المحرومون في الاتحاد السوفياتي.. (2)
لعل الاختلاف الرئيسي بين الحياة الفلاحية والحياة في المدينة هو أن الحياة الفلاحية أقرب إلى التدين، وهذا يعني أن الاحتياجات الاعتيادية للوسط الفلاحي بسيطة وطبيعية، لكنها في الوقت نفسه غنية بالصور الروحية التي تبدو وكأنها حاجات ضرورية يتم استهلاكها. والحديث لا يدور هنا عن الكنيسة، بل عن الشعور الكوني العام والقدرة على رؤية المعاني السامية في كل مظاهر الطبيعة والعلاقات الإنسانية، فعمليات الفلاحة والبذار والحصاد وبناء البيت وتناول الطعام، ولغز الحياة والموت، كلها لها صفة القداسة عند الفلاح.
الحاجات.. بين الريف والمدينة
إن الحياة في المدينة الكبيرة تحرم الإنسان الأساليب الطبيعية لإشباع حاجاته وبالوقت نفسه تجعله يخضع لضغط عصبي مستمر بسبب تناقض النظام المديني للزمان والمكان مع الانتظام والاتزان الطبيعي لهذا الإنسان. خطأ السوفييت الاستراتيجي بدأ إبان فترة التصنيع في المدن الكبرى، فمن المعروف أن الريف والمدن الصغرى كانت الدعامة الرئيسية للنظام السوفييتي آنذاك، وكان من الواجب تقويتهما وتطويرهما، ويبدو أن هذا لم يتم بسبب قلة الموارد أو بسبب عدم دقة وعي الماركسيين في الاتحاد السوفييتي آنذاك الذين أخذوا بفكرة التقدم، وهكذا بدأت بالتكون حالة من التوتر في حياة معظم مواطني الاتحاد السوفييتي بسبب البيئة التي ولدتها الحياة المدنية، وبما أن هذه الحالة تحولت إلى ضغط هائل يُمارَس على الشخص، صار عليه التعويض عن ذلك الضغط بحاجات حياتية أخرى. ونسوق مثالاً:
أعراض الكافتريا
إن الضغط الناتج عن أزمة النقل يؤدي لإفراز هرمونات عصبية تقود لنشوء شهية من نوع خاص لا علاقة لها بالجوع، وهي هرمونات يقوم الجسم نفسه بإنتاجها، فالإنسان الذي يصل من عمله إلى بيته يشعر برغبة بقضم شيء ما، نقول بقضم وليس الأكل بشكل طبيعي لسد جوعه، فهو يشعر برغبة في قضم شيء شهي (ما يدعى أعراض الكافتريا).
يبدو الأمر لأول وهلة تافهاً، ولكن في الحقيقة تبرز لدينا حاجة لابد للنظام الحياتي أن يكون قادراً على التنبؤ بها والعمل على إشباعها، لأن اعتبار ذلك مجرد نزوة عابرة يقود إلى حشد عدد غفير من الأشخاص الذين ينتابهم الشعور بالحرمان.
تزخر المدينة بكم كبير من الظواهر المشابهة التي لا يعرف الفلاح عنها شيئاً (خصوصاً فئات المتقدمين في العمر)، ويجب التنويه أنه بالإضافة إلى الحاجات البيولوجية للإنسان التي يتم إشباعها عن طريق الأشياء، يحتاج الإنسان لاستهلاك شيء آخر وهو التصورات، وهي تعتبر حاجة أساسية لا تقل أهمية عن الحاجات الطبيعية، وتزداد المشكلة تعقيداً إذا تذكرنا أن عالم الأشياء وعالم الإشارات يتقاطعان ويتكاملان ويصعب فصلهما، فكثير من الأشياء التي تبدو في ظاهرها مخصصة لأجل غاية معينة تكون قيمة بالنسبة لنا، ليس كشيء، بل كصورة أو إشارات تعكس علاقات إنسانية محددة، ففنجان قديم أو فستان دارج أو دراجة نارية كلها عبارة عن صور لا يمكن أن تقتصر على الوظائف المادية التي تقوم بها، لكنها تتجسد في أشياء مادية. فالفلاح يلبي حاجاته من الصور بشكل تلقائي عن طريق الارتباط بالطبيعة والناس وبفضل نمط العمل الذي يقوم به، بينما تتم تلبية حاجات الإنسان في المدينة بواسطة عدد هائل من الأشياء أو الإشارات التي غالباً ما تكون عديمة الفائدة.
