الثقافة السائدة والمصالح الطبقية... مصادرة ثقافات الشعوب وتسليعها
كريستيان بارينتي كريستيان بارينتي

الثقافة السائدة والمصالح الطبقية... مصادرة ثقافات الشعوب وتسليعها

في صفوف العلوم الاجتماعيّة الأكاديميّة، يتعلّم الطلاب بأن ينظروا إلى الثقافة بوصفها تمثّل عادات وأعراف المجتمع، بما في ذلك لغته وقوانينه وديانته. لهذا التعريف صدىً محايد لطيف، لكنّ الثقافة أبعد ما تكون عن الحياد. إنّ الكثير ممّا يتمّ اعتباره »ثقافتنا المشتركة» ما هي إلّا انتقال انتقائي لقيم الطبقة المهيمنة.

تعريب وإعداد: عروة درويش
فهم، أنطونيو غرامشي، هذا الأمر عندما تحدّث عن هيمنة الطبقة، فالدولة كما قال ليست سوى: »الخندق الخارجي الذي يتلطّى خلفه نظام قويّ من القلاع والتحصينات»، شبكة من القيم والمؤسسات الثقافيّة التي لا نفكر فيها عادةً بشكل سياسي. إنّ ما ندعوه »ثقافتنا» هو إلى حدّ كبير انعكاس لترتيبات الهيمنة داخل النظام الاجتماعي، والتي تفضّل بشدّة مصالح معينة على مصالح آخرى.
فعلى سبيل المثال: طوّر المجتمع الذي قام على عمالة العبيد ثقافة عنصريّة بشكل سريع، بحيث أُتخمت بها قوانينه وعلومه وأساطيره الخاصّة، ومعها آليات القمع المباشر ضدّ العبيد ومنتقدي نظام العبوديّة كلها. بعد إلغاء الرق، تستمرّ العنصريّة في تحصين العلاقات الاجتماعيّة غير المتساوية، وهو ما عناه، إنجلز، بقوله: إنّ العبوديّة تترك »لدغتها السامّة» لفترة طويلة بعد تجاوز التاريخ لها.
فالثقافة إذن، ليست قوّة مجردة تطفو في الفضاء ثمّ تستقر علينا، وذلك رغم أنّ الطرق غير الواعية التي تؤثّر بنا فيها تجعلنا نشعر وكأنّها كينونة منفصلة وموجودة في كلّ مكان. في الحقيقة: الثقافة تتوسط البنية الاجتماعيّة. نحصل على ثقافتنا إمّا من شبكة العلاقات الاجتماعية التي تحوي أشخاصاً آخرين، من مجموعات رئيسة مثل: الأسرة، والأقران، وغيرها من الجماعات غير الرسميّة داخل المجتمع المحلي، أو كما يحصل بشكل متزايد: من المؤسسات المفصلة رسمياً والمجازة قانوناً، مثل: المدرسة، والإعلام، والكنائس، والوكالات الحكوميّة، والشركات والجيش.
وهذه المؤسسات المرتبطة بمصالح الطبقة الحاكمة عن طريق الشراء أو العقيدة، يتم إظهارها بشكل غير حقيقي ومستمر، وكأنّها محايدة سياسياً، ولا سيما ممّن يشغلون مناصب قياديّة داخلها، أو ممّن ينتفعون منها. إنّ ما قاله غرامشي عن الجيش يمكن أن ينسحب على المؤسسات الرأسماليّة الأخرى في المجتمع جميعها: »إنّ ما يسمّى بالحياد يعني فقط دعم الجانب الرجعي».
النسبيّة الثقافيّة
عندما يتمّ التعامل مع الثقافة على أنّها ليست أكثر من تراكم بريء للحلول والممارسات، وينظر إلى كلّ ثقافة على أنّها شيءٌ طاهر، يتمّ عندها قبول الثقافات جميعها دون أيّ تمحيص، وتصبح »النسبيّة الثقافيّة» هي المعيار المُقترح. لذلك نسمع على الدوام، أنّ علينا أن نتجنّب الاستعلاء الإثني، وأن نحترم الثقافات الأخرى جميعها. وممّا لا شكّ فيه، بأنّه بعد قرون من دوس المستعمرين على ثقافات الشعوب الأصليّة، علينا أن ندرك إدراكاً تامّاً الآثار البغيضة للإمبرياليّة الثقافيّة، والتعصب القمعي اتجاه الثقافات الإثنيّة المتنوعة داخل مجتمعاتنا.
