الشركات متعددة الجنسيات... سطوة الاحتكار العالمي (2)
إنّ الرواية المهيمنة عن الشركات متعددة الجنسيّات، مستمدّة جميعها من المتطلبات الإيديولوجيّة المفروضة على المؤسسة الرسميّة: كان عليهم بطريقة أو بأخرى، أن يبرروا واقع العلاقات الاقتصاديّة- السياسيّة الدوليّة، وذلك مع استبعاد السمة الهيكليّة الرئيسة لهذا الواقع، وهي تحديداً: النظام العالمي الإمبريالي. إنّ قضيّة الإمبرياليّة في عالم رأس المال الاحتكاري، هي التي كانت محلّ تركيز الباحثين الماركسيين والراديكاليين الآخرين.
تعريب وإعداد: عروة درويش
أوضح ماغدوف في كتاب: «عصر الإمبرياليّة» بأنّ التوسّع الكبير للاستثمار الأجنبي المباشر، قد تزامن مع صعود القيادة الأمريكيّة للنظام العالمي الإمبريالي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، خاصّة في مجال التصنيع: «ففي حين أنّ الحاجة الملحّة لتطوير موارد المواد الخام الأجنبيّة، قد ساهمت في حركة تصدير رأس المال بعد الحرب، فإنّ تسارع الاستثمار في مشاريع التصنيع الأجنبيّة، أضاف بُعداً جديداً إلى تدويل رأس المال».
الحكومات الإمبريالية والشركات متعددة الجنسيات
لقد كان هدف العمليات الأجنبيّة للشركات العملاقة الاحتكاريّة، أو «الاحتكاريّة- الأقليّة» أن تدخل صناعات جديدة وأسواقاً جديدة، وكذلك أن تستغلّ الفروقات العالميّة في الأجور والتكاليف المنخفضة في المناطق الأخرى.
وليس من المستغرب، أنّ الاستثمار الأجنبي المباشر، قد جلب عائدات دخل صافية إلى الولايات المتحدة، وذلك بكميات تفوق بكثير صادرات رأس المال نفسها. استنتج باران وسويزي في كتاب «ملاحظات على الإمبرياليّة» بأنّه تبعاً للعائدات المرتفعة لهذه الاستثمارات، «فإنّ الشركات، ناهيك عن كونها تصدّر رأس المال، تعدّ مستورداً كبيراً ومستمرّاً لرأس المال إلى الولايات المتحدة». عنى هذا بأنّ هذه الاستثمارات، بالإضافة لكونها وسائل لنقل الثروة من الجنوب العالمي إلى الشمال العالمي، كانت أيضاً تمكّن «الأثرياء من توسيع سيطرتهم على اقتصادات الفقراء». وبالنظر إلى التدفقات الداخلة والخارجة للدخل المرتبط باستثمارات الشركات متعددة الجنسيات في الولايات المتحدة، في الخمسينيات والستينيات، لاحظ باران وسويزي: «يمكن للمرء أن يستنتج فقط، بأنّ الاستثمار الأجنبي، ناهيك عن كونه مخرجاً للفائض المولّد محلياً، فهو أيضاً الأداة الأكثر فاعليّة لنقل الفائض المولّد في الخارج إلى البلد الذي قام بالاستثمار».
يقول باران وسويزي في كتاب «ملاحظات حول الشركات متعددة الجنسيات»: أنّه بمجرّد قيام الشركات متعددة الجنسيات باختراق بلد ما: «فإنّها تسيطر على كل حجم واستعمال الفائض، الذي يمرّ في أيدي الآخرين، الذين هم مالكو ومشغلو رأس المال من جنسيات مختلفة». وبما أنّ حجم واستعمال فائض الدولة، هو أمر مركزي لتطوير اقتصادها، فيمكننا القول: «إنّ الشركات متعددة الجنسيات هي العدو. ربّما ليست العدو لجميع أنواع التنمية التي تحصل في الدول المضيفة، ولكن للتنمية التي تتفق مع مصالح أيّة طبقة أو مجموعة داخل تلك الدول، غير تلك التي تمّت خصخصتها واختيارها لتخدم رأس المال الأجنبي».
