لماذا يتنامى الفقر بشدّةٍ في القرن الواحد والعشرين.. وكيف يمكن اجتثاثه؟
كيف نفسّر أن تتواصل موجة الفقر بالتعاظم في القرن الواحد والعشرين، حيث يعاني واحدٌ من كلّ سبعة أشخاصٍ على سطح الكوكب من جوعٍ مزمن؟!
الأسباب معروفة: ظلمٌ عميقٌ في توزيع الثروات، استيلاء أقليةٍ محدودةٍ من ملاكٍ كبار على الأراضي.. ووفق منظمة الفاو(1)، بلغ عدد الجياع في العالم 963 مليون نسمة في العام 2008. من الناحية البنيوية، ينتمي هؤلاء الأشخاص إلى الريف، ويا للمفارقة! معظمهم منتجون زراعيون ليست لديهم ملكيات، أو أنّ ما يملكونه من الأرض الزراعية غير كافٍ، وليس لديهم وسائل أو إمكانات لتحسينها.
من الذي أثار الأزمة الغذائية للعامين 2007-2008؟
ينبغي الإشارة إلى أنّ عدد الجائعين قد ازداد في العام 2007-2008 بمقدار 140 مليون نسمة. تعود هذه الزيادة الواضحة إلى انفجار أسعار المنتجات الغذائية(2) في العديد من البلدان، بلغت هذه الزيادة في أسعار بيع الأغذية بالمفرّق نحو 50 بالمائة، بل أكثر من ذلك أحياناً.
لماذا مثل هذه الزيادة؟ من المهم أن نفهم ما جرى منذ ثلاث سنوات للإجابة على هذه السؤال، ثمّ وضع سياساتٍ بديلةٍ مناسبة.
من جانب، زادت سلطات الشمال الحكومية مساعداتها ودعمها للوقود الزراعي (المدعو خطأً «الوقود الحيوي» في حين أنّه ليس فيه ما هو حيوي). بذلك، أصبح إحلال زراعة العلف والبذور الزيتية محلّ زراعات القوت، أو تحويل جزءٍ من إنتاج البذور (الذرة، القمح...) إلى إنتاج الوقود الزراعي، أكثر إدراراً للمال.
من جانبٍ آخر، وبعد انفجار الفقاعة العقارية في الولايات المتحدة، ثمّ في بقية أرجاء العالم بتأثيرٍ ارتدادي، تحوّلت مضاربة كبار المستثمرين (صناديق التقاعد، مصارف الاستثمار، صناديق التحوّط...) إلى أسواق البورصة، حيث يتم التفاوض على عقود السلع الغذائية (بصورةٍ خاصة ثلاث بورصات أمريكية متخصصة في أسواق البذور الآجلة: شيكاغو، كنساس سيتي ومينيابوليس). من الملحّ إذاً أن ينشط المواطنون لمنع المضاربة على الأغذية بأسلوبٍ قانوني... وعلى الرغم من انتهاء المضاربة على رفع الأسعار في منتصف العام 2008 ومن أنّ أسعار الأسواق الآجلة قد هبطت بعد ذلك هبوطاً سريعاً، لكن لم تتبع أسعار المفرّق الحركة نفسها.
دخلُ الغالبية الساحقة من سكان العالم منخفضٌ جداً، ولا يزال هذا الدخل اليوم يعاني من العواقب المأساوية لارتفاع أسعار الأغذية للعام 2007-2008. وسوف تؤدي خسارة عشرات ملايين العاملين لوظائفهم، المتوقعة للعام 2009- 2010 على المستوى العالمي، إلى تفاقم الوضع. للوقوف في وجه ذلك المد، ينبغي أن تمارس السلطات الحكومية مراقبةً على الأسعار الغذائية بهدف خفضها.
إنّ زيادة الجوع في العالم لا تعود حالياً لتغيّر المناخ، لكنّ هذا العامل ستكون له عواقب سلبية جداً في المستقبل في مجال الإنتاج في بعض مناطق العالم، ولاسيما المناطق المدارية وتحت المدارية. يتمثّل الحلّ في عملٍ جذري لإنقاص إصدار الغاز المتسبب في ظاهرة الدفيئة (توصي (3) GIEC بإنقاص الإصدار بنسبة 80 بالمائة بالنسبة للبلدان الأكثر تصنيعاً، وبنسبة 20 بالمائة بالنسبة للبلدان الأخرى).
هل يمكن اجتثاث الفقر؟
اجتثاث الفقر ممكنٌ تماماً. تمرّ الحلول الأساسية لبلوغ هذا الهدف الحيوي في سياسة سيادةٍ غذائية وفي إصلاحٍ زراعي. أي إطعام السكان انطلاقاً من جهد المنتجين المحليين، مع الحد من الصادرات والواردات.
