المواجهة الروسية - الأمريكية: الدوافع والكوابح
من المؤكد أن هناك بعض المبالغات المقصودة حول إمكانيات نشوب صراع عسكري واسع النطاق بين موسكو وواشنطن. ومع ذلك، نقف في هذا المقال عند العواقب والمخاطر التي يمكن أن يؤدي إليها صراع مفتوح مفترض بين القوتين الدوليتين.
ظل الخبراء الدوليون يصرخون لفترة طويلة وهم يقولون: «الحرب على الأبواب!»، حيث تشير توقعاتهم القاتمة إلى أن روسيا والولايات المتحدة على شفا مواجهات عسكرية مباشرة، كما لو كانوا يحاولون إحياء الذكرى الـ54 لأزمة الصواريخ الكوبية.
بقلم: فاتريك روبيرسوك
ترجمة وإعداد: رنا مقداد
إن أي صراع قد يحدث، سيكون على الأرجح من قبيل الضرورة المؤقتة، إذ أن الأطراف ليست مستعدة لمواجهة عسكرية واسعة النطاق إطلاقاً.
في السنوات القليلة الماضية، قامت روسيا بتحديث قواتها المسلحة ليحل العتاد الجديد مستفيداً من العتاد القديم في الحقبة السوفيتية. والكثير من التدريبات وتريليونات الروبلات أنفقت على المعدات الجديدة والمركبات القتالية، كما لعبت شخصية وزير الدفاع الكاريزمية دوراً حاسماً في تغيبر الصورة بأكملها حول الجيش الروسي، وأعادت شعبيته داخل المجتمع.
عسكرياً: موسكو تقوم بردود فعل
هذه الخطوات كلها سببت النمو السريع (والحقيقي) الذي نراه في القوة العسكرية الروسية. قد يقول البعض: أن حلف شمال الأطلسي غير راغب في اتخاذ أية قرارات جادة، ووجوده لا يتعدى كونه «نمراً من ورق» على الحدود الغربية لروسيا. ومع ذلك، فإن غسل الدماغ الذي حصل في العامين الماضيين قد حسَّن بشكل كبير من القدرة على اتخاذ القرار لدى حلف شمال الأطلسي وزاد من فرص تحقيق «التوافق في الآراء» بشأن «التهديد الروسي» المزعوم.
قدرة حلف الناتو على حشد القوات التقليدية القوية بسرعة لا تزال منخفضة، وجنرالات الناتو يعترفون بذلك. ومع ذلك، فإن الإجراءات الأخيرة الفعالة لترتيبات تقاسم وتعزيز القوات الأمريكية النووية في مختلف بلدان أوروبا الوسطى والشرقية تعكس مدى الرعب الذي تعيشه القارة الأوروبية تحت وطأة «الأمريكي» الذي يفزعهم. ومن الواضح أن الحرب لن تحدث في أوروبا (ولا في أوكرانيا، رغم عدم إمكانية التنبؤ بتصرفات قيادتها). ومع ذلك، أينما وجدت قوات حلف شمال الأطلسي، في نهاية المطاف يمكن تعبئتها لمساعدة حلفائها.
وعلاوة على ذلك، تنتهج موسكو إلى حد كبير سياسة دفاعية على مدى السنوات الـ16 الماضية. حتى الآن، وحسب المراقبين المستقلين فإن «غالبية أنشطة موسكو هي رد فعل، وليست فعلاً استباقياً»، إذ يتمتع الكرملين بقدرة على استيعاب الاستفزازات الصغيرة من وقت لآخر (مثل الحوادث الجارية في الجو فوق بحر البلطيق)، ويتمتع بحذر كبير جداً في اتخاذ أي إجراء جدي يتطلب استخدام القوة، وقد يؤدي إلى خسائر ملموسة. حتى عندما أسقطت تركيا الطائرة الروسية على الحدود السورية، لم يكن هناك أي رد عسكري عملي، على العكس من ذلك، استغلت موسكو الأوراق الدبلوماسية ببراعة عالية، لتنتهي الأزمة بعلاقة جديدة مع أنقرة، وبمكاسب جيوسياسية ملموسة لصالح موسكو.
على رؤوس الأصابع
تعتمد موسكو الآن ما يسمى بـ«التدابير غير المتماثلة»، وهي لا تترك أي مجال للاشتباكات المسلحة الكبيرة. بينما الجانب الأمريكي سلبي في توجهاته. إذ يفترض العديد من المحللين أن المرشحين للرئاسة كليهما يدعمان الحرب- والفرق هو فقط في الجدول الزمني.