لقد قال جيمس أوكونور في كتابه لعام 1974: «الشركات والدولة» بأنّ الاحتكارات متعددة الجنسيّة ضغطت على حكومة الولايات المتحدة، وعلى القوى الأوربيّة، وعلى الوكالات الدوليّة، التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، من أجل: «صياغة وتنفيذ سياسات اقتصاديّة- سياسيّة تخلق بيئة جاذبة للاستثمارات في الخارج، وتحديداً في البلدان غير المستغلّة». وفي ظلّ تعزيز التنمية الاقتصاديّة، كانت القوى الإمبرياليّة تحاول دمج هذه «البلدان النامية بشكل أوثق في بنية الرأسماليّة العالميّة». وبالتالي، فإنّ ما يسمّى بالتنمية الوطنية في دول الأطراف، كان يتمّ توجيهها أكثر فأكثر عبر المصالح الخاصّة للشركات متعددة الجنسيات. ولهذا كان دور دولة مثل: الولايات المتحدة أن تقنع الدول «النامية» بأنّ زيادة دخول رأس المال الأمريكي لهذه الدول، هو «نافع وضروريّ من أجل نموّها الاقتصادي وتنميتها».
ورغم أنّ الكثير قد تغيّر فيما يتعلّق بدور الشركات متعددة الجنسيات على مدى العقود الأربعة الماضية، فإنّ هذه الحقيقة الأساس لا تزال قائمة. وكما شدد سمير أمين في كتابه «التراكم على مقياس عالمي»: تمارس الشركات الاحتكاريّة، جنباً إلى جنب، مع الدول الإمبرياليّة التي تدعمها، سطوتها على الدول القوميّة في الأطراف.
رأس المال الاحتكاري المعولم والإمبرياليّة الجديدة
إنّ النظرية الأساس للشركات متعددة الجنسيات، والمتجذرة في نظريّة رأس المال الاحتكاري، والتحليل الماركسي العام للتراكم، والتي طورها اقتصاديون سياسيون ماركسيون في الستينيات، لها ميزة على جميع وجهات النظر الأخرى، بحيث يمكنها أن تساعدنا على فهم التغيرات الشديدة، التي حدثت في الإمبرياليّة في زماننا، والأحداث التي قاربتها النظريات السائدة بشكل غير فعّال، عبر مفهوم العولمة الشامل.
كان التحوّل الأساس في الإنتاج العالمي، في ظلّ الإمبريالية الجديدة لرأس المال المالي الاحتكاري العالمي، هو: المفاضلة بين العمالة العالميّة. لقد سمح ذلك بتحوّل الصناعات التحويليّة في العقود الأخيرة، من الشمال العالمي إلى الجنوب العالمي، حيث ارتفعت حصّة التوظيف في الصناعة العالميّة في البلدان النامية من 52% في الثمانينيات من القرن العشرين، إلى 83% عام 2012، وارتفعت حصّة الاستثمار المباشر الأجنبي في الاقتصادات النامية والانتقاليّة، من 33% في 2006 إلى 51% في عام 2010. والسؤال الآن، مع أخذ الدور المتحوّل للشركات متعددة الجنسيات بالاعتبار، هو: كيف تمكّن النظام من نقل الإنتاج إلى تلك الأجزاء من الكوكب، حيث التكاليف العمالية هي الأرخص، والحفاظ في الوقت ذاته، بل وزيادة في بعض الأحيان، على التقسيم بين المركز والمحيط، داخل اقتصاد العالم الرأسمالي.
إنّ الموازنة العمّالية العالميّة- وهي التبادل غير المتساوي، الذي يعتمد على التراتب الهرمي للأجور حول العالم، والذي يقسّم بشكل حاد بين المركز والأطراف - هي وسيلة تقوم من خلالها الشركات متعددة الجنسيات، بالاستفادة من التمايز بين تكاليف وحدات العمالة داخل نظام «القيمة العالمي» الإمبريالي. في ظلّ الرأسماليّة الاحتكاريّة، تسيطر الشركات الاحتكاريّة- الأقليّة على أغلب السوق العالميّة عبر عملياتها العالميّة. علاوة عن ذلك، فإنّ السوق العالميّة ليست متناظرة: فرغم أنّ بإمكان رأس المال- عندما لا تواجهه عقبات، مثل: الضوابط الاحتكاريّة للشركات الاحتكاريّة، أو الحمائيّة التي تمارسها الدول الثريّة- أن يتحرّك بحريّة نسبيّة، لا يمكن للعمالة أن تقوم بذلك. إنّ العمالة عموماً، محصورة داخل الحدود الوطنيّة، فحركتها مقيّدة بسياسات الهجرة. يسمح عدم التناظر هذا، للشركات متعددة الجنسيات بأن تستفيد من فروقات أثمان العمالة الهائلة على المستوى العالمي، وبامتلاك المزيد من الحريّة في السعي لتحقيق أرباح أعلى، من خلال الاستعاضة عالمياً عن العمالة ذات الأجور الأعلى، بالعمالة ذات الأجور الأدنى.