ينبغي أن تكون السيادة الغذائية في قلب القرارات السياسية للحكومات. ينبغي الاستناد إلى الاستثمارات الزراعية الأسرية التي تستخدم تقنياتٍ مكرسة لإنتاج أغذيةٍ «عضوية». سوف يسمح ذلك أيضاً بالحصول على غذاءٍ جيد النوعية: دون بذور معدلة وراثياً، دون مبيداتٍ حشرية ومبيداتٍ للحشائش، دون أسمدةٍ كيميائية. لكن لبلوغ هذا الهدف، ينبغي أن يتمكّن أكثر من ثلاثة مليارات من الفلاحين من الحصول على أرضٍ كافية، والعمل فيها لحسابهم الخاص بدل إثراء كبار الملاّكين وشركات تجارة الأغذية عابرة القومية والتجار. ينبغي أيضاً أن تتوافر لديهم بفضل المساعدة الحكومية وسائل لزراعة الأرض، دون استنزافها.
لتحقيق ذلك، لا بدّ من إصلاحٍ زراعي، وهو إصلاحٌ لا تزال بلدانٌ كثيرةٌ تفتقر إليه مثل البرازيل وبوليفيا وباراغواي وبيرو وآسيا، وبعض بلدان إفريقيا. ينبغي أن ينظّم مثل هذا الإصلاح الزراعي إعادة توزيع الأراضي بمنع ملكيات الأرض الخاصة الشاسعة، وبتقديم دعمٍ حكومي لعمل المزارعين.
من المهم الإشارة إلى أنّ صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي خصوصاً، يتحملان مسؤوليةً هائلة عن الأزمة الغذائية، لأنهما أوصيا حكومات الجنوب بإلغاء صوامع الحبوب التي كانت تستخدم في تزويد السوق المحلية في حال عجز العرض و/أو انفجار الأسعار. لقد دفع القيّمون على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حكومات الجنوب إلى إلغاء هيئات الإقراض العام للفلاحين، ودفعوهم للوقوع بين براثن المقرضين الخواص (غالباً من كبار التجار) أو المصارف الخاصة التي تفرض أسعار فائدة ربوية. وقد أدى ذلك إلى انتشار المديونية بين صغار الفلاحين، سواءٌ في الهند أم في نيكاراغوا والمكسيك ومصر والعديد من بلدان إفريقيا جنوبي الصحراء. وفق التحقيقات الرسمية، فإنّ فرط مديونية الفلاحين الهنود هو السبب الرئيس لانتحار 150 ألف فلاح في الهند في السنوات العشر المنصرمة. وهو بلدٌ جهد فيه البنك الدولي بنجاحٍ في إقناع السلطات بإلغاء وكالات الإقراض الحكومية للفلاحين. وهذا ليس كل شيء، ففي السنوات الأربعين المنصرمة، دفع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أيضاً البلدان المدارية لإنقاص إنتاجها من القمح أو الرز أو الذرة، وإحلال زراعاتٍ تصديرية محلها (كاكاو، بن، شاي، موز، فول سوداني، أزهار...). أخيراً، ولاستكمال عملهما لمصلحة كبرى شركات التجارة الغذائية وكبرى البلدان المصدرة للحبوب (بدءاً بالولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية)، دفعا الحكومات إلى فتح حدودها على مداها لواردات الغذاء التي تستفيد من دعمٍ مكثّفٍ من حكومات الشمال، ما أدى إلى إفلاس العديد من منتجي الجنوب وإلى تناقصٍ شديد في إنتاج القوت محلياً.
باختصار، من الضروري تطبيق السيادة الغذائية والإصلاح الزراعي. ينبغي التخلي عن إنتاج الوقود الزراعي الصناعي، والتخلي عن تقديم الدعم الحكومي لمنتجيه. ينبغي أيضاً إعادة إقامة مخزونات عامة من الاحتياطيات الزراعية في الجنوب (بصورة خاصة الحبوب: رز، قمح، ذرة...)، و(إعادة) تأسيس هيئات عامة لإقراض المزارعين، وإعادة تنظيم أسعار الأغذية. ينبغي ضمان استفادة السكان من ذوي الدخل المنخفض من أغذية جيدة بأسعار منخفضة. يتوجب على الدولة ضمان أسعار بيع مجزية لصغار المنتجين الزراعيين بحيث تسمح لهم بتحسين شروط حياتهم تحسيناً واضحاً. كما يتوجب على الدولة تطوير الخدمات العامة في الأوساط الريفية (الصحة، التعليم، الاتصالات، الزراعة، «مصارف» البذور...). كذلك، تستطيع السلطات الحكومية ضمان أسعارٍ مدعومة لمستهلكي الأغذية وأسعار بيع مجزية لصغار المنتجين الزراعيين لتحسين دخلهم.
