بالاستخدام الرأسمالي لها. فللتطور التكنولوجي سمات ممتازة في تجنيب العمال التواجد في الأماكن الخطرة أو في زيادة راحتهم وتخلصهم من الأعباء الروتينية والانصراف إلى تطوير مهاراتهم... إلخ.
من المجالات التي يعتبر التطور التكنولوجي فيها نعمة ممتازة هو تطور «معدات الحماية الشخصية PPE». ليست هذه الوسائل جديدة، ولكنّ التطورات الرقمية التي دخلت إليها قادرة على تخفيض إصابات العمّال في أماكن العمل ومنعها في بعض الأحيان. والتحدي الأكبر لها هو في تبني وسائل العمل الرأسمالي لها تبعاً لزيادتها للتكاليف، وخاصة في الأماكن حيث البنية التشريعية لحماية العمال لا تزال ضعيفة بضغط الشركات متعددة الجنسيات لتخفيض الأجور.
من الأمثلة الجيدة على معدات الحماية، الحساسات التي يمكن تركيبها على الحاويات وأدوات النقل، والمربوطة بغرف مراقبة تسهّل اكتشاف حدوث تسريب أو طارئ ما، بحيث يتمّ تداركه قبل تشكيله خطراً على سلامة العمّال. وحتّى هذا الخطر يمكن تداركه عبر آلات لا تعرض العمال للخطر.
مثال آخر هو: «الخوذ الذكية» متعددة الاستخدام، المربوطة بحساسات عالية التقنية. فاعتماد هذه الخوذ لدى دوائر مكافحة الحرائق على سبيل المثال سيمنع أحد الأسباب الأساسية لتعرّض عمّال مكافحة الحرائق للخطر، وهو عدم قدرتهم على تمييز أماكن تسرب المواد الانفجارية ومصادر اللهب الشديد. يمكن لحساسات هذه الخوذ أن تزود مكافحي الحرائق بالقدرة على تمييز هذه الأماكن والتعامل معها كما ينبغي.
إننا أمام هذا التطور التكنولوجي نقف على مفترق طرق، فإمّا أن نعاني من المزيد من البطالة واللجوء للعقارات المنشطة لتحمّل ضغوط العمل عبر المنصات الإلكترونية، وهو الأمر الذي شهد ارتفاعاً شديداً في العقدين الماضيين، وغيرها الكثير من التأثيرات السلبية. أو أن ننتج تكنولوجيا صديقة للبشرية وللبيئة، ولن نتمكن من ذلك دون السيطرة الديمقراطية على وسائل إنتاج هذه التكنولوجيا. وتحقيق هذا النوع من الديمقراطية الاجتماعية يتطلب تغيير البنى الرأسمالية دون شك.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 920