لكنّ الحفاظ على التنوّع الثقافي، لا يجب أن يعطي أيّ شخص الحقّ المطلق بانتهاك حقوق الإنسان الأساسيّة. مثال: الكثير من الثقافات البطريركيّة- الأبويّة متخمة »بالعادات المقدسة» التي تظهر عند الفحص الدقيق لها: أنّها تعزز أسوأ أنواع الإيذاء القائم على الجنس، بما في ذلك إيذاء الطفلات عبر الختان وبيع الشابّات للاسترقاق الجنسي.
فمن السعوديّة، حيث يوجد من يطالب باحترام رجم الزانية، إلى الولايات المتحدة حيث كان يطالبنا أصحاب العبيد فيها باحترام »نمط حياة» أهل الجنوب، يمكن للكثير من الشرور أن تتجمّع تحت راية النسبيّة الثقافيّة. علينا في الحقيقة، أثناء نضالنا من أجل تحسين أوضاع البشر، أن نتحدّى السمات القمعيّة والمدمرة في الثقافات جميعها، بما في ذلك ثقافتنا.
يقدّم منظرو »ما بعد الحداثة» نسختهم الخاصّة من النسبيّة الثقافية. إنّهم يرفضون الفكرة القائلة بأنّ مفهوم »الإنساني» يمكنه تجاوز الثقافة. فبالنسبة لهم، أنواع الثقافة جميعها هي أكبر بقليل من البنى الاجتماعية. وهم يقولون: إنّ تقييم أيّة ثقافة من منبر الحقائق الثابتة والنهائيّة، هو مشروع خطير يحتوي غالباً على بذور الصيغ الأكثر تطرفاً من الهيمنة. ويمكنني أن أقول ردّاً على ذلك بأنّه: حتّى مع عدم وجود حقائق مطلقة، فهذا لا يعني بأنّ الوعي مكبّل بقيود ثقافيّة بشكل ميؤوس منه. فالناس الذين ينتمون إلى مجتمعات مختلفة، وفي فترات تاريخيّة مختلفة، يمكنهم أن يميزوا أشكالاً من القمع الطبقي والإثني والجنسي، في مختلف الثقافات بشكل عابر للزمان والمكان. ورغم أنّ الثقافة متضمنة في تصوراتنا، فهي لا تشكّل مجمل التجربة البشريّة.
يتم توجيهنا للتفكير بالثقافة، على أنّها تراكم قديم للممارسات والعادات، فنستنتج بشكل خاطئ: أنّه من الصعب تعديلها. في الحقيقة، من الثابت بأنّ الثقافة قابلة للتغيير مع تغيّر الظروف الاجتماعيّة والمصالح. مثال: منذ قرابة الأربعمائة عام، كانت النخب الثريّة في أمريكا الوسطى كاثوليكيّة، وهو الانتماء الديني الذي كان يفترض أنّه متأصّل بعمق في ثقافتها. ثمّ في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبعد أن ثبت بأنّ الكثير من رجال الدين الكاثوليك يؤيدون اللاهوت التحرري، قامت تلك النخب نفسها بالتخلي عن كاثوليكيتها، وبالانضمام إلى الطوائف الأصوليّة البروتستانتيّة التي تبنّت خطّاً رجعياً مريحاً أكثر. لقد تجاهلوا تلك القرون الأربعة من »الثقافة الكاثوليكيّة المتأصلة بعمق» في غضون سنوات قليلة عندما استشعروا بأنّ مصالحهم الطبقيّة باتت مهددة.
عموماً، يجب أن تكون التفسيرات الثقافية للظواهر الاجتماعية موضع شكّ على الدوام. مثال: انتقد البعض الأداء الضعيف للجيش المكسيكي في عمليات الإنقاذ أثناء العاصفة التي ضربت أكابولوكو عام 1997، واعتبروه دلالة رمزيّة على السمة الكسولة للمكسيكيين في التعامل مع الأمور. لقد قيل: أنّ هذا الأمر متأصّل في ثقافتهم، فكلّ شيء هو بالنسبة لهؤلاء »الناس» يدلّ على الكسل. لكن عند النظر عن قرب، فإنّ أداء الإنقاذ الضعيف قد تمّت مشاهدته ليس في المكسيك وحسب، بل أيضاً في الولايات المتحدة، وفي الكثير من الدول الأخرى، هذا من ناحية، أمّا من ناحية أخرى، فإنّ اللائمة تقع على من موّل ودرّب وشكّل مستشاراً للجيش المكسيكي: إنّها الولايات المتحدة. لقد أدّى الجيش المكسيكي بشكل مذهل في مدينة تشياباس عندما قام بالأمر الذي تم تدريبه للقيام به. لم يكن ذلك إنقاذ الناس بالطبع، بل قتلهم وشنّ حرب ممنهجة عليهم، وتخويفهم وإحراق محاصيلهم، وإعدام المشتبه بتعاملهم مع القوات المتمردة، وتضييق الخناق على القاعدة الاجتماعيّة لحركة »زاباتيستا». لقد كان أداء الجيش المكسيكي ضعيفاً في عمليات الإنقاذ، لأنّه لم يكن جيشاً لخدمة الشعب كما يفترض به أن يكون، بل جيشاً يقوم على خدمة من يمتلكون المكسيك. تقوم التفسيرات الثقافيّة المعزولة عن الوقائع السياسيّة- الاقتصاديّة بملائمة نفسها بسهولة مع التشويش على الحقائق.
