شعبوية الصعود... بين اليمين واليسار (2)
مع صعود الحركات الشعبية في أوروبا، ونجاح «اليمين» أحياناً بأن تكون له شعبوية، أثيرت مسائل عدة، وفي محاولة للإجابة وطرح الأسئلة، تقدم قاسيون فيما يلي جزءاً ثانياً من حوارٍ أُجري عام 2016، بين قيادي ومدير حملات دعائية لحزب بوديموس الإسباني، والباحثة الفرنسية شانتال موف.
حوار بين إينيغو إيريخون وشانتال موف
تعريب: عروة درويش
إ.إ: أعتقد بأنّه من المثير للاهتمام تقديم موضوعٍ أعرفُ مدى جدليّته، وقد يثير ردّات فعل مختلطة بأوروبا: مدى صلة الاستعارَتَين «يمين» و«يسار» بحقيقة ما هما عليه.
ش.م: هذا موضوع نحتاج بالتأكيد للتطرّق إليه، لأنّ الكثير من الناس لا يفهمون موقع بوديموس بهذا السياق. سيكون من الجيّد إن استطعنا شرح سبب رفضكم التصنيف يمين/يسار، وسبب عدم رغبتكم بوضع أنفسكم ضمن هذا المحور.
إ.إ: ليس الأمر أننا نرفضه، فهو موجود في كثير من المجتمعات. إنّها الحدود الأساسية التي تفسّر هويات الأشخاص في كثير من أجزاء أوروبا، لكننا نظن بأنّ الأمر ليس على هذه الحال في إسبانيا حالياً. قد يعود هكذا مرّة أخرى، لكنّه ليس كذلك الآن. أيّ شخص يعتقد بأنّ هذا التقسيم مهمّ لفهم ما يحدث في بلدنا، لن يستطيع فهم السبب الذي جعل الخريطة الانتخابية فجأةً وبغضون عام تتغيّر بهذا النحو. ماذا حدث؟ هل توسّعت مناطق اليسار بشكل كبير؟ لا. إذاً ما الذي جعل الخريطة السياسية لإسبانيا تتغيّر لهذه الدرجة؟ لأنّه عند تغييرنا للسؤال تتغيّر الإجابة كذلك. إنّ تغيّراً بالحدود التي تنظّم الساحة السياسة قد أخرج تغيّراً محتملاً في توازن القوى، وإمكانية تشكّل صوت جديد معرّف بالتعابير الديمقراطية والمدنية والوطنية. لهذا تشعر النخب بالحنين للأسئلة القديمة، مجموعة الأفكار التي يمكن لهم عبرها تنظيم توزيعهم للأدوار، وتعطيل تشكّل حلف شعبي محتمل يصبح أغلبيةً ضدَّهم. لا أتحدث هنا عن عملية تسويق مصمَّمة لتخفي ما نحن عليه، أو عن التخلي عن النزاع. بل أتحدث على العكس من ذلك عن المعركة حول المعنى والتي لم تعد تواجه النظام القديم بتعابيره الخاصة.
لا يمكننا إنكار أننا متحدّرون على الصعيد العائلي أو الشخصي من تقاليد ملتزمة باليسار. فأنا على سبيل المثال: قادم من عائلة اضطَهَدَتْها الفرانكوية، ووالدي كان معتقلاً سياسياً. ورغم ذلك فنحن نقول بأنّ اليسار واليمين ليسا الحدّ الرئيس لإنتاج التغيير السياسي في إسبانيا. ولسنا نفعل هذا على سبيل ممارسة العلاقات العامّة أو البراغماتية السياسية. نحن لا نخفي شيئاً أو نقدّم صورة جديدة تهدف لإخفاء جوهرنا الحقيقي، بحيث نُمَوِّهِهُ لأغراض انتخابية. في الدوائر المحافظة يظنون بأنّهم يستطيعون كشف حقيقة بوديموس المخبَّأة عبر النبش في ماضينا، فهم لم يفهموا شيئاً ممّا يجري في إسبانيا، الأمر ليس هكذا إطلاقاً. أولاً: إنّ الأمر هو الاعتراف بأنّ الموقع السياسي غير محدَّد، والهويات السياسية ليست مستقرّة، أولاً: ليس هنالك شيء طبيعي يدعى هويّة الناس بوصفهم يميناً أو يساراً، فهذا الأمر له شروطٌ تاريخيّة وجغرافية. ثانياً: يدور الأمر حول الإقرار بأنّ هنالك تحولات في بلدنا قد أَنتَجَتْ من وجهة نظرنا اختطافَ الأوليغارشية للديمقراطية. يسمح هذا بتشكيل حدود يمكن تعريفها بالتعابير النظرية بين ديمقراطية/أوليغارشية، أو بكلمات ملموسة أكثر: مواطنون/أصحاب امتيازات. يمكن لهذا أن يشرح بشكل أفضل الأزمة القائمة. فضمن هذه التعابير لن يكون للنخب أن تحدد لنا تعابيرنا السياسية أو توزيع المواقع: سيكون عليهم عندها أن يتحولوا لموقع الدفاع ويخسروا احترام العامّة ويصبحوا معزولين عن المواطنين.
