«شوط طويل ضد الرأسمالية... لكنه غير كافٍ للاشتراكية»..!
لا شكّ بأنّ فنزويلا تمرّ بأزمة عميقة. يرسم مجموعة من الاشتراكيين في البلاد، الذين يدافعون عن إرث هوغو شافيز، صورة قاتمة للحياة اليومية هناك: «أنت بحاجة إلى تسعة عشر أجراً بحدّ أدنى لتغطية تكاليف سلّة الضروريات الأساسية. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك: التضخم الذي يعتبر من بين أعلى المعدلات في العالم، والطوابير التي لا نهاية لها، بسبب النقص الناجم عن التخزين، وإعادة بيع المضاربات، وانخفاض الإنتاج الزراعي الصناعي... كلّ هذا يخلق حالة من الفوضى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غير المسبوقة في فنزويلا».
تعريب وإعداد: عروة درويش
أتاح فشل الحكومة الفنزويلية في الحفاظ على مستويات معيشة مبسطة للمعارضة اليمينية أن تسيطر على الجمعية الوطنية الفنزويلية، مما أدّى إلى مواجهة مريرة بين السلطة التنفيذية والتشريعية، والتي لم تحلّ بعد بطريقة أو بأخرى.
تحت الضوء
لا يمكن أن يكون هنالك حساب صادق للسياسات التي جرت بشكل خاطئ في فنزويلا دون الاعتراف بالأشياء الصحيحة التي حققتها «الشافيزية».
بدأت التجربة التي أطلقها هوغو شافيز، بعد أن أصبح رئيساً في عام 1999 مع برنامجٍ متواضعٍ للإصلاح الاجتماعي أصبح محطّ انتباه اليسار الدولي بشكل تدريجي. وقد أدّى الانقلاب الفاشل ضد شافيز في عام 2002، والانتصار الذي حققه في استفتاء عام 2004، إلى زيادة الاهتمام بفنزويلا. وكان واضحاً بالنسبة لمعظم المراقبين أنّ شيئاً مثيراً يحدث، بحلول وقت إعادة انتخابه في عام 2006، شيئاً له آثارٌ كبيرة على المنطقة، إن لم يكن على العالم.
ساعدت التطورات في أماكن أخرى في أمريكا اللاتينية على بلورة هذا التصور، بدءاً من تنصيب لويز لولا دا سيلفا رئيساً للبرازيل عام 2003، ووصولاً إلى دورة الاحتجاج في بوليفيا التي جلبت في نهاية المطاف إيفو موراليس و«التحرّك لأجل الاشتراكية» إلى السلطة.
كان من المحيّر بما فيه الكفاية بالنسبة للمعلقين أن يجد أيّ شخص في فنزويلا في شافيز شخصيّة جذابة، أمّا أن يكون له نادٍ من المعجبين في أوروبا والولايات المتحدة فهو أمرٌ قد ضربهم مثل صاعقة. والتفسير الوحيد الذي وجدوه لهذه الظاهرة هو «الابتهاج الأبله» بخطاباته ضدّ إدارة بوش – مثلما حصل في الأمم المتحدة عام 2006، عندما لوّح بنسخة من كتاب نعوم تشومسكي «الهيمنة أو النجاة» مشيراً إلى الرئيس الأمريكي بأنّه شيطان.
الشافيزيّة في السلطة
لو كانت الخطب المسهبة ضدّ بوش وتشيني كافية للفوز بالمعجبين، لأصبح محمد أحمدي نجاد هو بطل الساعة. إنّ المقارعة اللفظية لشافيز قد لعبت في الواقع دوراً صغيراً في زيادة شعبيته، فقد كان سجل حكومته على الصعيد المحلي هو الأمر المهم. فما إن تنبهت الحكومة الشافيزية لمحاولات المعارضة اليمينية المبكرة للتخريب الاقتصادي، حتّى قادت تخفيضات كبيرة في نسب الفقر، وأطلقت مبادرات رئيسة في مجال الرعاية الصحيّة والتعلم، أدّت إلى تحسين حياة الملايين.