وكما كتب ألبرت بارك، وغواراف ناير، وباتريك لو عام 2013 في «قضايا ووجهات نظر في سلسلة التوريد»: «المحرّك الأساس للاستعانة بمصادر خارجيّة أجنبيّة عبر البحار هو: التكاليف الأدنى. إنّ التباعد الاقتصادي بين الشمال العالمي والجنوب العالمي، في القسم الأول من القرن العشرين، قد مهّد الطريق للشركات متعددة الجنسيات لتحقق وفورات في التكاليف، في النصف الثاني من القرن العشرين. تبعاً لكون الأجور في البلدان النامية هي أقلّ بكثير من الأجور في البلدان المتقدمة، فقد ازدادت الوفورات المحتملة التي يمكن جنيها من التمايز العمّالي، بالتزامن مع زيادة التباعد الاقتصادي. بأيّة حال، الذي سبّب تحقيق هذه الوفورات كان الابتكارات التكنولوجيّة، والتشريعات التي خفضت بشكل كبير تكاليف مزاولة الأعمال، عبر الشركات وحدود البلاد. ثم نشأ الابتكار التنظيمي من أجل حصد الإمكانات التي خلقتها هذه العوامل الاقتصاديّة المساعدة، لتقود إلى نموّ سلاسل التوريد».
من وجهة نظر رأس المال، فإنّ التمايز العمّالي العالمي، والذي يُشار إليه غالباً- بشكل غير مباشر- بمصطلحات القيمة، أو سلاسل التوريد، هو مجرّد «تكتيك عاجل للبقاء»، مطلوب في الديناميات المتغيرة للاقتصاد العالمي الناشئ عن تنافس الشركات العملاقة. وتزعم وجهة النظر هذه بأنّ سبب وجود مثل هذه الشركات هو «الضرورات الجديدة للسيطرة على التكاليف» التي تدفع الشركات للسعي نحو طرق جديدة لاحتواء التكاليف. لقد استمرّ التوسّع في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الجنوب العالمي- المرتبط بالتجارة بين الشركات متعددة الجنسيات - في العقود القليلة الماضية. لكن بالإضافة لذلك، فإنّ الانتشار الجديد للتعاقد من الباطن، أو ما سماه مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أساليب الإنتاج الدولي غير المتساوية NEMs»، هو أمر مذهل.
لقد أصبحت مثل هذه الممارسات بشكل متزايد، جزءاً أساسيّاً من سلاسل القيمة العالميّة، حيث تمّ تركيز النمو في الجنوب العالمي. بين عامي 2005 و2010، تجاوز معدّل نمو العقود من الباطن في العديد من قطاعات التصنيع، بما في ذلك الإلكترونيات والمستحضرات الصيدلانيّة والألبسة، ومعدّل نموّ الصناعة العالميّة ككل. هذا كلّه نتاج رغبة جشعة من الشركات لاستغلال العمالة في الجنوب العالمي، وذلك عبر وسائل متنوعة من السيطرة. أصبحت التعاقدات من الباطن في أكثر الحالات، وسيلة لتطوير أشكال أكثر تطرفاً من الاستغلال، لتصبح أقرب إلى صورة رأسماليّة العصر الفيكتوري، التي فصّلها ماركس في كتابه رأس المال.
طوّر عالم الاجتماع، غاري غيريفي، وزملاؤه، مفهوم السلاسل السلعيّة «التي يحركها المشتري» من أجل التشديد على الزيادة الكبيرة في التعاقد من الباطن في الخارج، من قبل الشركات متعددة الجنسيات «التاجرة» التي لم تعد، أو لم تفعل على الإطلاق، تصنّع منتجاتها، بل تقوم فقط بالتصميم والتسويق لأجل هذه المنتجات.
وفي حينِ، أنّ هذه الآراء يمكن أن تساعد في تفسير ما يحدث على السطح، فإنّ هنالك حاجة إلى منظور راديكالي أو ماركسي لفهم الإمبرياليّة التي تكمن وراء هذا التحوّل، في استراتيجيّة الشركات. فالتمايز العمّالي ليس مجرّد تكتيك للبقاء، بل هو وسيلة للحفاظ على ولتوسيع سيطرة الشركات متعددة الجنسيات الاحتكاريّة- الأقليّة، في سعيها لمراكمة رأس المال. لقد كانت نتيجة ذلك خلق صيغ جديدة من التداعيات الخطيرة على العمالة في جميع أنحاء العالم.