اليسار الساقط في النيوليبرالية
ش.م: أوافقكَ الرأي كليّةً بأنّ الأعوام الأخيرة شهدت اختطاف الأوليغارشية للديمقراطية، وعلى طول أوروبا وليس في إسبانيا فقط، ولكن بأشكال مختلفة. أرى بأنّ هذا نتيجة للنيوليبرالية، ولهذا يبدو دقيقاً قولنا بأننا نعيش في مجتمعات «ما بعد الديمقراطية». علاوة على ذلك فإنّ التوافق على الوسط ساهم بإضعاف الثقة بالسياسات اليسارية. كيف عبّر هذا عن نفسه في إسبانيا؟
إ.إ: أظنّ بأنّه عبّر عن نفسه بعدم وجود أيّة بدائل للحزب «الاشتراكي» الذي كانت له قدرة أو رغبة مهيمنة، ولفترة طويلة، بحيث سيطر على قوى رئيسة في اليسار، لدرجة أنّ تآكلهم قد تمّ بشكل متزامن. فأن تكون يسارياً في إسبانيا يعني: أن تدعم الحزب الاشتراكي، وسقوط الحزب الاشتراكي عَنَى سقوط اليسار. في مرحلة معينة قرَّرَ جزءٌ من اليسار أنّ عليهم الكفاح من أجل حقيقة كلمة «يسار»: «نحن اليسار الحقيقي». لكننا من البداية قلنا: «يمكنكم الاحتفاظ به، فنحن نسلِّمُه لكم. نحن مهتمّون بإنشاء الشعب، وليس بإنشاء اليسار».
اليمين الشعبوي: «نحنُ الشعب»
ش.م: في فرنسا، توجد حركة يمين شعبوي تبني أيضاً حدوداً قاطعة بين الشعب/النخب، رغم أنّ ذلك يتم بشكل مختلف. لن تتمكن إنْ كنت بمواجهة مارين لوبان أن تكتفي بالقول: «نحن الشعب».
إ.إ: نحن لا نقول ذلك بشكل مباشر أيضاً، لأنّ الشعب لا يملك ممثِّلاً شرعياً له، وتحديداً لأنّ الشعب ليس مهيمناً ولا يوجد مسبقاً قبل تشكُّله؛ والذي هو متجدّد دوماً. إنّها معركة خطابية، لكن من الواضح بأنّنا نخاطب تشكيلة انتخابية أوسع، وذلك لأنّ الأوضاع الحالية تسمح لنا بذلك، ولأنّ لدينا طموحات بالهيمنة وطموحات بالدولة. غالبية المواطنين اليوم ليسوا متجانسين بل مختلطين نسبياً، وهم يشعرون كمجموعات بأنّه تمّت خيانتهم وعدم تمثيلهم، ويطالبون بالمؤسَّسات ليردّوها إلى طريق الصواب. ولديهم الآن الوسيلة اللازمة لذلك. نطمح لأن نكون نحنُ تلك الوسيلة، وذلك بالوقت الذي ندرك فيه بأنّ الطريق صعب، وبأنّ الأقوى هو الذي سينتصر. لطالما كان هذا النهج مثارَ جدلٍ، ولست متأكداً من كيفيّة قراءته وترجمته من الخارج. لكنّ الطابع التقدمي والديمقراطي لبنائنا الشعبيّ مشتقٌّ مِن تحديدنا لِمَن هو خصمُنا، وتحديداً من الإقرار بإمكانية- وكذلك- تعدُّدية الشعب.