تسليع الثقافة
مع نموّ الاقتصاد الرأسمالي من حيث النفوذ والسلطة، تمّت مصادرة الكثير من ثقافتنا وتسليعها. تسبق القيمة التبادليّة لهذه الثقافة بشكل متزايد قيمتها الاستعماليّة. لقد بتنا هذه الأيام ننتج القسم الأقلّ من ثقافتنا ونشتري القسم الأكبر منها، حتّى لم تعد في الحقيقة »ثقافتنا». نملك الآن مصطلحاً خاصاً لأجزاء الثقافة التي بقيت متجذرة في الثقافة الشعبيّة، فنحن نسميها »الثقافة الفولكلوريّة أو الشعبيّة»، وتشمل الموسيقى والرقص والطب والأساطير الفولكلورية. تبدو لنا هذه العبارات عند التأمل بها غريبة، ذلك أنّ جميع الثقافة تبعاً لتعريفها يجب أن تكون ثقافة فولكلوريّة. حيث إنّ كل الثقافات تنبع من الممارسات الاجتماعيّة التي نقوم بها نحن الشعب. غير أنّ الإبداع الرئيس الشعبي قد بات محدوداً جدّاً لدرجة منحه طابعاً مميزاً له.
يتمّ اليوم تصميم القسم الأكبر من ثقافتنا على شكل ما يسمّى »ثقافة جماهيريّة» و »ثقافة رائجة» وحتّى »ثقافة إعلاميّة»، تملكها وتديرها شركات عملاقة هدفها الرئيس هو مراكمة الثروة وجعل العالم أكثر أماناً لمالكي هذه الثروة. يتمّ تحقيق هذا الهدف عبر إحلال القيمة التبادليّة مكان القيمة الاستعماليّة، وعبر إحلال السيطرة الاجتماعيّة بدلاً من الإبداع الاجتماعي. لقد تمّت هندسة جلّ الثقافة الجماهيريّة كي تشتت انتباهنا عن التفكير في الحقائق الأكبر. تُقصي البهرجة والإطراء الزائف على ثقافة الترفيه، التركيز على الأمور الأكثر إلحاحاً وضرورة. وتستمرّ الثقافة الرائجة المثيرة بإضعاف القواسم المشتركة العامّة. ويتمّ تعديل الذائقة العامّة باستمرار لتصبح أكثر انسجاماً مع ثقافة الطعام البالي والضجيج الشديد، والعروض السطحيّة للتحفيز والبهرجة والعنف الجامح.
لقد أدّى صعود الثقافة الجماهيريّة إلى ضياع ثقافة الشعوب. فبين القرن التاسع عشر وحتّى منتصف القرن العشرين، كانت هنالك ثقافة مميزة للطبقة العاملة، لها قاعات حفلاتها النقابيّة، وأغانيها وشعرها وأدبها ومسرحها ومدارسها الليليّة ومخيماتها الصيفيّة، ومجتمعاتها ذات التعاون المتبادل، وقد تمّ تنظيم الكثير من هذه الثقافات من قبل الشيوعيين والأناركيين والاشتراكيين وبقيّة المجموعات التقدميّة. لكن لم تستطع جلّ هذه الثقافة أن يبقَ على قيد الحياة بعد تلقيها الضربات المتوالية من التلفزيون. ويمكن رؤيّة أثرها بشكل واضح على الطفولة وألعابها ونشاطاتها، التي استُبدلت بالنشاطات ذات الدافع الربحي التي استولت على الثقافة الشعبيّة.
