العالم يتغير: فلندر ظهورنا للتوافه الليبرالية!

العالم يتغير: فلندر ظهورنا للتوافه الليبرالية!

قد يكون من السابق لأوانه تلخيص الأحداث الدولية للعام الجاري الذي يشارف على الانتهاء، لكن ما قاله المحللون كلهم، عن تغير في التوازنات الدولية قد حدث بالفعل، والنتائج الرئيسية لذلك جلية وواضحة للعموم: إن النظام العالمي يدخل مرحلة جديدة من التطور، لم نعهدها منذ سيادة نظام القطب الواحد على الصعيد العالمي ككل.

 

من السذاجة القول: أن تغير نظام القطب الواحد، والمضي نحو عالمٍ متعدد الأقطاب (في مسارٍ قد لا تكون نهايته تعدد الأقطاب فحسب) هو نتيجة للاستفتاء حول عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، ولا انتصار دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

بقلم: فيودور لوكيانوف

إعداد: رنا مقداد

إن ما سبق، ليس في الحقيقة سوى انعكاس جليّ، وأعراض للتطورات التي يشهدها تغير موازين القوى الدولي، وليس العكس. اليوم، يمكن القول بشكل واضح وملموس: أن نموذج النظام العالمي «التوسعي المفتوح والشامل»، الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها قد أصبحت سيادته على العالم شيئاً من الماضي.

الغرب كنقطة مرجعية.. انتهى

إن الطبقات الحاكمة في «الدول المتقدمة» مجبرة اليوم من مواطنيها على تحويل انتباهها إلى الشؤون الداخلية، في حين أن خططها للتوسع في الخارج، وهو ما اعتادت عليه ردحاً طويلاً من الزمن، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية أو ثقافية، تشهد كبحاً، بحكم الظروف الموضوعية. وإن هذه الخطط التوسعية من غير المرجح لها أن تصل إلى وقف تام سريع، ولكن ذلك التوجه الذي بدا واضحاً في مرحلة ما بعد الحرب الباردة نحو الهيمنة العالمية، والذي كان عنيفاً جداً وسريعاً جداً بالمقاييس التاريخية، يسير الآن، سواء أراد مفكرو النيوليبرالية أن يعترفوا بذلك أم لا، نحو الاضمحلال. 

بالنسبة لروسيا، فإن ذلك يعني أيضاً بداية مرحلة جديدة أكثر من أي وقت مضى، فمنذ تفكك الاتحاد السوفيتي، اعتبرت بعض الأوساط في روسيا أن عليها أن تأخذ الغرب كنقطة مرجعية، وتشعر بالحاجة إلى ملائمة موقفها من النظام العالمي بطريقة أو بأخرى، ليتساوق مع معايير النموذج الغربي. وبغض النظر عن الوضع الجيوسياسي، فلا شك أن أوروبا ضرورية كعنصر من عناصر التنمية الداخلية الروسية. 

مباشرة بعد الحرب الباردة، كانت هناك اقتراحات، بأن تنضم روسيا إلى المؤسسات السياسية الغربية، وهي المؤسسات نفسها التي تتحكم بمجمل النظام العالمي برمته، على مدى السنوات الـ20 الماضية. وكان هذا هو القرار الاستراتيجي الرئيسي المتبع في وقت مبكر من عام 1990 في موسكو. إلا أنه، ومنذ النصف الثاني من عام 2000، تركز موسكو بشكل متزايد على صد المحاولات الغربية الهادفة إلى تصدير النموذج الغربي باعتباره «الصحيح والضروري». وبحلول منتصف 2010، بدأ الوضع أكثر وأكثر يشبه «الحرب الباردة» الكاملة، وقبل بداية عام 2016، ظهرت مؤشرات مقلقة بإمكانية حدوث المواجهة المباشرة. لكن بعد ذلك، أخذ التغير مكانه في الغرب. 

عودة منطق الردع!

يبدو أن واشنطن تعمل الآن على إنعاش المنطق المجرب والمختبر، وهو منطق الردع، إذ أن هناك افتراضاً واسع النطاق الآن- وخاصة عبر ما يذكره ترامب: بأن هدفه هو «جعل أميركا بلداً عظيماً مرة أخرى»، وهو القول بأن الحل الأمريكي يكمن في العودة إلى سنوات الخمسينات من القرن الماضي، التي كانت فترة تميزت بالتحسن الاقتصادي، من خلال الاندفاع الناتج عن الثقة بالنفس، والمحلية المنتصرة، والغياب الهائل للياقة السياسية. 