لقد عرفت في حياتي ثلاثة أشكال للحصول على النار. ففي سنوات الحرب العالمية العظمى اعتاد أهل القرى والمدن على استعمال (الزناد) الذي دعي بالكتيوشا آنذاك، وكان الجميع يملك مثل هذه الزنادات تقريباً، ولكن كل قدحة كانت تنتهي بإشعال النار، وكانت حدثاً يولد إحساساً «كونياً» لدى من يشهد ذلك، وفي كثير من الأحيان كان ذلك يتم بحضور عدد من المشاهدين مع ما يرافق ذلك من إلقاء الطرائف والمواعظ أو حتى إلقاء الشعر، بحيث أن هذا الحدث على بساطته كان يحيي عالم الصور لدى أولئك المشاهدين. وعند استقرار الحياة الطبيعية في البلاد إثر سنوات الحرب دخلت حيز الاستعمال أدوات الثقاب المنمطة التي تحمل منفعة محددة فقط بقدرتها على إشعال النار، ومن ثم ظهرت القداحات الحديثة، وكان قسم منها مخصصاً ـ مثل أعواد الثقاب ـ فقط لغرض إشعال النار، لكن فيما بعد ظهرت أنواع كثيرة النوع جداً من القداحات التي يمكن أن ندعوها بقداحات الإشارات. لأن مثل هذا النوع ظهر كأداة ظريفة صممت ضمن نماذج فنية دخلها الخيال بحيث تحولت إلى إشارة للإنسان الذي يحملها في يده ويقلبها ويعبث بها متمعناً في شكلها الخارجي، ومن ضمن ذلك مظهر الشرارة المنطلقة منها.
روحيات مختلفة
في العهد السوفييتي كان الإيديولوجيون أصحاب العقول المتحجرة يصمون بالعار ظاهرة حب الأشياء التي استولت بشكل مفاجئ على إنساننا البسيط، وكانت الدولة تقمع الميل والحب نحو تلك الحاجات، ولكن الدولة نفسها عجزت في نهاية الأمر عن لجم نزوع الإنسان نحو تلك الحاجات، فانفلتت الأمور ولكن بشكل مختلف ومشوه، وللأسف تسير المعارضة لدينا اليوم في ذلك الطريق، فهي تنطلق من أن روسيا تتميز (بالسمو الروحي)، ويؤكدون أن الغرب يفتقر إلى هذه الميزة الروحية. إن هذا المدخل ليس صحيحاً، وهو عمل يقود إلى طريق مسدود. فالسمو الروحي يختلف من حيث الجوهر من مكان إلى آخر، ويتم التعبير عنه بواسطة صور وإشارات مختلفة تماماً، فعلى سبيل المثال نحن نرى أن حب المال شيء مناف لسمو الروح، أما بالنسبة للبروتستانت المتشددين فينظرون إلى المال والحصول عليه كعلامة للنخبة والصفوة، وكانت عملية الحصول على المال بالنسبة لهم وسيلة للتقرب من الإله بعيداً عن أية أطماع، والمسألة تتعلق بوجود روحية من نوع آخر، فعندما ننعت أولئك البروتستانت بالطمع، فهذا يعني أننا لم نفهم حقيقتهم، وبالتالي لا نستطيع مواجهة الغرب في حملته على نمطنا الروحي، وكذلك سنعجز عن توضيح أفكارنا للغرب بأن حملته ضدنا ستؤدي به إلى الدمار الذاتي، فالليبراليون الجدد كثيراً ما يستخدمون صيغة نهاية التاريخ التي يعتبرون أنها تعني القضاء على النظام السوفييتي، ولكن الأهم المعنى الآخر لتلك الصيغة: (إنها تعني الانتصار الكامل للمدينة على القرية أو للغرب على الشرق).