فقد ارتفعت نسب الإنفاق الاجتماعي من 8.2% من إجمالي الناتج المحلي عام 1998 إلى 13.6% بعد ثماني سنوات. وانخفض الفقر من 55% عام 2003 إلى ما يزيد قليلاً عن 30% عام 2006. وعندما تولّى شافيز السلطة أوّل مرّة، كان هنالك بالكاد 1600 طبيب للرعاية الأوليّة لخدمة 23.4 مليون نسمة من السكان. وبحلول ولايته الثانية، كان هناك ما يقرب من 20 ألف طبيب لخدمة 27 مليون نسمة. وقد التحق أكثر من مليون شخص ببرامج محو أميّة الكبار. سهّل ارتفاع أسعار النفط من هذا العمل بطبيعة الحال، لكنّ منتقدي الشافيزية الأكثر تطرفاً قد تجاهلوا هذه النجاحات جملة وتفصيلاً.
إضافة إلى هذه الإصلاحات الاقتصادية، فقد غيّرت حكومة شافيز النظام السياسي في فنزويلا، بجعله أكثر ديمقراطية وانفتاحاً. ورث شافيز ثقافة سياسيّة موسومة بالعنف والفساد وبقطيعة شبه تامّة بين المواطنين الفنزويليين وبين حكّامهم، لقد كانت اللحظة الحاسمة التي قادت إلى مرحلته هي «كاراكاسو» عام 1989، عندما مزّق الرئيس المنتخب حديثاً كارلوس آندريس بيريز تعهده بالخروج من برنامج التقشف الذي فرضه صندوق النقد الدولي، والذي يجبر على القيام بتخفيضات عميقة في الإنفاق العام، ومن ثمّ قام بإرسال الجيش للتعامل مع الاحتجاجات في كاراكاس وفي مدنٍ أخرى.
لا يزال العدد الدقيق للضحايا مجهولاً، حيث دفن العديد من القتلى في مقابر جماعية، لكنّ الرقم الحقيقي قد يصل إلى 3 آلاف شخص. أما تلك المجزرة فقد مرّ عليها بصمت أولئك الذين انتقدوا شافيز بكونه «جلب نوعاً جديداً من المرارة إلى الحياة السياسية في البلاد» وبأنّه «ألّب الناس بعضهم على بعض».
اشتراكية القرن الحادي والعشرين
لم يشر شافيز إلى أنّ الاشتراكية هي هدف إدارته إلّا في انتخابات 2006 الرئاسيّة، ولتوخي الدقّة «اشتراكيّة القرن الحادي والعشرين». وحثّ شافيز جمهوره في خطابٍ متأخر على «تذكّر الاتحاد السوفيتي الذي ذهب مع الريح. أحد الأشياء الجديدة جذرياً في نموذجنا هو طابعه الديمقراطي»، وعلى الرغم من هذا الانتقاد الصريح، لم يكن واضحاً تماماً ما ستكون عليه اشتراكية القرن الحادي والعشرين بالنسبة للتشافيزية. حيث اشتكت فنزويلا، مراراً وتكراراً، من النظام الرأسمالي، ودعا إلى انفصالٍ حاسمٍ عنه، ومع ذلك، فإنّ معظم الاقتصاد الفنزويلي لا يزال في أيدي القطّاع الخاص. توسّع قطاع الدولة، وكانت هنالك بعض التجارب الواعدة في الإدارة الذاتية للعمّال، ولكن احتفظت الطبقة الحاكمة القديمة بجزء كبير من ثروتها، وبدأت طبقة ثريّة جديدة - وهي التي تسمّى «البورجوازيون البوليفاريون Bolibourgeoisie»- بتدعيم موقفها.
إرثٌ غامض
ترك شافيز عندما أصبح مريضاً جداً ثلاث مشاكل جوهرية، ينبغي على خلفائه التعامل معها بحسب البعض. الأولى هي مسألة القيادة. كان من الصعب العثور على بديل لشافيز، وهو رجلٌ ذو مواهب سياسيّة نادرة وكاريزما كبيرة. وعلى الصعيد الاقتصادي، رحل شافيز عن فنزويلا أكثر اعتماداً من أيّ وقت مضى على صادرات النفط. كان هنالك الكثير من الكلام في السنوات الأولى من حكومته حول تنويع الاقتصاد، وبناء قاعدة صناعية أقوى، ولكنّ تلك الخطط سقطت على طول الطريق مع استمرار ارتفاع أسعار النفط، وكان من الممكن أن تحقق أيّة حكومة نجاحاً ملحوظاً في التغلب على ما يسمّى «بالمرض الهولندي» في الوقت الذي اشتركت فيه عائدات النفط المزدهرة مع الواردات الزهيدة التي ثمّنت الصناعات الفنزويلية خارج السوق المحلية. ولكنّ الشافيزيين زادوا من تعقيد المشكلة بالاقتراض الكبير من دول مثل الصين، معتمدين على افتراض أنّ الأسعار لا يمكن أن تنخفض كثيراً. وعندما وصلت الأسعار إلى الحضيض في السوق، وجدت فنزويلا نفسها مكشوفة.
