الانهيار الأمريكي المالي والاقتصادي
يعاني الاقتصاد الأمريكي من انحدار مالي ناتج عن عدم القدرة على معالجة العجز في الموازنة الفيدرالية. ولا يمكن معالجة هذا العجز بسبب عدد الوظائف الهائلة التي تم سحبها من الطبقة الوسطى الأمريكية وما لذلك من تأثير على القاعدة الضريبية والناتج المحلي الإجمالي، مما ساهم بتخفيض الإيرادات والعائدات الفدرالية. بالإضافة إلى أن السياسات الاقتصادية المتبعة كان جلّ اهتمامها هو إنقاذ المصارف التي كانت خارج إطار الرقابة المالية الحكومية، مما سمح بانتشار عمليات الدمج والمضاربة، على أمل أن تصبح تلك المصارف عصية على الانهيار. تَطلّب ذلك إعانات عامة، تم اقتطاعها من مخصصات الإنفاق على الرعاية الاجتماعية في الولايات المتحدة. بالإضافة إلى أن أحد عشر عاماً من الحروب التي شنتها أمريكا على نصف دول العالم الثالث، ساهمت بدورها بتعميق الانحدار المالي، فلم تحقق تلك الحروب سوى زيادة التعقيد بالوضع العسكري والأمني، وتغذية الأطماع «الإسرائيلية».
الكينزية لم تُفلح!
ويأتي هنا دور التلاعب الدعائي، بتصوير إمكانية تجنب الوقوع في الانحدار المالي، من خلال التراجع عن تقديم مخصصات الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، التي تُقتطع أصلاً كضريبة من رواتب المواطنين. وأيضاً من خلال تقليص دور شبكة الأمان الاجتماعي بكل جوانبها، من القسائم الغذائية ومعونات البطالة، إلى المساعدات الطبية والإعانات السكنية. لقد حاول الجناح اليميني التخلص من شبكة الأمان الاجتماعي منذ تأسيسها على يد فرانكلين روزفلت أثناء فترة «الكساد الكبير».
لقد واجهت الحكومة في واشنطن الانحدار المالي بسياسة التقشف، المعبر عنها بخفض الإنفاق وزيادة الضرائب. وكان رد الجمهوريين أنهم سيصوتون لمصلحة برنامج الديمقراطيين بزيادة الضرائب، إذا ما صوت الديمقراطيون بدورهم لمصلحة الهجوم على شبكة الأمان الاجتماعي. أي أن التسوية بين هذين الحزبين ما هي إلا زيادة التقشف. لقد فهم الاقتصاديون، منذ عهد جون ماينارد كينز، أن زيادة الضرائب وخفض الإنفاق لن يحفز النشاط الاقتصادي بل على العكس سيقوم بإخماده. وهذه هي حال الاقتصاد الأمريكي الذي يحركه الإنفاق الاستهلاكي، فعند تخفيض الإنفاق يتراجع الاقتصاد ويرتفع العجز في الموازنة.
هذه هي الحال في الاقتصاد الضعيف والمتهالك، فالتدهور الاقتصادي يعني مبيعات أقل، وعائدات ضريبية أقل، وبطالة أكثر. إن سياسة التقشف تلك ستؤدي إلى إنهاك الاقتصاد أكثر، بدلاً من تحفيزه وتقويته. فخفض إعانات البطالة والقسائم الغذائية في الوقت الذي ترتفع فيه نسبة البطالة سيؤدي إلى زيادة الاحتقان الاجتماعي والتوتر السياسي.
يرى بعض الاقتصاديين كروبرت بارو (جامعة هارفرد) أن التدابير التحفيزية في الاقتصاد لن تجدي نفعاً، لأن المستهلكين يتوقعون ارتفاع الضرائب لتغطية العجز في الموازنة، لذلك سيسعون لخفض نفقاتهم وزيادة مدخراتهم ليتمكنوا من دفع الضرائب المتوقعة. بمعنى آخر، عملت الجهود «الكينزية» بشكل عكسي، أي أنها أدت إلى تخفيض الانفاق بدل زيادته و تحفيزه. إلا أنني لم أجد أي دليل تجريبي ليثبت صحة هذا الطرح! فالوضع حالياً على أرض الواقع يتمثل بإنهاك الدخل إلى الحد الأقصى بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، فلم يتمكن العديد منهم من دفع الفواتير والرهون العقارية أو أقساط السيارات أو القروض المدرسية. بالمحصلة إنهم غارقون بالديون، ولن يتبقى شيء من الدخل ليتم دفعه للضرائب المرتقبة. يشتكي معظم المراقبين من سلبية الكونغرس الأمريكي في التعاطي مع هذه الأزمة، تاركاً الانحدار المالي يفعل فعله. ولعل هذا أفضل مايمكن أن يكون، فالانحدار المالي ماهو إلا نتيجة، وليس سبباً. فلايمكن معالجة المرض بالنظر إلى أعراضه، بل إلى مسبباته.