الغرب وإشباع الجوع الروحي
لقد تأججت هذه المسألة بكل أبعادها عند انهيار المجتمع الأوروبي القروسطي التقليدي وظهور مجتمع جديد هو المجتمع البرجوازي، وكانت الضربة الرئيسية التي تلقاها المجتمع التقليدي قد جاءت من حركة الإصلاح البروتستانتي التي نعتها إنجلز بأنها «الكارثة الوطنية التي حلت بالألمان».
فالبروتستانتية التي أعطت أساساً أخلاقياً للرأسمالية هي نفسها التي حطمت الصور المقدسة في ذلك المجتمع، وقد كتب كارل غوستاف يونغ: «الأشكال اللاشعورية كانت دائماً تجد انعكاساً لها في الصور الدفاعية والعلاجية، وهي بذلك خرجت خارج حدود النفس إلى النطاق الكوني. إن الهجوم العارم الذي شنته حركة الإصلاح على تلك الصور خرق الهالة المحيطة بتلك الرموز المقدسة. فتاريخ تطور البروتستانتية هو تاريخ تحطيم الصور القائمة التي تهوي واحدة بعد أخرى، حيث لم يكن هذا شيئاً بالغ الصعوبة بعد أن تم النيل من مصداقية ونفوذ الكنيسة.
لقد كانت الصور الكبيرة والصغيرة العامة والشديدة الخصوصية تهوي واحدة تلو الأخرى، حتى وصلنا إلى مرحلة تفتقد إلى الرموز المسيطرة على حياتنا الآن، فالبروتستانتية وجدت نفسها خارج نطاق الحماية التي كانت تتمثل بالصور، ولذلك أصبحت في وضع يمكن أن يثير هلع أي إنسان يعيش حياة طبيعية. كان الوعي المستميت للبروتستانتية يرفض مجرد السماع عن هذا الموضوع، ولكن في الوقت نفسه كان يبحث عما فقدته أوروبا».
في الحقيقة لم يخسر المجتمع البرجوازي صوره ورموزه فحسب، بل قام بخلق عالم كامل من الصور والرموز الجديدة، وهذا هو السبب في بقائه واستمراره، فقد اكتسب المجتمع البرجوازي قوة وثباتاً جديدين بسبب توصله إلى نظام ـ إشاراتي شامل ـ بالنسبة لأعضائه، ألا وهو النظام النقدي. لقد أصبحت النقود إشارة قادرة على أن تحل محل صورة أخرى، وأن تمثل أي نمط من العلاقات، فما من شيء إلا ويمكن شراؤه بالنقود على طريق إشباع الحاجات، فالمجتمع بمجمله أصبح غير روحاني وغير متديّن، ولكنه بالمقابل امتلأ بعدد كبير من الصنميات (الأشياء ـ التصورات)، ولم تتخذ العلاقات بين البشر علاقة إنسان بإنسان، بل علاقة أشياء بعضها ببعض، وكانت هذه العلاقة متخفية.
التأثير على الوعي الاعتيادي
واستناداً إلى نظرية غرامشي، يعطي الأخصائيون في الثقافة المعاصرة دوراً كبيراً (للبضاعة الشعبية) في تثبيت ودعم البرجوازية في المجتمع الغربي، فالأشياء (الثقافة المادية) هي التي تشكّل البيئة المحيطة بالإنسان العادي، وهي تحمل معاني ذات تأثيرات ضخمة على الوعي الاعتيادي. وإذا ما جرى تصميم الأشياء بشكل يأخذ بالاعتبار دورها الوظيفي كإشارات ومنظومات مشكّلةً من الرموز، فإنها بسبب ضخامتها وتنوعها الشديد يمكن أن تصبح العامل الحاسم في تشكيل الوعي الاعتيادي، السائد. ففي الولايات المتحدة أصبحت طريقة تصميم وإنتاج البضائع الشعبية هي الآلية لغرس القيم الثقافية في وعي المواطنين، (أي إنشاء وضمان وبقاء النواة الثقافية السائدة).