أساطير الثقافة المستقلّة
يقول لي أحدهم ما معناه: »عليك أن تركّز على الاقتصاد، وأن تتركني أتعامل مع الثقافة»، فأرى هذا التقسيم الأسطوري غريباً، لكون وسائل الإعلام جميعها وصناعة الترفيه والمؤسسات الاجتماعية والخرافات السياسيّة مرتبطة بعمق بالثقافة وبالاقتصاد. أشكّ أنّه بإمكان المرء أن يتحدّث بفطنة عن الثقافة، إن لم يستعمل في مرحلة ما ديناميات الاقتصاد السياسي. ولهذا عندما نشير إلى »السياسيات الثقافيّة» فإننا نتوخّى الحديث عن أكثر من حالة التقشّف في تمويل برامج الفنون.
وهنالك أسطورة أخرى تقول: أنّ الحركات الاجتماعيّة ومؤسساتها مستقلّة وغير مترابطة. في الواقع هي متشابكة مع قانون الشركات، ومع التمويل العام والخاص، ومع النخب المركبة التي تحتلّ إدارة الجامعات والكليات والمدارس والمتاحف، وفرق الأوركسترا وصناعة الموسيقى، والمكتبات ودور العبادة والصحف والمجلات، وشبكات البثّ ودور النشر والمؤسسات الخيريّة.
تنشأ بين الحين والآخر تشكيلات ثقافيّة جديدة، ضمن أطر معينة، لا تشكّل خطراً على ترتيبات الطبقة المهيمنة. فيمكننا أن نرى مجموعات تكافح من أجل النسويّة أو المساواة الإثنيّة أو حقوق المثليين أو القيم العائليّة... الخ، وهي جميعها قضايا مهمّة ومصيريّة. ويمكن لهذه المجموعات إذا ما سوّقت لقضاياها على أنّها »نمط حياة» وحسب أن تجد بعض التغطية في وسائل الإعلام السائد. لكنّ الدوائر العليا تقاوم بشكل غريزي أيّ ضغط نحو المساواة الاجتماعيّة، حتّى لو كان ضمن مجال »سياسات الهويّة». ولهذا فإنّهم يستخدمون قضايا »نمط الحياة»، مثل: حقوق المثليين، والحقّ بالإجهاض، كأهدافٍ ملائمةٍ تضلّل عبرها مطالب الجماهير الحقيقيّة.
بهذا تبقى التنازلات ضمن أُطر غير مضرّة بالنخب. مثال: اقتصرت انتصارات سياسات الهويّة على التغييرات في الإجراءات وفي الموظفين، دون أن تمسّ بمصالح الطبقة المؤسسية. مثال آخر: تحدّت النسويّة العسكرة البطريركيّة- الأبويّة، لكنّ النتيجة لم تؤدِ إلى إنهاء العسكرة، بل إلى انخراط النساء في القوى المسلحة. وحتّى النساء اللواتي وصلن إلى مناصب قياديّة في البنية السياسيّة الاقتصاديّة، جميعهن من نمط النساء اللواتي انتفعن من شعارات الحركة النسوية، رغم أنّهن محافظات ومعاديات للحركة النسويّة، أمثال: مارغريت تاتشر ومادلين أولبرايت وتيريزا ماي، وهذه ليست صدفة. ولا تشذّ المهن الثقافيّة والفكريّة عن ذلك. فالأطباء والمحامون وأمناء المكتبات وأساتذة الجامعات... الخ، ورغم تشديد البعض على عدم ارتباط هؤلاء بالبنية الاجتماعيّة السياسيّة- الاقتصاديّة، فأغلب نشاطاتهم يتمّ تنظيمها بشكل مباشر لخدمة مصالح الشركات، ضدّ مصالح ممارسي هذه المهن أنفسهم.
العرض هو ما يخلق الطلب؟
رغم الصورة الخياليّة الزاهية التي تحاول وسائل الإعلام السائدة عرضها، عن أنّ عملية السوق المفتوحة، هي قمّة الديمقراطيّة، وعن كون الطلب هو ما يخلق العرض، فإنّ ما يحصل هو العكس تماماً: فالعرض هو ما يخلق الطلب. فنظام العرض الذي يزوّد المكتبة بالكتب متخم بشكل مسبق بكلّ شيء ممكن، باستثناء ما يفضله القارئ. تكون النقاشات حول الرقابة على المطبوعات عادة ضمن نطاق محدود، كما هو الأمر عندما يتمّ إزالة كتاب ما عن رفوف المكتبة. تُظهر مثل هذه الحوادث نظام المكتبات وهو يصارع كي يبقي نفسه حرّاً ومفتوحاً للجميع. لكن يمكن لنظرة عن قرب أن تبيّن لنا الانتقائيّة المسبقة والرقابة الجارية، قبل أن تحصل الكتب الممنوعة على فرصة وصولها إلى رفّ المكتبة: إنّها الرقابة التي تفرضها سوق الكتب التي تهيمن عليها عدّة تكتلات للناشرين.
