التحول الأوراسي في القرن الـ21... نحو ثلاثية جديدة
نشأ في أوراسيا_ في الحقبة التالية للحرب الباردة_ مشهد استراتيجي متعدد الأقطاب: روسيا والهند والصين، منذ أواخر التسعينيات وبداية القرن الحالي، ساهمت به بشكل كبير، الجهود المتفانية لوزير الخارجية الروسي الأسبق: «يفغيني بريماكوف». وقد شكلت هذه القوى الكبرى في وقت لاحق أساس «بريكس»، ودعمت العلاقات بينها الاستقرار في رقعة كبيرة من هذه القارات خلال العقدين الماضيين.
إن تغيراً بدأ في عام 2014، عندما تم انتخاب ناريندارا مودي، من حزب «القوميين» الهندي، كرئيس لوزراء الهند، والذي قام بسرعة باستغلال العلاقات الاستراتيجية المبدئية التي أسسها سلفه مع الولايات المتحدة، لتطوير شراكة كاملة وشاملة معها خلال الأعوام الأربعة الماضية. هدم هذا المحور، والذي تدعي الهند بشكل غير مقنع بأنّه «فعل توازن»، المحور ثلاثيّ الأقطاب مع الصين وروسيا. نجحت واشنطن في الإيقاع بنيودلهي وبكين في «معضلة أمنية»، بحيث ألّبت الهند على الصين وأدخلتهما في حرب باردة جديدة، كما فعلت من قبل عندما ألّبت الصين على الاتحاد السوفييتي.
لا تزال الهند تطمح لتعميق علاقاتها مع روسيا، لكنّ هذه العلاقة لم تعد هي ذاتها كما كانت من قبل عقود، عندما انتشر شعار «روسي- هندي باهي باهي» بشكل مرح على فم جميع المواطنين. ورغم أنّه لا يزال هنالك عنصر استراتيجي في العلاقات الروسيّة- الهنديّة تبعاً للفضاءات النووية والعسكرية، التي لا يزال الطرفان يتعاونان فيها، فإنّ العلاقة تفتقد إلى المتانة التي تميّز بقيّة الشراكات الإستراتيجية حول العالم، وأضحت تدور إلى حدّ كبير حول المصالح الماليّة المفيدة المتبادلة.
دخول باكستان على الخط
اعترفت روسيا بهذا المنحى قبل بضعة أعوام عندما اتخذت قراراً غير مسبوق بالدخول في تقارب سريع مع باكستان، والتي حفزتها المخاوف الأمنية المشتركة الآتية من أفغانستان. تتمتع كلتا القوتين الكبيرتين بعلاقات ممتازة مع الصين، لكنّ علاقتهما ببعضهما البعض كانت مشوبة بشكل كبير بسبب تبعات الحرب الأفغانية في الثمانينيات. ومع ذلك، وتمشياً مع رغبة روسيا في القرن الحادي والعشرين بأن تصبح قوّة التوازن الأكبر في منطقة أوراسيا الكبرى، أخذت موسكو على عاتقها مسؤولية إعادة إطلاق علاقاتها مع إسلام أباد، وبدأتها بصفحة نظيفة. لم يكن الوقت ليصبح أفضل من ذلك، لأنّ هذه الشراكة غير التقليدية تحمل معها إمكانية استعادة الاستقرار إلى جنوب آسيا بعد أن هدد المحور الهندي- الأمريكي بتقويضه، وخاصة بعد الانفصال الإستراتيجي الأمريكي- الباكستاني بداية هذا العام.
وتمنح الجغرافيا لباكستان إمكانية أن تصبح «سحّاب أوراسيا»، وأن تستبدل وفقاً لذلك الهند في المحور ثلاثيّ الأقطاب، لكن لا يزال هنالك الكثير من الأشياء التي يجب فعلها قبل تحقيق ذلك. إنّ العلاقة بين روسيا وباكستان متأخرة كثيراً عن العلاقة التي تربط كلّ بلد على حدة مع الصين، لتشكل وصلة «ضعيفة» في العلاقة التي يجب أن تكون تقويتها أولويّة في المستقبل القريب، إن كانوا يريدون لهذه الصيغة أن تدخل في الممارسة العملية.