لم تعد الشركات تصنع منتجاتها الخاصّة، بل نقلت العمليّة إلى المصانع الموجودة في الخارج، والتي تكون في الغالب على شكل ورشات استغلاليّة. لقد تمّ في العقدين الماضيين إجراء عدّة دراسات مبهرة على شركات متعددة الجنسيات ذات أذرع إنتاجيّة طويلة، مثل: شركة نايك: فقد بدأت الشركة كمستورد للأحذية من اليابان، ثمّ نقلت إنتاجها كليّة تقريباً، عبر مجموعة من العقود من الباطن، إلى ما وراء البحار، وتحديداً في آسيا.
وبالإضافة إلى الاستغلال المتزايد، والمستمر للعمالة الأجنبيّة، فإنّ نظام التعاقد من الباطن يوفّر «نزعاً لفتيل الكثير من الانتقادات المرتبطة بمثل هذا الاستغلال الجسيم». لأنّ الشركات يمكن أن تتنصّل من المسؤوليّة عبر إلقاء اللائمة على الوكلاء المحليين. فالشركات متعددة الجنسيات التقليديّة كانت تركّز فيما سبق على الاستثمار الأجنبي المباشر، أمّ الآن فتزيد استخدامها للتعاقد من الباطن، بحيث لم يعد الاستثمار المباشر الأجنبي تمثيلاً ملائماً لكامل عمليات رأس المال المالي الاحتكاري العالمي.
لكن كيف استطاعت الشركات العملاقة الموجودة بشكل رئيس في الغرب، أن تحتفظ بالسيطرة على الإنتاج، والاستمرار بمصّ الأرباح من معظم عمليات الإنتاج، والكثير من عمليات الإنتاج المتطور، ونقله إلى الشمال العالمي عبر السيطرة على القيمة وليس عن طريق توليد القيمة؟ كما أشارت فيفيان فينتورا دياز، بأنّه رغم قيام الاقتصاد السائد بربط هذه الشركات، مع تدويل تكاليف العمليات: «فإنّ الشركات متعددة الجنسيات متحضّرة لنقل أيّ نشاط ليس جوهرياً لميزاتها التنافسيّة، سواء في أسواقها أو في صناعاتها، إلى الخارج. إلى حيث يمكنها أن تعمل بتكاليف أدنى، أو أكثر فاعليّة، عبر أطراف أخرى. شريطة أن تكون الأخطار المرتبطة بهذا النقل إلى الخارج محدودة، أو يمكن احتوائها».
ويبقى مع ذلك، هنالك مخاطر عديدة أمام الشركات متعددة الجنسيات: ماذا لو أصبحت الاقتصادات الناشئة ودولها، قويّة بما فيه الكفاية لفرض بعض السيطرة على الإنتاج، وعلى نظم المعلومات التي تحكم الإنتاج، وعلى الظروف القانونيّة والتجاريّة ...الخ؟ ماذا عن خطر الاضطرابات العماليّة الناجمة عن الاستغلال المفرط لها؟ كيف يمكن للشركات متعددة الجنسيات، أن تحتفظ بالسيطرة على التكنولوجيا في ظلّ هذه الظروف؟ ما مدى احتمال كسر بعض سلال التسليع العالميّة التي باتت تعتمد عليها هذه الشركات؟
إن كنت مكان الشركات متعددة الجنسيات، فستقوم أولاً وقبل كلّ شيء بإبقاء نظام الاستغلال القائم على الاستملاك العالمي، دائراً تحت السيطرة الاحتكاريّة على التمويل والتكنولوجيا، وذلك بدعم من القوى الإمبرياليّة للدول في مركز النظام. لقد أوضح سمير أمين في الواقع، بأنّ المركز الاقتصادي العالمي يحافظ على سيطرته قائمة عبر خمسة احتكارات: التمويل، والتكنولوجيا، وموارد الكوكب، والاتصالات والقوّة العسكرية. وتتطلّب هذه الاحتكارات الخمسة، الدور النشط الذي تؤديه دول المركز. إنّ سيطرة المركز على التمويل والتكنولوجيا والاتصالات، مدعوماً بالجيش والسيطرة الجيواستراتيجيّة للدول الرأسماليّة، هو ما سمح للشركات متعددة الجنسيات في الدول الإمبرياليّة الرئيسة، بترحيل الإنتاج عالمياً دون الخوف من الاستيلاء عليها، وهو ما سمح لها بنزع حصّة الأسد من القيمة المنتجة.
