!الثورات العربية بعد عام.. صعود اليمين
فيما يلي تأويلات تدعو إليها التطورات التي حدثت خلال العام الأول بعد انفجار الثورات العربية المعنية.
انتصار الإسلام السياسي في انتخابات تونس ومصر
تفتح انتخابات تونس (أكتوبر 2011) السبيل إلى تبلور كتلة يمينية تعتمد على أغلبية في المجلس المكلف بتحرير دستور جديد تضم حزب النهضة (الإخوان المسلمون) وشخصيات ممن يزعمون الآن أنهم «بورقيبيون»، بعد أن كانوا تابعي نظام بن علي.
ومن المحتمل أن يحقق هذا النظام الجديد بعض التقدمات الديمقراطية (احترام التعددية الحزبية وحرية الرأي وإيقاف الأنواع الأقسى من القمع البوليسي) إلى جانب ردات اجتماعية (حقوق النساء؛ علمانية التعليم؛ والدولة)، وذلك في إطار يضمن استمرار الأوضاع علىما هي عليه في مجال التنمية الاقتصادية.
والحركة الثورية في تونس لم تطعن نمط التنمية المتبع في عهد بن علي، بل اعتبرته «سليما» في حد ذاته، وأخذت بما قاله البنك الدولي!! واكتفت في توجيه انتقاداتها للقمع البوليسي وفرض «إتاوات» على جميع الأنشطة الناجحة مما استحوذ عليها أفراد عائلة الرئيس.ولم يدرك الرأي العام (باستثناء جناح يساري معزول) أن هذا النمط من التنمية التابعة هو السبب في تدهور الأوضاع الاجتماعية التي هيأت ظروف انتفاضة الجماهير.
والتحالف الحاكم الجديد لن يعدل مسيرة التطور التي أنشأها بورقيبة. فالنمط لن يعدو كونه «بورقيبية» مع جرع متصاعدة من تكريس الذاتية الإسلامية المزعومة.
وتلى في مصر انتصار التيار الإسلامي على نطاق أوسع. ماذا يمكن توقعه من انجازات الإسلام السياسي وتأصله في الجماهير وصعود صدى شعار «أسلمة المجتمع»، وبالتالي انتصاراته الانتخابية؟ تفترض الإجابة العودة إلى كشف أسباب هذا النجاح.
سبق قولي إن إزاحة تسييس المجتمع النابعة عن أسلوب عمل النظام الناصري تقوم خلف هذه الانجازات. علما بأن الناصرية لم تنفرد من هذه الزاوية. فمعظم النظم الوطنية الشعبية للموجة الأولى من صحوة الجنوب قد مارست منهجا مماثلا في إدارة السياسة. علماأيضا بأن نظم الاشتراكية القائمة بالفعل قد شاركتها في اتباع هذا المنهج، على الأقل بعد خروجها من مرحلة الثورة- الديمقراطية الطابع- وتكريس نظام حكمها.
فالقاسم المشترك هو إلغاء منهج العمل الديمقراطي. ولا أقصد هنا وضع علامة تساو بين الديمقراطية وبين إدارة انتخابات تعددية الأحزاب.
أقصد ممارسة الديمقراطية بالمعنى الصحيح للكلمة، أي احترام تعدد الآراء والاقتراحات السياسية واحترام تنظيمها- فالتسييس يفترض الديمقراطية والديمقراطية لا توجد إلا إذا كان هؤلاء الذين يختلفون في الرأي مع السلطة يتمتعون بحرية التعبير. فإلغاء هذا الحقيحذف التسييس، وهو في نهاية المطاف سبب الكارثة التالية.
وقد تجلت هذه الكارثة في العودة إلى نظرات ماضوية (ذات الطابع الديني أو غيره) كما أنها تجلت في قبول مشروع «مجتمع الاستهلاك» القائم على تكريس النزعة «الفردية» المزعومة، وهي نزعة انتشرت في صفوف الفئات الوسطى المستفيدة من التنمية، بل فيصفوف الجماهير الفقيرة التي تطالب هي الأخرى المشاركة في الرفاهية- ولو بقدر أقصى من البساطة- وذلك في غياب مصداقية بديل حقيقي آخر. وبالتالي فلابد من اعتبار هذا الانحياز طبقيا، بله شرعيا.
العولمة والتهميش.. والخطاب الديني
لقد اتخذت إزاحة التسييس في المجتمعات الإسلامية شكلا سائداً تجلى في «العودة»- الظاهرية- إلى «الإسلام». فأصبح خطاب الجوامع- إلى جانب خطاب السلطة- الوحيد المسموح له في زمن الناصرية، بالأولى في زمن السادات ومبارك. فاستغل هذا الخطاب من أجلإيقاف ظهور بديل قائم على التجذير في تطلع اشتراكي، ثم شجع نظام السادات ومبارك هذا الخطاب «الديني» ليصاحب و يساير تدهور ظروف المعيشة الناتج عن خضوع مصر لمقتضيات النمط الامبريالي للعولمة السائدة. لذلك قلت إن الإسلام السياسي لم ينتم إلىكتلة المعارضة- كما يزعم الإخوان المسلمون- بل كان جزءا عضويا في نظام السلطة.