إنّ التحسين الشامل للعلاقات الروسية- الباكستانية، وتحديداً على طول المحور العسكري الأمني، ولكن بما يتضمن المحور الاقتصادي_ السياسي أيضاً، سوف يسمح بخلق ثلاثية أقطاب جديدة بين الدولتين والصين، وذلك من أجل استبدال الثلاثيّ الأصلي الذي انتهت صلاحيته، والذي كان يضمّ فيما مضى الهند قبل تحالفها مع الأمريكيين. إنّ التعاون الباكستاني مع الصين عبر «الممر الاقتصادي الصيني_ الباكستاني «CPEC والرفض الأمريكي له، هو السبب ذاته الذي جعل إسلام آباد تتشبث بشدّة بروسيا، التي بدورها تردّ على الضغوط التي تتعرض لها من الولايات المتحدة والناتو في أوروبا الشرقية. وقد تمّ تعزيز التكامل بين الطرفين بسبب الجغرافيا التالية للحرب الباردة بينهما، فهما لم يعودا «قريبان جداً ليكونا مرتاحين» كما كان الحال في أيام الاتحاد السوفييتي، وباتوا يستفيدون من قرب المسافة بينهما ليتعاونا بدلاً من أن يتنافسا.
التصدي لـ«داعش» في أفغانستان
إنّ التركيز في علاقتهما في الوقت الراهن هو على التصدي للأخطار الأمنية القادمة من أفغانستان، وخاصة «داعش»، ويحاولان إنشاء عملية سلام ثلاثية في موسكو من أجل تحقيق تقدم سياسي في حلّ نزاعات البلاد. وبشكل عرضي باشر الجانبان أول تعاون مشترك مضاد للإرهاب في 2016 في شمالي باكستان، والذي تلاه في العام الفائت اجتماع القوقاز شمالي روسيا، حيث تشارك الجانبان خبراتهما في مكافحة الإرهاب. وكجزء من تقاربهما المتمحور حول أفغانستان، باعت روسيا الباكستانيين أربع مروحيات لمساعدتها في عملياتها المضادّة للإرهاب، ممّا يدلّل على وجود قنوات اتصال عملية مفتوحة بالفعل للتعاون الصناعي- العسكري، ويشير لإمكانيّة حصول صفقات مستقبليّة في مجالات الأسلحة التقليدية.
وبالتزامن مع التعاون العسكري بين البلدين، فقد فُتحت المجالات للدخول في شراكات في الطاقة بينهما أيضاً. المشروع الأول، هو: «خطّ الأنابيب الشمالي_ الجنوبي» والذي تمّت مناقشته بالفعل لعدّة أعوام، بينهما شهد العام الماضي الإعلان عن فرص جديدة أمام روسيا لبناء «خطّ الأنابيب الباكستاني_ الإيراني» التي يمكن أن تصل يوماً ما إلى الهند أيضاً. إنّ هذين مثالين رمزيين على «دبلوماسيّة الطاقة» الروسية، والتي يمكن أن تنفع بسهولة وتحسّن العلاقة السياسية بين البلدين، وأن تحقق منافع ظاهرة لغالبية الباكستانيين. وبطبيعة الحال، فإنّ الخطوة التالية ستكون تشجيع المزيد من العلاقات التجارية بين البلدين، وتوسيع نطاق التفاعل بين الأفراد، من خلال التعاون في المجالات الإعلامية والأكاديمية والسياحية.
الدور المكمّل للصين
ستستفيد الصين من كلّ هذا، لأنّها يمكن أن تلعب دوراً تكميلياً ذا قيمة مضافة في جميع هذه العمليات، وبالتالي تحسينها نوعياً من خلال الصيغة ثلاثيّة الأقطاب، والتي تؤدي إلى نتيجة مرغوبة ومربحة للجميع أكثر من أيّ وقت مضى. على سبيل المثال: يمكن للتعاون في مكافحة الإرهاب في منطقة كلّ دولة أن يصبح اعتيادياً في جميع الأوقات، وأن يضمّ بين الفينة والأخرى طرفاً رابعاً في آسيا الوسطى مثل: طاجكستان أو أوزبكستان. إنّ بكين منخرطة بالفعل في عملية السلام التي ترعاها موسكو من أجل أفغانستان، لكن بإمكانها أن ترمي بثقلها الاقتصادي لدعم المبادرات التي تخرج بها روسيا وباكستان، ممّا سيجعلها أكثر جاذبية لجميع أصحاب المصلحة داخل البلاد، وبالتالي تعزز احتمالات أخذ هذه المبادرات على محمل الجد.