أليس هذا الكفاح ضد الجوع جزءاً من كفاحٍ أشمل؟
لا نستطيع ادّعاء مكافحة الجوع جدّياً دون الهجوم على الأسباب الأساسية للوضع الحالي. والحال أنّ الدين هو أحد هذه الأسباب، ولا تفلح مفاعيل الإعلان حول هذا الموضوع، المتواترة في السنوات الأخيرة في قمم مجموعة الثماني أو مجموعة العشرين، في إخفاء أنّ هذه المشكلة تبقى على حالها. الأزمة الشاملة التي تمسّ العالم اليوم تفاقم وضع البلدان النامية في مواجهة كلفة المديونية، وهنالك أزمات ديونٍ جديدة في الجنوب قيد التحضير. والحال أنّ هذه الديون قد أدّت إلى إفقارٍ عامٍ لشعوب الجنوب، الغنيّة غالباً بثرواتٍ بشريةٍ وطبيعيةٍ هائلة. الديون نهبٌ منظّمٌ ينبغي وضع حدٍّ له في أسرع وقتٍ ممكن.
وبالفعل، فإنّ آلية الدين العام الجهنمية عقبةٌ أساسيةٌ أمام تلبية الحاجات البشرية الأساسية، ومن بينها الحصول على غذاءٍ لائق. ما من شكٍّ في أنّ تلبية الحاجات البشرية الأساسية ينبغي أن تفوق أيّ اعتبارٍ آخر، جيوسياسي أو مالي. وعلى الصعيد الأخلاقي، لا تمثّل حقوق الدائنين، من أصحاب الأموال أو المضاربين، وزناً بالمقارنة مع الحقوق الأساسية لستة ملياراتٍ من المواطنين الذين تسحقهم الآلية الضارية التي تمثلها الديون.
من غير الأخلاقي الطلب من البلدان المفقرة بأزمةٍ شاملة ليست مسؤولةً عنها إطلاقاً تكريس جزءٍ كبيرٍ من مواردها لتسديد مستحقات الدائنين الميسورين (سواءٌ أكانوا من الشمال أم من الجنوب) بدل تلبية هذه الحاجات الأساسية. كما ينتج الطابع غير الأخلاقي للديون عن أنّ من استجرّها كان في غالب الأحيان أنظمةٌ غير ديمقراطية لم تستخدم المبالغ التي حصلت عليها لمصلحة شعوبها، واختلست في كثيرٍ من الأحيان، مبالغ كبيرة منها بموافقةٍ ضمنيةٍ أو فعّالة من بلدان الشمال والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لقد قدّم دائنو البلدان الأكثر تصنيعاً ديوناً لأنظمةٍ كانوا يعرفون أنها فاسدة على الأغلب، وبالتالي، لا يحقّ لهم مطالبة الشعوب بتسديد هذه الديون غير الأخلاقية وغير الشرعية.
باختصار، الديون هي إحدى الآليات الرئيسية التي تتم بوساطتها عملية استعمارٍ جديدة على حساب الشعوب. وهي تأتي لتضاف إلى انتهاكاتٍ تاريخية قامت بها البلدان الثرية: العبودية، القضاء على الشعوب الأصلية، النير الاستعماري، نهب المواد الأولية، نهب التنوع الحيوي ومهارة الفلاحين (عبر استيلاء شركات الشمال عابرة القومية في المجال الزراعي على براءات منتجات الجنوب الزراعية مثل رز البسمتي الهندي) والخيرات الثقافية وهرب الأدمغة، الخ. لتحقيق العدالة، آن الأوان حقاً لإحلال منطق إعادة توزيع الثروات محل منطق السيطرة...
الخصم والحكم!
مجموعة الثماني وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ونادي باريس يفرضون حقيقتهم الخاصة، عدالتهم الخاصة، وهم طرفٌ فيها، ويلعبون دور الحكَم في الآن نفسه. في مواجهة الأزمة، اتخذت مجموعة العشرين زمام المبادرة وتحاول أن تعيد صندوق النقد الدولي الفاقد للمصداقية والشرعية إلى مركز اللعبة السياسية والاقتصادية. ينبغي وضع حدٍّ لهذا الظلم الذي يفيد القامعين، سواءٌ أكانوا من الشمال أم من الجنوب..
■■
* - داميان مييه: عالم رياضيات، وهو الناطق باسم لجنة إلغاء ديون العالم الثالث في فرنسا.
- إيريك توسان دكتور في العلوم السياسية، وهو رئيس لجنة إلغاء ديون العالم الثالث في بلجيكا. كتبا معاً كتاب: «60 سؤالاً و60 جواباً حول الديون وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي»، منشورات لجنة إلغاء ديون العالم الثالث ودار سيليبس، تشرين الثاني 2008.
1 - منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة،
www.fao.org
2 - انظر داميان مييه وإيريك توسان، «عودة إلى أسباب الأزمة الغذائية العالمية»،
2008.. http://www.cadtm.org/spip.php■article3625.
انظر أيضاً إيريك توسان، مرةً أخرى حول أسباب الأزمة الغذائية،
http://www.cadtm.org/spip.php■article3773.
3 - مجموعة خبراء من عدة حكومات حول تطور المناخ، انظر:
www.ipcc.ch/languages/french.htm