الدولار يَهْرب!
يعاني الاقتصاد الأمريكي من مَرضَين جدّيين، وليس أحدهما الإنفاق الكبير على الرعاية الاجتماعية. المرض الأول هو سحب الوظائف الإنتاجية ووظائف الخدمات المهنية كالهندسة والتصميم والبحوث وتكنلوجيا المعلومات من الطبقة الوسطى الأمريكية، ليشغلها الوافدون الأجانب الذين يعملون بثلثي الراتب.
المرض الثاني هو تحرير الاقتصاد من القيود الحكومية، وخاصة في المجال المالي، مما تسبب باستمرار الأزمة المالية. أدى ذلك إلى خلل في دورة الرأسمال وإغلاق العديد من الشركات المفلسة. تركز سياسة البنك المركزي الأمريكي على إنقاذ المصارف، لا على إنقاذ الاقتصاد. فلم يكتف بشراء سندات الخزينة الصادرة لتمويل أكثر من ترليون دولار عجز في الموازنة الفدرالية سنوياً، بل ذهب لتمويل المصارف الغارقة بالسندات المالية، ليزيل تلك السندات عن عاتق دفتر الحساب المصرفي لتلك البنوك، ويضعها على الحساب المصرفي للبنك المركزي.
عادةً، يؤدي تسييل الديون «تحويلها إلى نقد» بهذا الكم إلى زيادة التضخم، ولكن النقود التي ضخها البنك المركزي الأمريكي بهدف إدارة الدين العام وديون المصارف الخاصة، بقيت عالقة داخل النظام المصرفي على شكل احتياطات فائضة ولم تجد طريقها في دورة الاقتصاد. فغدت المصارف معطلة وغير قادرة على تقديم القروض، ولا المستهلكون قادرون على الاقتراض بسبب غرقهم بالديون. كما أن تسييل الديون أو تحويلها إلى نقد، يشكل تهديداً آخر بضرب الاقتصاد الأمريكي وبالتأثير على مستوى المعيشة بشكل كبير. فالمصارف المركزية الأجنبية والمستثمرون الأجانب في الأسهم والسندات المالية الأمريكية، وحتى الأمريكيون أنفسهم، أصبحوا يلاحظون أن استمرار البنك المركزي بسياسة تسييل الديون لا يمكن أن تجنبهم القلق بشأن قيمة الدولار بسبب المزيد من الدولارات التي تواصل تدفقها خارج البنك المركزي.
هنالك الكثير من المصارف المركزية والبنوك الخاصة التي فكت ارتباطها بالدولار مستبدلة إياه إما بالسبائك الفضية والذهبية، أو بعملات بلدان أخرى مستقرة اقتصادياً. فبحسب جون ويليامز من موقع Shadowstats.com، هبطت النسبة المئوية للدولار من الأرصدة الاحتياطية للأسهم العالمية من 36.6% عام 2006 إلى 28.7% عام 2012. بالمقابل ارتفع الذهب من 10.5% إلى 12.8% ، أما العملات الأجنبية ماعدا اليورو، فارتفعت من 38.4% إلى 44.4%. تعتزم دول روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، التخلي عن الدولار في التداولات التجارية فيما بينها، لتستبدله بعملاتها المحلية. أما دول الاتحاد الأوروبي فالتداولات التجارية فيما بينها تعتمد على اليورو. كما أن الدول الآسيوية تناقش طرح عملة جديدة للتداول فيما بينها. يتخلى العالم شيئاً فشيئاً عن استخدام الدولار في تنظيم الحسابات الدولية، كما أن الطلب على الدولار يواصل تراجعه، والمصرف المركزي الأمريكي يزيد من تكديس الدولارات. مما يعني أن سعر صرف الدولار يتعرض لهزة حقيقية.
إن القلق بشأن الدولار يعني القلق بشأن التعاملات المالية المتعلقة به كالأسهم وسندات الخزينة. حيث تملك الصين ما يقارب 2 ترليون دولار في التعاملات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان تملك 1ترليون دولار تقريباً كسندات خزينة أمريكية، كما أن السعودية ودول الخليج النفطية تحوز على كميات كبيرة من الصكوك المالية بالدولار الأمريكي. وسيعني التخلي عن الدولار، في لحظة معينة، التخلي عن التعاملات المالية المرتبطة به، وبالتالي فإن التخلص من السندات والأسهم الأمريكية سيتسبب بزعزعة استقرار سوق الأوراق المالية وسيقضي على ما تبقى من الثروة الأمريكية.
عمق الانهيار، والمُنقذ السعودي
كما ذكرت سابقاً، قد يتمكن البنك المركزي الأمريكي من ضخ أموال جديدة لشراء الصكوك المالية التي جرى التخلص منها، وذلك ليحافظ على سعرها. ولكنه لن يتمكن من طباعة العملات الأجنبية أو الذهبية، لشراء الدولارات التي يدفعها الأجانب مقابل الأسهم وسندات الخزانة الأمريكية. فعندما يتم التخلص من الدولار، ستنهار قيمته التداولية، وسينفجر التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية. ستكون موجة التضخم الأولى قوية ومفاجئة، مثلها مثل الانهيار الذي سيصيب قيمة العملة في التداول.