وفوق هذا كله، ورث مادورو نظاماً لأسعار الصرف ولضبط الأسعار، كان قد أُنشئ أساساً لمواجهة التخريب الاقتصادي، الذي تقوم به المعارضة في العقد الأول من القرن العشرين، ولكنّه بات غير فاعل بشكل عميق منذ فترة طويلة. ولجميع تعقيداته المحيرة، فقد كان لهذا النظام آثار ضارّة (ولاتزال) واضحة بما يكفي. سيتمكن أيّ أحد يستطيع أن يحصل على الدولار بسعر الحكومة الرسمي أن يبيعه بالسوق السوداء بفارق كبير. وظهر الحافز ذاته بشأن الغذاء والأدوية وبقيّة البضائع الأساسيّة الأخرى. أشار اقتصاديون متعاطفون أمثال مارك ويسبروت إلى الآثار الضارّة لهذا النظام، منذ سنوات، ودعوا إلى إصلاح جذري، لكنّ المشكلة تُرِكَت لتتفاقم.
حرب اقتصاديّة
لام مادورو المعارضة اليمينية على قيام الأزمة، واتهمهم بشنّ حرب اقتصادية ضدّ الحكومة. لكن ليس من حاجة لطرح دافع سياسي مباشر: كلّ ما كان على اللاعبين أن يفعلوه هو اتباع حوافز السوق والنتيجة ستكون تحطّم عجلة الاقتصاد.
إن كان هنالك أيّ شيء ليقال فهو: أنّ الأزمة الفنزويلية تنمّ عن غموض عبارة «اشتراكية القرن الواحد والعشرين» في فنزويلا، حيث وجدت نفسها واقفة في اللامكان. فمن خلال فرض سيطرة على الأسعار أثناء ترك إنتاج وتوزيع البضائع بيد القطاع الخاص، فقد قطعت الحكومة البوليفارية شوطاً طويلاً ضدّ الرأسمالية، ولكنّه لا يكفي لأجل الاشتراكية. إنّ انهيار أسعار النفط كان كفيلاً بخلق صعوبات لفنزويلا في أيّة ظروف، ولكنّ الفشل في إصلاح نظام الضوابط هو خطأ خطير وقد يثبت بأنّه قاتل للعملية.
من المغري أن نسأل كيف كانت حكومة شافيز لتستجيب للأزمة لو عاشت بضع سنوات أطول. فالحكومة الحالية سلبية بشكل ملحوظ. العديد من المراقبين يعتقدون بأنّها مترددة في تحدي مصالح الفساد المكُتسبة داخل طبقة «البورجوازيين البوليفاريين» الذين يحققون أرباحاً كبيرة من الوضع الحالي.
لن توصل أحلام اليقظة بالقائد المفقود فنزويلا إلى أيّ مكان بطبيعة الحال. ومن الصعب أن نرى كيف يمكن حلّ أزمة اليوم بطريقة تحافظ على الإرث البنّاء من الشافيزية: قبل كلّ شيء، إنّها البرامج الاشتراكية التي فعلت الكثير لتحويل حياة الطبقات الشعبية، والشعور العميق بالعزم الذي أخذ مكانه بين القطاعات المستبعدة تقليدياً من السكان. لو أنّ لدى فنزويلا معارضة عادية، لكان استبدال الحكومة كفيلاً بمنح الحركة الشافيزية فرصة لاستعادة صلابتها، وعكس الأشياء الخاطئة التي حدثت.
إلّا أنّ المعارضة تحتمل أن يقال عنها أيّ شيء باستثناء «طبيعية»: فهي لا تزال واقعة تحت هيمنة نخبة أوليغارشية حاقدة، وجناحٍ فنزويليٍ يمينيٍ لا يمكن الوثوق به لإظهار أيّ احترام للحقوق الديمقراطية إن هي نالت السلطة.