ش.م: يتم النظر إليكم خارج إسبانيا على أنكم حزب يساري، وأظنّ بأنّ مسألة كونكم جناحاً يمينيّاً أم يسارياً ليس هو السؤال الأكثر أهميّة لفهم بوديموس، ولا أفهم الصعوبة لديكم بتقبّل مثل هذه السِّمة. أعلم بأنّ ما أقوله لا ينطبق عليكم، لكن أخشى أن المخاطرة بالبقاء خارج حدود يمين/يسار سيفسَّر بأنّه قبولٌ منكم لما يدعى «الطريق الثالث»، والذي يرى سياساته أبعد من اليمين واليسار.
انقلاب «فوق/تحت» على «يمين/يسار»
إ.إ: صحيح أنّ قولنا بأنّ علينا «قلب مفاهيم الحدّ بين اليسار واليمين» قد ولّد الكثير من تذبذب الثقة بنا بين المجموعات التقدُّمية. لقد فُهِمَ حديثُنا كما لو أننا نقول بأنّ الأيديولوجية لم تعد نافعة، أو كنوع ما من الإفراط بالبراغماتية. يمكن للمرء أن يوافق أو لا يوافق على هذه الافتراضات، لكنّ هذا التفسير خاطئ. لقد قلنا بأنّه إنْ تمّ بناء الهوية، وإنْ كان يجري دوماً عبر تعيين التخوم، فيمكن لتخومٍ جديدة أن ترسم أغلبيةً شعبيةً جديدة كبديلٍ كان غائباً سابقاً. فقد كانوا في النخب مرتاحين جداً مع محورَي يمين/يسار. وقد مَركَزوا أنفسهم في (يسار الوسط/يمين الوسط)، وهمّشوا من يتحدَّاهم. لكن إنْ رسمنا حدّاً قاطعاً يضم المواطنين فسيجعلهم هذا يرتبكون. فإنْ أصبحوا خارج منطقة الراحة خاصَّتِهم، فسيجدون أنفسهم في ساحة رمزية وسياسية غير مريحة بالمرّة. وبالتالي نقوم بشكل سلس باستنزاف قدرتهم على الخيال السياسي، عندها سيكون على الناس الذين احتكروا السياسة تقليدياً القبول بوجود ما يدعى «التمييز بناءً على الطبقة»، ولن يكون أفضلُ دفاع لهم نزعُ التهمة عنهم بل محاولة تشويهِنا. سيكون الأمر كما لو أنّهم يدركون بأنّهم لا يمكن أن يكونوا محبوبين، لكنّهم يأملون بأنّ بقاءِهم في السلطة سيكون كافياً لتوسيع قلّة الثقة بنا، وبالتالي: كبح التغيير وإعادة تثبيت الفردانية. هذه أعراض أزمة فكرية، لكنّها ليست مجرّد إستراتيجية لا قيمة لها، وخاصة إذا ما أخذنا باعتبارنا أنّهم يتحكَّمون بإعلامٍ قوي وبموارد كثيرة.
إنّ للطريق الثالث دعوة توافقية هي: «ليست هنالك أيّة حدود، هنالك فقط إدارة واختلافات تقنية». نحن لا نقول بعدم وجود حدود، أو بعدم وجود إيديولوجيات. لقد استبدلنا حدّاً بآخر: (فوق/تحت)، وهو ما أؤمن بأنّه أكثر راديكالية إذا ما أخذنا المعنى التعبيري. فمع حدّ (يسار/يمين)، يرمي اللاعبون التقليديون أوراقهم بكلّ راحة، أمّا مع حدّ (المواطنين/أصحاب الامتيازات)، يُجبَرون فجأةً على اللعب بظروف صعبة. أعتقد مِن المهم أن نشرح هذا للأوروبيين بحيث لا يبدو كما لو أنّه يوجد إنكار للمواجهة الإيديولوجية، أو الاعتقاد بإمكانية ديمقراطية دون اختلافات.