إن الأزمة الحقيقية التي تواجه الولايات المتحدة، هي الانهيار الوشيك للقيمة التداولية للدولار في النقد الأجنبي. فقد انهارت قيمة الدولار بالفعل أمام الذهب والفضة. في السنوات العشر الماضية، ارتفع سعر الأونصة الذهبية بالدولار الأمريكي من 250$ للأونصة، إلى 1,750$ للأونصة الواحدة. وأيضاً ارتفع سعر الفضة من 4$ للأونصة، ليصل إلى 34$ للأونصة الواحدة. ارتفاع الأسعار هذا ليس بسبب الشح المفاجئ في الذهب والفضة، وإنما يعود للانتقال من الدولار إلى أشكال من العملة التاريخية التي لايمكن لآلة طباعة العملة أن تطبعها.
شهدت السنوات العشر الماضية ارتفاعاً في سعر برميل النفط من 20$ للبرميل، إلى 120$، ليستقر سعر البرميل منذ مطلع هذا العام حتى الوقت الحالي على 90$ للبرميل. وقد جاء هذا الارتفاع في الاسعار بالرغم من ضعف الاقتصاد العالمي، ودون فرض أي قيود إضافية، سوى تلك التي سببها الاحتلال الأمريكي للعراق والهجوم الغربي على ليبيا، بالإضافة إلى العقوبات الغربية على إيران. لقد قامت السعودية- دمية واشنطن المطيعة - بالتصدي لتلك التأثيرات، محاولةً موازنة الكفة، فهذا البلد مستعد للتضحية بكل ثرواته النفطية لإنقاذ الغرب من مشكلاته. يتحدث المحافظون الجدد بغباء عن رغبتهم بإسقاط الحكومة في السعودية، ولكن أين يمكن لواشنطن أن تجد خدماً أكثر عبودية من العائلة الحاكمة السعودية؟؟
أعيدوا العمال
لطالما أشرت في السنوات السابقة إلى أن الأزمة تتجلى في ارتفاع نسبة البطالة بين الأمريكيين وانخفاض دخل المستهلك، والنقص الحاد في الناتج المحلي الإجمالي. ويكمن الحل بعكس تدفق الوظائف وإعادتها الى الولايات المتحدة. يمكن لذلك أن يتم كما يشير«رالف غومري» بفرض الضرائب على الشركات بحسب المكان الذي يستثمرون فيه قيمة منتجاتهم، فإذا كان خارج الولايات المتحدة، تدفع الشركة ضريبة مرتفعة، وإذا استثمرت القيمة محلياً بأيدي عمال أمريكيين، سيكون معدل الضرائب أقل. يمكن حساب الفرق بين الضريبتين كتعويض عن رخص العمالة الأجنبية. ككل البضائع القادمة من الخارج والتي يجري تسويقها للأمريكيين على أنها واردات، فإن نقل البضائع داخل الولايات المتحدة من شأنه أن يقلل من العجز التجاري، مما سيزيد الثقة بالدولار. وارتفاع دخل المواطن الأمريكي سيزيد من عائدات الضرائب وبالتالي سيخفض من العجز في الموازنة، إنه حل ناجح لكل الأطراف. أما الجزء الثاني من الحل فيتلخص بإيقاف الحروب المكلفة التي أنهكت الموازنة الفدرالية لأحد عشر عاماً مضت، كما أنهكت موازنة الرعاية الصحية للمحاربين القدماء. وفقاً لمحطة ABC World News فقد تم نشر 2,333,972 جندي أمريكي في كل من العراق وأفغانستان وذلك منذ أحداث 11/9 ، فهؤلاء الجنود لهم الحق بأن يستفيدوا من الرعاية الصحية المجانية مدى الحياة. لقد استفاد حوالي 711,986 جندي من إدارة الرعاية الصحية في الفترة ما بين 2002 و2011.
يسعى الجمهوريون للاستمرار بشن الحروب الخاسرة، وتحميل تكلفتها على عاتق الـ 99% ، بينما ينشغل المحافظون الجدد بحماية الـ1% من الزيادات الضريبية. لا يوجد أحد لا في البيت الأبيض ولا في الكونغرس ، يمثل الشعب الأمريكي، لذلك وعلى الرغم من وضوح علاج المشكلة لا أحد يقوم بفعل أي شيء حيالها. مما يقود أمريكا إلى الانهيار، وستكون بقية دول العالم ممتنة لهذا الحدث الجلل، فأمريكا و»إسرائيل» دولتان مكروهتان بشكل كبير، فلا يتوقع أحد أن يقوم الخارج بإنقاذ هذه «القوة العظمى» المنهارة.