يركز الأخصائيون بشكل خاص على قدرة هذه الآلية على القيام بعمليتي التنميط وتجزئة المجتمع بشكل فعّال، فالسيارة من حيث المبدأ جاءت تلبية لحاجة الإنسان الطبيعية في التنقل من مكان لآخر، لكن الذي حصل في الواقع أنه تم تضخيم تلك الحاجة لتتحول تلك السيارة إلى شيء آخر تماماً، فهي لم تعد شيئاً فحسب، بل رمزاً أيضاً، فالناس أجبروا على شراء السيارة التي أصبحت تلعب دوراً مهماً في هيمنة المجتمع البرجوازي الثقافية، وتلعب أيضاً دوراً في نسف الهيمنة الثقافية في المجتمع السوفييتي، فأعداد كبيرة من المواطنين السوفييت عدّوا أنفسهم محرومين لأنهم لا يملكون سيارة جيدة. وكما يقول ماركس: «الحيوان يريد الشيء الذي هو بحاجة إليه، أما الإنسان فهو يحتاج الشيء الذي يريد».
لم يكن ذلك الانتشار الواسع والشامل للسيارات مبرراً سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية، ففي أوروبا تعادل المصاريف الفعلية لانتقال الشخص لمسافة كيلو متر واحد بسيارته الشخصية ثلاثة أمثال المصاريف الناتجة عن استخدامه الحافلة العامة، ولنتساءل الآن: لماذا تموّل الدولة عملية انتشار السيارات بهذا الشكل السخي على حساب الأشخاص الذين لا يملكون السيارات؟ يكمن الجواب بأن السيارة هي ضمانة للمحافظة على الهيمنة، وبالتالي هي دعامة لاستقرار المجتمع البرجوازي.
استقرار المجتمع البرجوازي..
و«واجهات العرض»
باعتبار أن الحديث عن استقرار المجتمع يدور كل شيء فيه حول الصور، أصبح من الممكن الحديث عن تحفيز عملية الاستهلاك دون الاضطرار لتوسيع القاعدة المادية بشكل كبير، وذلك عن طريق إنشاء الواقع الافتراضي غير الموجود، حيث احتلت (الواجهة) جزءاً أساسياً من حياة الناس، وما هي إلا منظر للأشياء، ففي الغرب تتسكع الغالبية العظمى من الناس أمام السوبر ماركت ومحلات التسوق الضخمة وأمام واجهات العرض دون أن يكون في نيتهم شراء شيء، ونذكر هنا بأنه قبل أن يتوصل الغرب لاكتشاف «واجهات العرض»، كانت حشود العمال طوال المراحل الأولى للتصنيع التي دامت قرابة 150 سنة قد أنشأت لنفسها واقعاً افتراضياً هو الإدمان على الكحول. أما الخطوة التالية فقد تجسدت في ظهور الدعاية الحديثة، فالصورة كانت تتشكل في الفراغ وفي الأثير، فجوهر الدعاية ليس في المعلومات التي تحملها عن البضائع الملموسة التي يفترض أن يشتريها المستهلك، ولكن المهم هنا إنشاء عدد وافر من الصور، وهو الساندويشات المطلوبة. يخيّل إلينا بأن الدعاية هي انعكاس لوفرة البضائع والفرص، لكنها في الحقيقة وهم، وهي جزء من ذلك الواقع الافتراضي المختلق الذي يعيش فيه الإنسان الغربي. إن دور الدعاية في تعزيز الهيمنة على الناس يعرفه الإيديولوجيون جيداً. فعالم السياسة الأمريكي جورج مايرس يصرح: إن الدعاية إذا أخذنا بعين الاعتبار قوتها الإيحائية التي تمتاز بها، تلعب دوراً كبيراً في الصراع الإيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية، أما الاختصاصي في الحرب النفسية لاينباروجر فقد كان أكثر تحديداً بقوله: «لقد أقامت الدعاية سوراً نفسياً عظيماً لا يسمح بدخول الدعايات الأجنبية أو المشبوهة إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية، كما جعلتها منيعة في حال تعرضها لأي عدوان إيديولوجي من وراء المحيط».
من الواضح أن انغماس حضارة ضخمة في الواقع الافتراضي المشكّل وفق صيغ الأخصائيين والفنيين في أهم مراكز الأبحاث في مجال الدعاية، يخفي في طياته خطر التشوه الثقافي. فمن الناحية النظرية يمكن القول إن التحكم بثقافة التشيؤ وعالم الصور سيؤدي لامحالة إلى كوارث في الثقافة الغربية. يعلن المؤرخ توينبي بمرارة: أظن أن مصير حضارتنا الغربية يرتبط بما نقدمه لرعايانا من الصور والرموز والإشارات التي يمكن وصفها بأنها سيئة، ولكنها جذابة ومستساغة..