إنّ نظرة «مضادة للأصولية» تسمح لنا بفهم أنّ طموحنا للإطاحة بالاستعارات (يمين/يسار) وحدودها القاطعة، ليسَ تخلّياً عن الإيديولوجيات، بل طريقة مختلفة في منح المعنى للصراع. يسمح لنا هذا بإنشاء مجموعة مختلفة من المعاني السياسية، موجَّهة نحو تشكيل إرادة عامّة مختلفة. ليس هنالك شيء جوهري ولا ضروري بتعبيرات يمين/يسار بوصفها مَجازات لأزمة بنية الساحة السياسية. برأيي أنّ مسألة كونها نافعة من عدمها تعتمد على إنْ كان بالإمكان استخدامها لبناء توازن قوى يميل لصالح المستضعَفين.
نحو شعبوية يسارية؟
ش.م: إنّ بناء حدّ (شعب/أصحاب امتياز) ليس كافياً لبناء جماعة قادرة على وضع جدول أعمال تقدُّمي، ونجاح شعبوية اليمين يُظهِرُ هذا. كنتُ أعتقد أنّه من أجل تجذير الديمقراطية، كان من الضروري مَنْح شرعية جديدة لحدّ يمين/يسار. لكنني بدأت أدرك بأنّ هذا ليس ملائماً في الظروف الحالية، وبأنّه كان من الضروري إنشاء الحدود بطرق مختلفة– من خلال بناء جماعة عابرة للاصطفافات وتقدُّمية، قادرة على تَحدِّي صيغ الأولغارشية الجديدة التي أنتجتها النيوليبرالية. هذا ما أدعوه «شعبوية الجناح اليساري». لقد وصلت إلى هذا الاستنتاج للأسباب التالية:
أولاً: أدركت بأنّ معظم أحزاب يسار الوسط انخرطت كثيراً بالهيمنة النيوليبرالية بحيث لا أمل بإصلاحها، حيث ساهمت بالكثير من الحالات بتثبيت الهيمنة النيوليبرالية. فمنذ أزمة 2008 اتضح بأنّهم شركاء أشرار بسياسات التقشف التي تمّ فرضها للدفاع عن النظام، وبأنّه من الخيالي الاعتقاد بأنّهم قد يغيّرون اصطفافهم على الإطلاق لدرجة تدمير النظام النيوليبرالي. إنّ «التوافق على الوسط» لن يسمح بإعادة تفعيل مواجهة عمياء على طول محورَي يمين/يسار.
لكن السبب الآخر لعجز الحدّ يمين/يسار التقليدي عن تجذير الديمقراطية، يتعلّق بتحوُّل البنى الناتجة عن النمط الجديد من تشريع الرأسمالية. ففي عصر العولمة النيوليبرالية ورأس المال المالي، نشأ نوع جديد من التضاد مشتقّ من خضوع جميع أنواع الحياة الاجتماعية لإمبراطورية السوق. فاليوم، لا يخضع المرء للمنطق الرأسمالي فقط من خلال العمل، فمتطلبات الفرد تؤثر على حياته من كل النواحي. علاوة على ذلك فإنّ مستويات اللامساواة بين قوى الأولغارشية المالية وبقيّة المجتمع قد ازدادت بشكل كبير. لا يمكن للتصنيفات الاعتيادية للسياسات اليسارية أن تأخذ بالحسبان هذه التشكيلة الواسعة من صيغ الإذعان، أو الأولغارشية الجديدة من الأثرياء جداً. من الضروري استيعاب النضال بعبارات مختلفة عن تلك المستخدمة لدى كلٍّ من الديمقراطية- الاشتراكية والماركسية [«الماركسية» باصطلاح بعض اليسار، وخاصة الأوروبي، تشمل طيفاً مختلفاً يضم التحريفية والتروتسكية وغيرها، فهُم لا يقصرونها على الماركسية- اللينينية – المحرر]. إنّه الأمر الذي أدرَكَه إلى حدّ ما منظِّرو الحشود أمثال: هيردت ونيغري. لكنّهم فعلوا ذلك بالاستناد إلى تحليلٍ لتطور