وعلينا ألا ننسى تلك الفترة، عندما اعتمد الردع النووي ومبادئ الاستقرار الاستراتيجي (يعتمد على قواعد المواجهة النووية) في ذلك الوقت. أوروبا الآن في لحظة تخبط استراتيجي كبيرة جداً، تتعلق بإقرار خياراتها تجاه روسيا. 

قد يصبح هذا السؤال عاملاً خطيراً في التطور الداخلي للعالم القديم في الأشهر المقبلة. من الواضح أن الفكرة الرئيسية السائدة منذ عام 1990 وحتى عام 2000  في روسيا، بضرورة دمجها بطريقة أو بأخرى مع أوروبا الكبرى (بمنطق تبعية روسيا للغرب) إنها قد اختفت عن جدول الأعمال تماماً. وفي السنوات القليلة الماضية كانت الفكرة شبه مجمدة. هناك عاملان يحددان منطق تصرفات موسكو ويساعدانها على تحقيق الانتصارات. أولاً: الخوف لدى العديد من البلدان غير الغربية من الوقوع في مرمى سياسة الولايات المتحدة، والذي قد تحفز عمليات الدمج المعادية للغرب. وثانياً: الأخطاء الحمقاء جداً لكل من الولايات المتحدة وأوروبا، وفي المقام الأول لأسباب أيديولوجية، جعلت روسيا تستفيد منها بمهارة. هل ولد العالم متعدد القطبية أخيراً؟ نعم.

انخفاض فعالية النشاط الأمريكي، والأزمة داخل أوروبا، قد أعطيا روسيا فرصة لاتخاذ خطوات مستقلة، لن تواجه بردود فعل غربية مرحبة. لكن العالم متعدد القطبية قد بات واقعاً لا راد له، وهو في نهاية المطاف ضرورة موضوعية بالنسبة لعدد كبير من الدول، التي وقعت تحت نير الهيمنة الأمريكية في زمن القطب الواحد. 

ما هو شكل العالم

 متعدد الأقطاب؟

السؤال المطروح الآن، هو: كيف سيكون شكل العالم متعدد الأقطاب؟ روسيا يمكن أن تختار الاستمرار في تحدي الهيمنة الامريكية والنفوذ الغربي، ولكن أياً من هذه العوامل لن يذهب بعيداً إلى نهايته، هذا بسبب أن تلك الهيمنة والنفوذ باتا يتراجعان بحكم الوقائع، وليس فقط بحكم التقدم الروسي. 

إن الأفكار الاجتماعية والتكنولوجية والجيوسياسية الجديدة، ستكون على نحو متزايد مطلوبة في كل مكان. وموسكو قد غفلت لزمن قصير عن هذه الفرصة، منذ السنوات الأخيرة من زمن الاتحاد السوفييتي: كان هناك دائماً ما يدعو للقلق. لذلك، يبدو أنه لا وجود للطلب الخارجي على مثل هذه الأشياء. 

الآن، هو الوقت المناسب للبدء بتقديم شيء للعالم حول ابتكاراتنا. شيء ما هو ليس مجرد صد الضغوط الخارجية، أو تجنب الإساءة لمصالحنا، وهو أن نبتكر مفهوماً عالمياً حول «الصالح العام». إن الوقوع في موجة السياسة الواقعية، التي نسيناها منذ فترة طويلة، قد نظر إليها طويلاً على أنها مسار خاطئ، لكن التاريخ يقول: أنه في نهاية المطاف يُصنع التاريخ من أولئك الذين يعتمدون على هذا المفهوم (وهو الذي كان سائداً في الاتحاد السوفييتي بالمناسبة). وبالمناسبة، فإن اعتماد هذا المفهوم عادة يجعل المرء يحمي بشكل أفضل المصالح الخاصة به، وتلك المتعلقة بالعالم ككل. لذلك، فإن النتيجة، هي أنه على روسيا أن تواصل سياساتها المبنية على الواقع، كما تفعل الآن، وأن تدير ظهرها كلياً للتوافه الليبرالية الروسية المحلية، التي تتحدث عن ضرورة «ملء الفراغ الذي يتركه العالم الغربي، من خلال الوسائل ذاتها التي استخدمها العالم الغربي سابقاً، والتي دفعت ثمنها شعوب العالم كلها».

 

أستاذ في العلاقات الخارجية، ورئيس معهد «دراسات السياسات الخارجية والدفاعية» في موسكو

معلومات إضافية

العدد رقم:
788