ويطال القمع الممنهج، مجالات الثقافة الأخرى أيضاً. لننظر إلى الفنون مثلاً، ولا أتكلّم هنا عن الجدل الذي يخرج حول وجوب عرض لوحة عريّ أمام جمهور البالغين من عدمه. إنّ الصورة الرائجة عن الفنان بوصفه مزوّداً مستقلاً للثقافة الإبداعيّة، هي في الحقيقة صورة مضللة، مثلها في ذلك مثل بقيّة الصور الرائجة عن بقيّة المهنيين. إنّ ما يشار إليه باسم »عالم الفن» ليس شيئاً منفصلاً عن سوق الفن. وقد تمّ منذ فترة طويلة فرض تأثير أصحاب المال على سوق الفنّ هذا، من أمثال هنتغنتون هارتفورد وجون بول غيتي ونيلسون روكفيلر وجوزيف هيرشورن. ولم يتعامل هؤلاء مع الأعمال الفنيّة بوصفها جزءاً من كنزنا العام، بل بشكل رأسمالي حقيقي، أي: بوصفها أهدافاً للاستثمار المالي وللاستحواذ الخاص. لقد موّلوا المتاحف ومعارض اللوحات ومعارض الكتب، ومجلات الفنون، والنقّاد والبرامج الجامعيّة والمراكز والمدارس الفنيّة المتنوعة، وقاموا عن طريقها بالتهرّب من دفع ضرائب كثيرة.
يمارس هؤلاء- بوصفهم أمناء وناشرين ورعاة ومضاربين- نفوذاً على وسائل الإنتاج والتوزيع الفني، ويضعون حدوداً إيديولوجيّة للتعبير الفنّي. ويخاطر الفنانون الذين يتخطون الحدود بألّا يرى أحدٌ أعمالهم. وبينما يحاولون الترويج لفكرة أنّ الفنّ منفصل عن السياسة وبأنّ »الفنّ لأجل الفن»، ويصنفون الفنّ الذي يحوي سياسة بأنّه »بروباغندا»، يقوم هؤلاء الحراس بفرض تعريف ذي دوافع سياسيّة لما يمكن اعتباره فنّاً.
وينطبق الشيء ذاته على توزيع الأفلام السينمائيّة، وإعادة توزيعها على شكل فيديو. تقوم الرأسماليّة ببيعك الكاميرا لتصوّر، والكمبيوتر لتكتب، لكنّك ستواجه بعد ذلك مشكلة التوزيع. هل سيحصل الفلم على عرض جماهيري في آلاف الصالات عبر العالم، أم أنّ المنتج سيعاني في الخمسة أعوام التالية من عمره وهو يحاول عرضه في الجامعات وقاعات النقابات؟ وينطبق الأمر ذاته على المنشورات ودور النشر الكبرى التي ستحرص على عدم طباعة وتوزيع أيّ كتاب يساري ذي قيمة.

محكومون بالأمل
لا يزال هنالك أمل: فمقابل هذا التلاعب الإيديولوجي الاحتكاري كله، تنمو الشكوك أو عدم الرضا الصريح، لدى العديد من البشر، بسبب التفاوت الواضح أحياناً بين الواقع الاجتماعي والإيديولوجية الرسميّة. هنالك حدّ للكذب الذي يمكن للناس ابتلاعه بشأن الواقع الذي يعيشونه. لو لم يكن الأمر على هذا النحو، ولو كنّا جميعاً متآلفين بشكل ممتاز، مع النظام الاجتماعي الذي يلقننا ثقافته المهيمنة، ما كنت لأستطيع عندها تدوين ما أفكر فيه، وما كنتم مهتمين بقراءتها. لقد قال الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس مرّة: »تعمل العادة كمهدئ، بينما يتمّ رفض التحديث، بما في ذلك الخلاف في الرأي، لكونه منبّهاً». يمكنني القول رغم ذلك: بأنّه يمكن للمهدئات أن تصبح خانقة، وللمنبهات أن تنعش. يمكن لمن يعي ما يحدث أن يتحرّك بشكل أفضل ضدّ هذا المد. ليس الأمر أن نصبح أداة للإيمان، بأنّ هنالك منظوراً محدداً، بل فقط أن نقاوم تضليل الثقافة البرجوازيّة المؤدلجة بالكامل. الثقافة ساحة معركة رئيسة للصراع الطبقي. يعلم الحكّام الرأسماليون ذلك، وعلينا نحن بالتالي أن نعلم ذلك.