إنجازات الولاية الثانية
بحلول الوقت الذي كان فيه شافيز قد بدأ ولايته الثانية، يمكن لحكومته أن تدعي الفضل في حدوث تحول ملحوظ، كما وصفت الباحثة جوليا بوكستون: وفقاً لاستطلاع «لاتينو باروميترو»، ارتفعت نسبة الفنزويليين الراضين عن نظامهم السياسي من 32٪ في عام 1998 إلى أكثر من 57٪، والفنزويليون الآن أكثر نشاطاً سياسياً من مواطني أية دولة أخرى شملها المسح، فنسبة 47٪ يناقشون السياسة بشكل منتظم (مقابل متوسط إقليمي عند 26٪) في حين أنّ 25٪ منهم ناشطون في حزب سياسي (المتوسط الإقليمي هو 9٪). ويعتقد 56٪ بأنّ الانتخابات في البلاد «نظيفة» (41٪ في المتوسط الإقليمي). وبالإضافة إلى الأورغوايين، فإن الفنزويليين يشكلون أعلى نسبة ثقة في الانتخابات، كأكثر الوسائل فعّالية لتحفيز التغيير في البلاد (71٪ بالمقارنة بـ57٪ لكامل أمريكا اللاتينية).
وقد أعطى الدستور الجديد للمواطنين فرصة أكبر لإخضاع حكامهم للمساءلة، من خلال حقّ عزل جميع الموظفين العموميين (استفادت أحزاب المعارضة من ذلك في محاولة العزل الفاشلة في استفتاء 2004). وتمّ تحقيق كلّ ذلك على الرغم من جهود المعارضة اليمينية المستمرّة للإطاحة بحكومة فنزويلا المنتخبة بالقوّة، واستبدالها بدكتاتورية على نمط بينوشيه. ورغم كلّ ذلك، فقد أظهر تشافيز تساهلاً تجاه منظمي الانقلاب أكثر ممّا كان متوقعاً من أيّة حكومة في أوروبا الغربية، أو أمريكا الشمالية.
«يسار جيد- يسار سيء»
كان الحديث عن «اليسار الجيد» و«اليسار السيء» موضة عندما كان المدّ في ذروته. حيث كان يفترض بأنّ حكومة لولا العمّالية في البرازيل هي الممثل عن «اليسار الجيد المعتدل والإصلاحي والمحترم»، بينما كان الممثل عن «اليسار السيء» هو شافيز. لقد كانت هذه القسمة مضللة وكاذبة على الدوام. لم يعترف لولا بنفسه بصلاحيتها: فقد حافظ الرئيس البرازيلي على علاقة طيبة مع شافيز، ودعم إعادة انتخابه عام 2012 (وهو الأمر الذي أثار انزعاج الصحفيين الذين حاولوا تقديم مرشح المعارضة اليمينية على أنّه «لولا فنزويلا»). لكن من الواضح بأنّ حزب العمال كان مختلفاً أثناء حكمه: فقد اعتمد مقاربة أكثر حذراً وتوافقاً، وأقل ميلاً للاصطدام المباشر مع الأوليغارشية البرازيليّة.
ولذلك، فمن المثير للدهشة كيف أنّ كلا التجربتين قد واجهتا الكبح في الوقت نفسهِ تقريباً، مع إطاحة اليمين البرازيلي بديلما روسيف عبر «انقلاب برلماني» بينما كانت حكومتها تكافح لمواجهة ركود عميق. لم يكن الفساد سوى ذريعة للانقلاب اليميني، ولكن لا أحد يشكّ بأنّ حزب العمال قد غرّد مبتعداً كثيراً عن ندائهِ الأصلي. لقد كشفت الأزمات الموازية عن كم تدين حكومات أمريكا اللاتينية الإصلاحية لطفرة أسعار البضائع الأساسية طويلة الأمد، والتي حوّلت ميزان القوى الاقتصادي العالمي لصالحها. لم تحصّن زيادة الاعتدال في الحكم اليسار البرازيلي من نهاية هذه الفقاعة.
وإن كانت فنزويلا والبرازيل ترمزان إلى نهجين للإصلاح في عصر العولمة، فإنّ حكومة المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا تمثّل طريقاً ثالثاً: الاستسلام الكامل للنيوليبرالية الجديدة. وقد أشادت بهذا الاستسلام، باعتباره مثالاً يُحتذى على حسن النية، ذات القوى التي ذمّت شافيز وتعالت على لولا. لقد ترك نهج حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الهياكل الاقتصادية للفصل العنصري سليمة تماماً، وكان مصحوباً بانتشار الفساد في الدوائر الحاكمة، وتطلّب كمّاً كبيراً من القمع للإبقاء على الاحتجاج الاجتماعي تحت السيطرة. ولا يمكن لأحد أن يقدم لهذا الأمر حصيلة أكثر إسعاداً من أولئك الموجودين في البرازيل أو فنزويلا.
*عضو رابطة الاقتصاد الاشتراكي، والرابطة الأمريكية الاقتصادية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 821