الهيمنة تتدهور.. واشنطن واستحقاقات العام الجديد

خلال عام 2015، أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية عجزاً متزايداً في قدرتها على حياكة السيناريو العالمي وفق هواها. وعلى النقيض من منتصف القرن العشرين، تعجز «النخب» السياسية الأمريكية الحالية عن تقديم أي مشروع فاعل، سواء في قضايا تمس الداخل الأمريكي، أو على الساحة الدولية.

إعداد وترجمة: رنا مقداد

تشير دلائل كثيرة إلى استياء واشنطن، وإلى حالة ضيق الأفق في وجه مشاريعها، حيث وحدها المشاكل العاجلة والآنية تحظى بمحاولات مجتزأة لحلها. أما العمل الأكبر، فهو ينصب دائماً في محاولات «إنقاذ الهيمنة»، من خلال تصدير الفوضى قدر المستطاع.
لا تزال الولايات المتحدة تملك كماً كبيراً من الإمكانات العسكرية والاقتصادية والسياسية التي يمكن توظيفها في بعض المحاولات لمواجهة المشاريع المناهضة لها عالمياً. ومع ذلك، فإن الغرب المتحكم به أمريكياً، لا يزال عاجزاً بوضوح عن تقديم أي مشروع عالمي جديد، كبديل لمشروعه الفاشل.


الفشل في السياسة  الداخلية والخارجية

في طبيعة الحال، ليس اضمحلال الهيمنة الأمريكية حدثاً مستجداً وآنياً، إنما هو «عملية اضمحلال» أو «ميل نحو الاضمحلال»، وفي 2015، تسارعت هذه العملية، ويتضح ذلك من خلال تعميم الفوضى على نحو متزايد في العالم.
لن يكون للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، الذي ينهي ولايته الثانية، تأثير كبير على عملية التحلل التي تصيب الهيمنة الأمريكية عالمياً. سيجري تعزيز استياء السكان في البلاد من خلال تفاقم المشاكل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. أما في الساحة الدولية، فستستمر الولايات المتحدة في فقد مكانتها في مقابل المراكز التي تحيك عالماً متعدد الأقطاب، وعلى رأسها دول مجموعة «بريكس».
من المرجح أن يكون العام 2016 نقطة تحول محتملة في الصراعات الدائرة في اليمن وسورية. ومن الممكن لهذه التحولات أن يكون لها تأثير سلبي على الوضع العالمي للولايات المتحدة كقوة مهيمنة. وسيؤثر تعزيز حضور روسيا كقوة عسكرية، والحضورين الصيني والهندي كقوتين اقتصاديتين، على الوضع العالمي لواشنطن أيضاً. أما الانهيار النهائي للحضور الأمريكي في أوكرانيا فهو ممكن أيضاً هذا العام، مما سيفقد الولايات المتحدة ورقة الضغط القوية على الحدود الفاصلة بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا.


الرئيس الجديد

من بين جملة الأحداث التي سيشهدها عام 2016، يبرز الحدث السياسي الرئيسي داخل الولايات المتحدة، متمثلاً بالتحضيرات التي بدأت لتوها ارتباطاً باستحقاق الانتخابات الرئاسية: على الرغم من تزايد شعبية المرشح اليميني، دونالد ترامب، والبلورة التي تجري اليوم لقوة سياسية جديدة في البلاد يقودها ترامب، إلا أن احتمالات الفوز لا تزال كبيرة لمرشحة «الحزب الديمقراطي»، هيلاري كلينتون، حيث لا تعد ظاهرة «ترامب» إلا «سجادة حمراء» لعبور كلينتون إلى الرئاسة بأقل التكاليف الممكنة.
في دورها، ستواصل هيلاري كلينتون، كما هو معتاد، تمثيل مصالح «النخب» الليبرالية العابرة للحدود الوطنية، وواهم من يعتقد غير ذلك. بالتالي، وبهذا الشكل أو ذاك، ستواصل الولايات المتحدة، التي تحافظ حتى اليوم على كونها غطاءً سياسياً لعمليات النهب الرأسمالي، التصرف بالطريقة نفسها التي تصرفت فيها خلال عام 2015: مواجهة مرحلة انهيار الهيمنة عبر اللجوء لمحاولات بائسة لفرض المزيد من أشكال الهيمنة، في أماكن عدة في العالم. إلا أنه حتى هذه الاستراتيجية لم تعد تنفع، لأنه غالباً ما تنقلب أماكن المواجهات التي تفتحها واشنطن، على واشنطن ومصالحها ذاتها. لهذا، لا يمكن القول أن خروج أوباما من البيت الأبيض، ومجيء المرشحة، هيلاري كلينتون، إليه، سيأتي بتغييرات كبرى على السياسة الأمريكية وعلى التكتيك والاستراتيجية، بل يمكن القول فقط أن حقبة كلينتون، من شأنها أن تكون حاضرة على التغيير في قوة واشنطن، وهيمنتها العالمية التي كانت تتمتع بها خلال السنوات العشرين الأخيرة.