الرأسمالية أجدُه إشكالياً. علاوة على ذلك، فالناقص في مقارباتهم هو: أيّ اعتراف بالحاجة إلى الإفصاح عن الصراعات غير المتجانسة المتعددة ضمن إرادةٍ جمعيّة، داخل «الشعب». أو الحاجة للعمل مع المؤسسات لإنشاء هيمنة جديدة. نحتاج للمزامنة بين المنافسة الانتخابية والمدى الواسع من الكفاحات التي تأخذ مكانها في الساحة الاجتماعية. من الواضح أنّ المطالب الديمقراطية الموجودة في مجتمعاتنا لا يمكنها أن تجد تعبيراتها فقط من خلال صيغ الحزب العمودية، بحيث إنها تحتاج أيضاً لصيغ أفقية للتعبير. أنا أرى بأنّ «شعبوية الجناح اليساري» هي شكل جديد للتنظيم السياسي يجمع ما بين النموذجين. لكن من الواضح بأنّنا بحاجة لتدعيم هذه الاستجابة بطرق مختلفة بالاعتماد على الظروف الخاصّة بكل دولة أوربية، فهذا لا يدور حول فَرْض نموذج موحَّد للجميع.
إ.إ: كلّ شيء يعتمد على الساحة قيد العمل. ففي الساحة الفكرية هناك الآن صيغة بناء سياسي في إسبانيا يمكن وصفها بالشعبوية (شريطة تجريد المصطلح من الازدراء ومن الدلالة الضمنية على مناهضة الديمقراطية والتي هي سمة الطريقة الفضفاضة التي يتم وفقها استخدامه بالخطاب المهيمن). لكن بالوقت ذاته، نحن نتدخل بشكل سياسي، وعلينا لفعل ذلك ألّا نستخدم مصطلحاً تمّ لَعْنُه في الإعلام. ليس لأحدٍ أن يدّعي الفوز إنْ كان، عند مرحلة ما، يَقبل بتعريفٍ معيَّن يُؤخَذُ في الخيال الجمعي مباشرةً بمعنى الديماغوجية.
ش.م: أفهم هذا، لكن ليس علينا القبول بالمجال الدلالي الذي يحاول خصومنا فرضه علينا. علينا أن ندافع عن وجهة نظر أخرى للشعبوية. عندما أتحدث عن شعبوية الجناح اليساري فأنا أشير إلى شكل سياسي تمّ تصوُّره بوصفه حرب مواقع، وبناء الإرادة الشعبيّة الجمعية من خلال «سلسلة التكافؤ» وحشد الشغف [سلسلة التكافؤ وسلسلة الاختلاف: وفق فرضية شانتال موف وإرنستو لاكلاو، أُولاهما: تُعنى بالمشتركات ضمن جماعة معيَّنة لتحديد هويتها. والثانية: تعنى بالاختلافات التي تميّزها عن غيرها- المحرِّر]. إنّ «شعبوية الجناح اليساري» المتخيَّلة تسمح بإنشاء اختلاف عن يسار الوسط وأقصى اليسار، وكذلك عن أحزاب الجناح اليميني الشعبوية.
إ.إ: أوافق على هذا. لكن حاولي شرح هذه النظريات بستوديو تلفزيوني خلال ثلاث دقائق وحولكِ سبعة أشخاص يصرخون عليك، هذا مستحيل. وعليه فهو مفهوم صالحٌ للتحليلات الفكرية المعمَّقة، للتحليلات المُثَقَّفية، لكن ليس نافعاً بالخطّ الأمامي للنقاش الإعلامي.
ش.م: لهذا السبب تحديداً أُصرّ على أهميّة إعادة تقديم مصطلح الشعبوية؛ فمن الضروري استصلاحُه وإعادة تعريف دلالته ومنحه معنىً إيجابياً متلائماً مع «شعبوية الجناح اليساري».
إ.إ: لماذا يتمّ استخدام «الشعبوية» اليوم من النخبة؟ إنّ أيّ بديل يضع الوضع القائم تحت المساءلة يتم وصمُه بالشعبوية. يمكن رؤية هذا الأمر كمرآة تعكس النخب: كلما قلّت قدرتُهم على تَحمُّل «الشعب»، ازداد تعريفهم لك بأنّك «شعبوي».