وجبة الإشارات المعقدة
اللغة هي وسيلة للهيمنة، خاصة تلك المنظومة من الإشارات التي تشكل فضاءات الكلمة، إلى جانب ذلك يمكن أن نتحدث عن عالم مميز من الأشكال التخطيطية والتصويرية التي يتم إدراكها عن طريق البصر والتي تدعى (ايدوسفير) المشتقة من كلمة الايدوس اليونانية التي تعني الشكل ـ الصورة.
بعد أن تحولت حياة المجتمع إلى ما يشبه العرض المسرحي، أظهر القرن العشرون الأثر الهائل للصور البصرية كوسائل سيطرة، والتي لم يكن من الممكن في السابق تخيلها. وكقاعدة عامة تستخدم هذه الصور مع النص والأرقام بهدف خلق تأثير متكامل ومتصاعد على المتلقي، ويرتبط هذا التأثير باتحاد نوعين مختلفين من الإدراك هما: الإدراك الإشاراتي (الدلالي) والإدراك الجمالي، بحيث يعزز ويحفز أحدهما الآخر بشكل متبادل، ويحدثان حالة طنين. إن أكثر وسائل الإعلام فعالية تستخدم التناغم بين المعنى وعلم الجمال، فهي تمثل بآن واحد فكر الإنسان وإحساسه الجمالي (المدلول يقنع وعلم الجمال يفتن)، ولاشكّ أن قوة تأثير المسرح تشتمل على النص والديكور وأصوات وإضاءة مبنية على هذا الأساس. فعبر التأثير على قنوات الإدراك المختلفة تتمكن الرسالة المؤلفة من أشكال إشاراتية مختلفة متنوعة أن تستحوذ لفترة مديدة على انتباه واهتمام الإنسان، فلهذا السبب نلاحظ أن فعالية مثل هذه الرسالة من حيث قدرتها على التغلغل في وعي الإنسان وخصوصاً إلى مجال اللاوعي، تكون أكبر من الرسالة المركبة من نمط واحد من الإشارات البسيطة المتجانسة وأحادية التوجه.
لقد استعملت الصور البصرية بصورة فائقة أثناء فرض الهيمنة النازية في ألمانيا، ويتذكر أ. شبير أحد أنصار هتلر، كيف كان يستخدم الصور البصرية في تصميم مؤتمر الحزب النازي عام 1934، فيقول: «لقد عرضت فكرتي أمام اللجنة المنظمة للمؤتمر حول شكل وإخراج المؤتمر على الوجه التالي: تثبيت الآلاف من أعلام ورايات المنظمات الألمانية المختلفة خلف الأعمدة العالية المصفوفة على محيط المساحة التي يجري فيها العرض العسكري، بحيث يتدفق حملة الأعلام بعد إعطاء إشارة البدء عبر عشرة ممرات، ثم يجري تسليط أضواء مبهرة على الأعلام والنسور المتلألئة على صداري حمّلتها الشيء الذي يضمن الحصول على تأثير معنوي بصري قوي للغاية على كل من يشاهد هذا العرض، ثم أصرّيت على هتلر أن أحصل على 130 من البروجوكتورات الحديثة للمدافع المضادة للطائرات التي تنتجها ألمانيا، وكان ضوؤها يبلغ عدة كيلو مترات، وعندما أجيب طلبي كان التأثير يفوق كل ما كنت أتصوره، خاصة عندما ازدحم المكان بـ130 عموداً ضوئياً ساطعاً يبعد أحدها عن الآخر اثني عشر متراً على الأرض، لكنها تلتقي في السماء على علو 6 كيلو مترات، مشكّلة قبة متلألئة متوهجة، الشيء الذي كان يوحي بوجود قاعة ضخمة بدت فيها تلك الأشعة الضوئية كأعمدة مرصوفة على طول أسوار القاعة الخارجية الشاهقة الارتفاع. وأحياناً إلى جانب هذه الهالة الضوئية كانت تمر السحب معطية لهذا المنظر الخيالي لمسة سريالية». هكذا يتم تقديم وجبة دسمة من الإشارات المعقدة..