يعتمد بعض المحللين الذين يقولون بإمكان نشوء مواجهة عسكرية، على أن خطر الحرب قد يكون وشيكاً أكثر من المتوقع بالنظر إلى أن العالم قد يواجه أزمة مالية جديدة في عامي 2017- 2018، من شأنها أن تجعل الداخل الأمريكي المفلس يسير على رؤوس الأصابع.
ومع ذلك، ترامب وكلينتون هما الآن مجرد أسماء لمرشحين. وكالعادة، على المرء ألا يتوهم من الكثير الذي يسمعه في أثناء الحملات الانتخابية، فهناك الكثير مما قد يتغير عندما يصبح أحدهما فعلاً رئيساً للبلاد. وفي الوقت نفسه، لن تقوم إدارة أوباما الحالية بأي شيء مميز. كانت في حالة يرثى لها لأن هناك آراءً متضاربة داخل المؤسسة حول التدخل العسكري في سورية. ومع ذلك، فإن الرئيس أوباما، لا يمكنه أن يترك إرثاً ثقيلاً قبيل مغادرته كرسي الرئاسة. وهو قضى معظم فترة ولايته بسحب القوات الأمريكية من أنحاء مختلفة من العالم، مجبراً وليس مخيراً، وليست لديه القدرة في نهاية المطاف على إرسال المزيد من القوات إلى الخارج، الأمر الذي سيعني الاعتراف بالفشل الذريع لسياسته الخارجية.
أوكرانيا أم سورية؟ لا هذا ولا ذاك!
عاملان يعتمد عليهما بعض المراقبين للقول بإمكانية الاشتباك العسكري الأمريكي- الروسي، أحدهما: الخطاب المستخدم حالياً، حيث هناك الكثير من الكلام والمهاترات، مقابل مستوى شبه معدوم من الثقة، والأمر واضح بأنه لا أحد يتحمل مسؤولية تصريحاته على الجانب الغربي من المحيط الأطلسي.
هناك الكثير من التصريحات التي أطلقت خلال الأشهر القليلة الماضية وكلها تشير إلى حرب مباشرة، ولكن ما نريد قوله في هذا السياق أن من يفكر بأن مثل هذه التصريحات هي «مؤشر» على حرب ما وشيكة، إنما يفكر في عقلية القرنين الماضيين. إذ أن وظيفة هذه الخطابات الدبلوماسية التصعيدية في عالم اليوم، لا تتعدى حدود الإعلان عن حدود التقاطعات والاختلافات بين القوى الدولية. هذا فضلاً عن أن الحروب بالمعنى التقليدي قد انتهت إلى غير رجعة.
من المستبعد تماماً أن تكون سورية- رغم حدة الصراع الدائر فيها- سبباً لاندلاع حرب بين القوتين العظميين، لا سيما أن العمل الجاري بينهما منذ سنوات عدة لا يزال يعتمد على الحوار والتفاوض والتحركات العسكرية المحدودة عندما يقتضي الأمر ذلك.
في المقابل، يبدو أن الأزمة الأوكرانية مرشحة، ربما، لمواجهة عسكرية (محدودة جداً) مفترضة في حال اضطرت القوتان العالميتان على ذلك، وهنا لا أدري حقاً ما الذي قد يضطرهما إلى حرب ولو كانت محدودة، لطالما أن المسائل لا تزال تحل في إطار المواجهات الدبلوماسية والتحركات العسكرية البعيدة عن منطق الحروب التقليدية. إلا أن ما افترضه هنا، هو أنه فيما لو كانت هناك رغبة من قبل القوى المتشددة في الولايات المتحدة الأمريكية للقيام بمواجهة ضيقة ما مع روسيا، فإن المرشح لذلك بشكل خاص هي أوكرانيا، رغم الصعوبات كلها المرتبطة بذلك نتيجة لقربها من أوروبا.
بدلاً عن التفكير في احتمالات حرب مفترضة، لا بد لنا من التفكير في الآلية التي سيعتمدها الطرفان في الوصول إلى اتفاقات في مرحلة ما بعد الانتخابات الأمريكية القادمة، مع الاعتقاد هنا أنه لن يكون هناك اختلافاً كبيراً في التوجهات الاستراتيجية الأمريكية فيما يتعلق بملفات العالم. لكن، وإن كنا لا نعتقد بقوة هذا المرشح الرئاسي الأمريكي أو ذاك، إلا أن أهمية الانتخابات تكمن في أنها ستعطي مؤشراً، ربما سيكون واضحاً، حول السياسية التي ستتبعها واشنطن بعد الانتخابات، هل هي التراجع المدروس؟ أم التراجع دفعة واحدة؟
المصدر: gisreportsonline.com