بين أوروبا وأمريكا اللاتينية
إ.إ: المنظمات والهويات التقليدية لم تَنهَرْ في اليونان، فما تزال لديهم نقابات ومنظمات سياسية قويّة. لم تُعانِ الهوية السياسية التقليدية في اليونان من التآكل الذي عانته في إسبانيا. عندما ضربت سياسات التعديل الهيكلي الناس وأفقرتهم، غضبوا ونزلوا إلى الشوارع واحتجّوا. هناك ما تزال لديهم قنوات تقليدية للإفصاح عن الاحتجاج. ما تزال سرديّة اليسار متاحة ولم تتآكل بشكل كبير نتيجة عدم الرضا المتزايد.
بالواقع، إذا نظرنا إلى الحملة الانتخابية الأخيرة في اليونان، التي أتت بسيريزا إلى الحكومة، سنرى أنّ «المنتمين للوطن» و«الشعب اليوناني» يفوقون «اليسار»، وبأنّهم طلبوا صراحةً التصويت لأولئك القادمين من أحزاب يمين الوسط المهزومة. لم يطلبوا من الناس التصويت لليسار، بل التصويت بشكل وطني. ولهذا استطاعوا الوصول لتفاهم مع أحزاب يمين الوسط المناهضة للتقشف، لأنّ ذلك اتفاقٌ وطني للدفاع عن السيادة اليونانية ضدّ القوى المالية الدُّولية. إنّ هذه هي الجبهة السياسية الأكثر صلةً اليوم في بلدان جنوبي أوروبا نصف المستعمَرة. وإن لم تصبح القوى التقدمية مهيمِنة عليها، فإمّا أنّ القوى الرجعية ستفعل ذلك عوضاً عنّا، أو أنّ الليبراليين أو الليبراليين- الاجتماعيّين سيُشَتّتوننا.
إنّ التجارب السياسية الأخرى كانت مهمّة لنا، مثل: تجربة التطوّر التقدمي في أمريكا اللاتينية الذي لم يعبّر عن نفسه من خلال محاور يسار/يمين.
ش.م: نعم هذا صحيح، لكنّ هذه التجارب من أمريكا اللاتينية لا يمكن نقلها بشكل مباشر، ذلك أنّ السياق التاريخي والتجربة السياسية مختلفان. ليس على الحكومات الوطنية الشعبيّة في أمريكا الجنوبية أن تواجه أحزاب اليمين الشعبوية. فخصومهم هم: الأولغارشيّة، وحلفاؤها، وأيضاً، بشكل أو بآخر، الأحزاب التي تدافع عن تصوّر تقليدي لليسار. أمّا الوضع في أوروبا فليس ذاته، ومن الضروري أن نميّز بين شعبويِّي الجناح اليميني والجناح اليساري.
والاختلاف الثاني متعلّق بما نسميه «الحالة الشعبوية»، والتي لا تظهر بطريقة متماثلة بأوروبا وبأمريكا الجنوبية. فبالنسبة للأنظمة الشعبوية في أمريكا الجنوبية، فإنّ السؤال الرئيس هو: كيف تَدمِجُ ضمن المشروع الديمقراطي تلكَ القطّاعات الشعبية التي كانت فيما مضى مستَبعَدة بواسطة الأولغارشية. فمع استثناء الأرجنتين– حيث بفضل البيرونيّة (نسبة لإرث الرئيس الأسبق بيرون) تحققت فيها أول تجربة للإدماج الشعبوي– فإنّ الشعب قد تمّ تهميشه من النخبة. لكن في أوروبا لدينا بضعة تجارب عن الهيمنة البرجوازية، حيث تدبَّرت الحكومات أمر إدماج قطاعات شعبية في السياسة. إنّ الإدماج اليوم في أزمة، لكن ثمَّةَ روابط ولاء بين أجزاءٍ من الشعب والنُّخَب، وهذا يتطلّب كفاحَ هيمنةٍ مضادّة لأجْل تفكيك عُرى هذه الروابط.