القول الفصل
من الواضح، أنّ التمايز العمّالي العالمي، أي فرق تكاليف العمالة بين الدول المتقدمة والنامية، هو العنصر الرئيس في النظام الإمبريالي المعاصر. فهو يعزز استغلال عمّال الجنوب العالمي، ويوسّع جيش العمالة الاحتياطي، الذي يطلبه تراكم رأس المال العالمي، والذي يحتاج «أعداداً محتملة هائلة من العمالة في العالم الثالث، من أجل خلق قوّة عمل منخفضة الأجور». بما أنّ الشركات متعددة الجنسيات تعتمد على عمليّة التبادل اللامتساوي، حيث الاختلافات في الأجور أكبر بكثير من الاختلافات في الإنتاجيّة، وتفتقر بشكل متزايد إلى أيّة علاقة مباشرة بالعمال، أو بالفلاحين الذين ينتجون بضائعهم، فإنّه يصعب الوقوف على تدفقات الأرباح من المصنعين، أو المنتجين المحليين إلى عملائهم الشماليين، ويتمّ بالتالي عدم التصريح عنها. يتمّ إخفاء الكثير عبر المحاسبة الوطنيّة للدخل التي تعادل «القيمة المضافة» لكلّ من يتلقى الدخل.
أشار جون سميث في مقاله «وهم الناتج المحلي الإجمالي» إلى القيمة التي تقوم الشركات المتركزة في الشمال «بالاستيلاء عليها» من الجنوب العالمي، والتي يخسرها بالتالي العمّال الواقعون تحت الاستغلال الشديد في الجنوب، وهم الذي ولّدوا هذه القيمة. يعكس التمايز العمّالي العالمي، حقيقة أنّ عمليات مراكمة رأس المال مرتبطة بالعلاقات اللامتساوية الموجودة في الدول القوميّة، ومرتبطة بارتفاع معدّل استغلال عمّال الجنوب العالمي، حيث لا تزال الدولة تلعب دور أداة ومكان التراكم الرأسمالي.
في الآونة الأخيرة، أدّى نموّ الاقتصادات الناشئة إلى تهديد هيمنة الشمال العالمي على الاقتصاد العالمي، والذي تمارسه عبر شركاته متعددة الجنسيات. ممّا أدّى إلى قيام المركز في الاقتصاد العالمي، بمحاولة فرض اتفاقات تجارة دولية جديدة مصممة لإطالة أمد سطوة جوهر الإمبرياليّة الحالية. لاحظت الاقتصاديّة جاياتي غوشي في عام 2015، بأنّه: «خلال الخمس وعشرين سنة الماضية، شهد العالم ازدياداً هائلاً في المعاهدات والاتفاقيات، وغيرها من الآليات التي يفرض بها رأس المال العالمي القواعد والتشريعات، وأساليب السلوك على الحكومات وعلى المواطنين». وقد أعطت مثالاً على ذلك اتفاقيتي «الشراكة العابرة للمحيط الهادئ» و «الشراكة الاستثمارية العابرة للمحيط الأطلسي»، حيث حاولت «القوى الإمبرياليّة» أن تحافظ على هيمنتها المستمرّة «بتصعيب الأمر على الدول الصاعدة أن تلحق بها، وأيضاً من أجل تأمين سطوة الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، التي توجد مقراتها في المركز».
ورغم التأطير المضلل الذي يسوقه «التبريريون» بأنّ هذه الشركات حصيلة حتميّة محايدة «للعولمة»، فإنّ نظرة نقديّة عن قرب ترينا بأنّ المرحلة الحاليّة من العولمة ليست سوى مرحلة جيدة من الإمبرياليّة، استخدمها رأس المال والدول التي هي أدواته، من أجل وضع «مجموعة من الشروط التي يمارس من خلالها سيطرته على أنظمة الإنتاج التي تتم في أطراف العالم الرأسمالي».
خوف المستغلّين مما هو قادم
كما قال باران وسويزي قبل نصف قرن: «إنّ الطموح الأكبر للشركات هو: أن تجعل العالم مكاناً آمناً لها»، وهذا يعني بتعبيرات أكثر إيديولوجيّة، أن تحمي «العالم الحر» وأن توسّع حدودها متى وأينما أمكن، وهو الهدف المعلن لسياسات الولايات المتحدة منذ نشر «مبدأ ترومان» عام 1947. وكما سمعنا أوباما يقول في مقرّ إدارة شركة «نايك» متعددة الجنسيات في أيّار 2015، معبراً عن مخاوفه: «علينا أن نجعل أمريكا هي من تكتب قواعد الاقتصاد العالمي، طالما أنّ اقتصادنا في موقع القوّة العالمي... لأننا إن لم نكتب القواعد للتجارة حول العالم، فسيأتي وقت تقوم فيه الصين بذلك». لكن هيهات أن يعود الزمن للوراء!