علاوة على ذلك، يمكن لنجاح بناء خطّ الأنابيب الروسي- الباكستاني، أن ينسحب على مشروع لنقل الطاقة عبر جنوب آسيا إلى الجمهورية الصينية، من خلال ممرات طاقة تشبه .«CPEC» إضافة إلى أنّ كلّاً من روسيا وباكستان هما شريكان هامّان بالنسبة للصين في «طريق الحرير» بسبب موقعهما الحاسم كدول ترانزيت من أجل «الجسور الأوراسية» ومشاريع «CPEC» على التوالي، ولهذا فمن المحتمل جداً أن تنتفع بكين أيضاً من زيادة اتصالهما الاقتصادي.
أمّا بالنسبة للمجالات المعلوماتيّة والأكاديمية والسياحية، فيمكن تأطير كلّ فئة من هذه الفئات الثلاث للتفاعل بين الأفراد ضمن الصيغة ثلاثية الأقطاب بحيث يتمّ توسيعها لتشمل الصين أيضاً، ويمكن القيام بذلك عبر وسم صيغ التنسيق الجديدة بأنّها جزء من «مستقبل طريق الحرير»، أو شيء على هذه الشاكلة يساعد في تشكيل وتدعيم مسائل المصالح المشتركة المشابهة.
إنّ الهدف النهائي، هو: إضفاء الطابع الرسمي على الصيغة ثلاثية الأقطاب الروسيّة_ الباكستانية_ الصينيّة، على شاكلة مؤسساتية شبيهة بتلك التي شملت سلفها الهند. ولنكون واضحين، لن يكون هنالك استبدال بالمفهوم العام بل ستتجه الأمور لتصبح بشكل متزايد غير ذات صلة بتوترات «الحرب الباردة الجديدة»، التي تثيرها الولايات المتحدة بين القوتين الآسيويتين الكبيرتين من أجل تقليل مصالحهما واهتماماتهما بالتعاون مع بعضهما البعض.
يمكن لهذه الآليّة أن تكون مفيدة في أوضاع الأزمات، إن حاولت موسكو أن تتوسط بين نيودلهي وبكين، وهي تخدم وظيفة رمزية في طمأنة المراقبين بأنّ «بريكس» لا يزال ينبض بالحياة. لكن وبشكل أكيد لن تبقى هذه العلاقة تخدم فقط الأغراض المحدودة التي خدمتها من قبل، وهي تتجه لتثبت بأنّ التعاون مع الباكستانيين فيه إمكانات محتملة هائلة في المستقبل المنظور.
تريد كلٌّ من باكستان وروسيا أن تحوزا على قيمة استراتيجية أكبر للصين في محاولة لموازنة علاقتهما الاقتصادية معها، ولضمان قدرتهما على المساومة من أجل صفقات أفضل في «طريق الحرير»، لذلك يتوقع أن تسهم تقوية الروابط الثنائيّة مع بعضهما البعض في تحقيق هذا الهدف. علاوة على ذلك، يمكن لباكستان أن تمنح مجال الأعمال الروسيّ القدرة على الوصول إلى الأسواق في جنوب آسيا، من أجل تعويض خساراتها المحتملة في الهند، في مواجهة المنافسة العدوانية الأمريكية هناك، تماماً مثلما يمكن للعلاقات الباكستانية الإيجابية مع روسيا أن تضمن الترحيب بحضورها الاقتصادي في «CPEC» في مجال المصالح الإستراتيجية لموسكو في آسيا الوسطى. ومع ذلك فإنّ هنالك القليل من الوصفات السياسيّة الجاهزة التي يمكن للجانبين اتباعها من أجل نقل علاقاتهما إلى المستوى التالي، وتعزيز إنشاء الصيغة ثلاثية الأقطاب الجديدة.
ملء الفراغ الأمريكي
تتمثل الخطوة الأولية السريعة القابلة للتنفيذ في أنّه يجب على روسيا وباكستان البدء بمحادثات جادّة بشأن تنويع الشراكة العسكريّة لمكافحة الإرهاب، وأن تجعلاها ذات أبعاد إقليمية. يجب على موسكو أن تبدأ في موازنة التعاون العسكري الجديد بين واشنطن و«تل أبيب» من جهة ونيودلهي من جهة أخرى، حيث إنّ إسلام آباد تحتاج لملء الفراغ الذي خلفه إيقاف واشنطن للمساعدات العسكرية دون أن تعتمد بشكل كلي على بكين كنوعٍ من ردّ الفعل.