استمرار الدورة

على صعيد السياسة الخارجية، ستعمل الإدارة الأمريكية- سواء الحالية أو التي ستأتي بها الانتخابات لاحقاً- على متابعة نشر المزيد من الفوضى العالمية في عدد من الجبهات. لنا أن نتوقع أن الاحتمالات الكبرى للأزمات وسيناريوهات الفوضى ستكون حاضرة تحديداً في أوروبا وبعض دول آسيا الوسطى. إذ أنها الدول المرشحة بقوة لخوض غمار تجربة الفوضى الأمريكية، كونها دول المحيط الحيوي الروسي الذي تراه «نخب الليبرالية» الأمريكية، على اختلافها، مسرحاً يجب إدخاله في دوامات ودوامات مستجدة من الفوضى والعنف. وقد بدأت هذه السياسة تحديداً بعد فشل سيناريو الثورة الملونة في الداخل الروسي، ووصول المحاولات على الجبهة الأوكرانية إلى طريق مسدود كلياً بمعنى الحسابات الاستراتيجية بعيدة المدى.
على الصعيد العالمي، ستواجه النخب الليبرالية، في الاتجاهين السياسيين الأمريكيين كليهما، عالماً متعدد الأقطاب: هنا يمكن أن نختزل «خصوم واشنطن» الرئيسيين بروسيا والصين، وما حولهما من دول داخل أو خارج مجموعة «بريكس». أما على الصعيد الداخلي، فستكون هذه النخب وجهاً لوجه مع المخاطر التي يحملها صعود الحركة الاحتجاجية في وسط أمريكا.


ماذا عن «الطبقة الوسطى»؟

ستؤدي تصرفات النخب الحاكمة في الولايات المتحدة داخلياً وخارجياً إلى تزايد السخط في صفوف المواطنين الأمريكيين، الذين هم نواة المجتمع وأصحاب القيم الأمريكية التقليدية. وعلى الرغم من الهزيمة المحتملة للمرشح الرئاسي، دونالد ترامب، ومؤيديه في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في نهاية عام 2016، يمكننا التنبؤ بتعزيز وبلورة ما يسمى بـ«الطبقة الوسطى» كقوة سياسية فاعلة في البلاد.
وسيزيد من سرعة وتيرة هذه البلورة المحاولات المنتظمة من جانب السلطات الأمريكية للنيل من الحقوق والحريات السائدة سابقاً في الولايات المتحدة، مثل الحق في حمل السلاح، وحرية التعبير، الأمر الذي من شأنه أن يخلق لبعض النخب الحاكمة بديلاً سياسياً، فيما لو وصلت سياسات الهيمنة الأمريكية عالمياً إلى أفق مسدود كلياً، لأنه، وبحسب التوقعات، فإن الحزب السياسي الذي تتكون قاعدته الاجتماعية من الطبقة الوسطى، هو الوحيد القادر على التكيف مع نظام متعدد الأقطاب عالمياً.
إذاً، فإن حزباً سياسياً يمثل مصالح الطبقة الوسطى هو البديل الموجود اليوم أمام النخب الليبرالية التي تستشعر الأزمة التي تحيط بالدور الأمريكي داخلياً وخارجياً. لكن، هل ذلك يعني أن هذه النخب، التي اعتادت على مستوى ربح محدد أن تترك هذا المستوى فجأة، وتذهب لتداعب أحلام الطبقة الوسطى؟ بالتأكيد لا، بل سترتبط هذه الاستراتيجية بمحاولة تعبئة ما يمكن من جماهير لإنجاز خطوات التراجع التي تجبر الإدارة الأمريكية على إظهارها، لكن دون تغيير في أهداف الربح المطلوبة.

نقلاً عن مركز «Katehon»