ليس هنالك من لحظة أفضل من الآن لتحقيق تقدم على هذا الصعيد، ويجب على كلا الجانبين أن يغتنما هذه الفرصة الذهبيّة على الفور. وبما يتعلق بتوسيع العلاقات التجارية بينهما، يمكن أن تسهل الاستثمارات الصينية في البنى التحتيّة في «ممرّ شمال_ جنوب» عبر إيران الأمر، أو بين جينجيانغ وسيبيريا عبر ما يسمّى.«CPEC+» ويجب على باكستان أن تأخذ في اعتبارها تقديم طلب للانضمام إلى «بنك التطوير الأوراسي» الذي تقوده روسيا.
ستستمرّ السفارات الباكستانيّة والروسيّة في عاصمتي البلدين بالعمل على تقديم العون في علاقات الدولتين، لكنّهما بحاجة لإنشاء مركز صداقة روسيّ متعدد المهام في إسلام آباد، من أجل نقل العلاقة بين الشعبين إلى مستوىً جديد، بما يخدم أهداف الارتباط على مستوى الثقافة والأعمال والتعليم والسياحة بين البلدين.
يمكن لباكستان أيضاً أن تبني شيئاً شبيهاً بذلك عندما يصبح الوقت ملائماً، رغم أننا مجبرون على الاعتراف إنّ كنّا سنتحدث بشفافية، بأنّ لباكستان في الوقت الراهن مصالح أكبر في العلاقة مع روسيا، من المصالح التي لدى الروس في العلاقة مع باكستان. إضافة إلى حقيقة أنّ بإمكان باكستان أن تسعى لبناء مركزها المقابل في طشقند، أو أيّ مكان آخر ناطق بالروسيّة في وسط آسيا بسبب تراثهما الحضاري المشترك، بينما قرار روسيا ببناء منشأة في إسلام آباد هو قرار استراتيجي، يخدم مهمّة إنشاء مركز تنسيق في قلب «CPEC» بالإضافة إلى خدمته مسألة التقاء الحضارات.
يمكن لكلا المشروعين الاستراتيجيين أن يعفيا سفارتيهما من الحاجة لتركيز كلّ هذا القدر من الطاقة الناعمة التبادليّة على المدنيين، وعليه تفريغهما للتركيز أكثر على التعاون بين الدولتين في المجالات الأمنية_ العسكرية. ستنسق مراكز الصداقة مع السفارات، لكنّها أيضاً ستتمتع بالمرونة لتفعل أكثر من مجرّد الأمور الدبلوماسيّة لأنّها مدارة ومشغولة من قبل مدنيين، حتّى لو كانوا يملكون فيما سبق خبرات حكوميّة. إنّ الفكرة هنا أن تعمل المرافق كقواعد للتفاعلات الأكاديميّة والتجارية والسياحية فيما بينها، ويتضمن ذلك تسجيل الأعمال والنشاطات الثقافية والمعارض التاريخية وصفوف اللغة والتبادلات الطلابية. إن رغبت روسيا وباكستان بصدق بالدخول في شراكة استراتيجيّة مع بعضهما البعض، بحيث تزودهما بالأساس لتوسيع علاقاتهما في ثلاثيّة متعددة الأقطاب مع الصين، ثمّ يجب أن يضعوا الشروط اللازمة لتسخير جميع مجالات طاقاتهما الوطنية في شكل مستدام يمكن فقط لمراكز الصداقة أن تنظمها.
نحو تغيير جيوسياسي
إن نجحت باكستان وروسيا في مسعى تطوير العلاقات بينهما على جميع الأصعدة، يمكنهما عندها أن يدعما «الرابط الضعيف» لمثلث القوى العظمى، وأن يسهلا تبسيط علاقاتهم الجماعية مع بعضهم البعض، وأن يسهلا قدرة الصين على إحداث تغيير جيوسياسي ملموس في أوراسيا. ويتمّ بهذا التركيز بشكل كامل على الدوافع العسكرية_ الأمنية لهذا الترتيب، بالإضافة إلى الطاقة، دون التضحية بفرص تطوير القوى الناعمة والتجارية أثناء هذا التحوّل النموذجي غير المسبوق في جنوب آسيا. يجب على موسكو وإسلام آباد أن «يستعينا بمصادر خارجية» متمثلة بإنشاء مراكز الصداقة من أجل إتمام التقارب بينهما ونقله إلى النتيجة المنطقية في التشارك الإستراتيجي، وهو الأمر الذي سيشكل الأساس لصيغة ثلاثية الأقطاب مع الصين.