يتطلب تحديد أسباب نجاح الإسلام السياسي مزيدا من التوضيح فيما يتعلق ببيان العلاقة بين نجاح سيادة العولمة الامبريالية من جانب وصعود شعارات الإخوان من الجانب الآخر.
فالتدهور الذي صاحب العولمة المذكورة أنتج تضخما في أنشطة القطاع «العشوائي» (غير المنظم) في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهي تمثل في ظروف مصر أهم المصادر للبقاء على قيد الحياة بالنسبة إلى أغلبية الشعب (الإحصاء يقول 60%).
وتتمتع أجهزة الإسلام السياسي بقدرة حقيقية للعمل في هذه الظروف، بحيث أن نجاح الإخوان المسلمين في هذه المجالات قد أنتج بدوره مزيدا من التضخم في هذه الأنشطة وبالتالي ضمان إعادة إنتاجها على صعيد أوسع.
فالثقافة السياسية التي يقدمها الإخوان تتسم بأقصى البساطة. إذ أن هذه الثقافة تكتفي بإضفاء «شرعية إسلامية» لمبدأ الملكية الخاصة وعلاقات السوق «الحرة»، وذلك دون النظر في طابع الأنشطة المعنية، وهي أنشطة بدائية (البازار) غير قادرة على دفع الاقتصادالوطني وتطويره.
فتوفير الأموال على نطاق واسع الذي يقوم به الخليج يتيح ازدهار هذه الأنشطة، إذ أنه يضخها بالأموال اللازمة للإنشاء في شكل قروض بسيطة أو منح. هذا بالإضافة إلى أعمال الإحسان التحي تصاحب تضخم القطاع (مراكز علاج .. الخ)، بفضل دعمها بالتمويلالخليجي. فالخليج لا ينوي المساهمة في تطوير القدرة الإنتاجية في مصر (بناء مصانع....) بل فقط تطوير هذا الشكل المنحط من «النمو». فإنعاش مصر ناهضة من شأنه أن ينهى هيمنة الخليج (القائمة على قبول شعار أسلمة المجتمع) وهيمنة الولايات المتحدة (التيتفترض مصر كمبرادورية مصابة بالفقر المتفاقم) وهيمنة إسرائيل (التي تفترض مصر عاجزة في مواجهة التوسع الصهيوني).
ليس هذا التمفصل بين سلطة تختفي خلف شعارات «إسلامية» والخضوع لرأسمالية الامبريالية السائدة وما يترتب عليه من إفقار الشعب، أمرا خاصا بمصر، فهو سمة مشتركة لمعظم المجتمعات العربية والإسلامية. ويعمل هذا التمفصل فعله في إيران حيث ضمنتالخمينية تغلب «اقتصاد البازار» من الأصل.
وهو أيضا السبب في نكبة الصومال وهي دولة حُذفت من قائمة الدول المشكلة للعالم المعاصر.
ماذا إذن نستطيع أن ننتظره في فرضية تولىي الإسلام السياسي الحكم في مصر (وفي بلدان أخرى)؟
هناك خطاب يغزو الإعلام السائد؛ وهو خطاب ساذج أقصى السذاجة ويقول: «أصبح انتصار الإٍسلام السياسي أمراً محتوما بسبب تغلب الهوية الذاتية الإسلامية التي يتسم بها واقع مجتمعاتنا، وهو واقع رفض البعض الاعتراف به، ففرض نفسه عليهم». بيد أن هذاالقول يتجاهل تماما واقعاً آخر ألا وهو أن عملية إزاحة التسييس مقصودة، وهي التي بدونها لم يكن الإسلام السياسي قد أصبح قادراً على فرض نفسه. ويضاف إلى هذه المقولة ما يمكن تلخيصه كالآتي: «لا خطر من هذا الانتصار، لأنه مؤقت؛ فالسلطة التي ستنبع منهمحكومة بالفشل وبالتالي سوف يفترق الرأي العام عنها».. كأن الإخوان من هؤلاء الذين يقبلون تنفيذ مبادئ الديمقراطية إذا عملت ضد مصلحتهم! بيد أن نظام الحكم في واشنطن يتبنى- ظاهريا- صحة هذه المقولة، وكذلك الرأي العام الذي يصنعه الإعلام السائد. وهناكزمرة من المثقفين المصريين والعرب الذين اقتنعوا أيضاً- ظاهريا- ربما من باب الانتهازية أو بسبب غياب الوضوح في الفكر.
لا. فلنعلم أن الإسلام السياسي، في فرضية توليه الحكم- سوف يستمر بفرض نفسه أن لم يكن «للأبد»، على الأقل لفترة زمن طويلة (50 عاما؟ وانظر إلى قصة إيران). وخلال هذه المرحلة «الانتقالية» سوف تواصل الأمم الأخرى مسيرة تطورها، بحيث إننا سوف نجدأنفسنا في نهاية المطاف في أسفل قائمة الأمم. لذلك لا انظر إلى الإخوان على أنهم «حزب إسلامي» بصفة أساسية، بل على أنهم أولاً حزب رجعى متخلف؛ وأن تولى الإخوان الحكم يمثل أفضل ضمان بالنسبة إلى النظام الامبريالى.
كلمة عن السلفية
أتت السلفية لتكملة الدعوة الظلامية التي أنشأها رشيد رضا والإخوان. فالسلفية ترفض علنا فكرة «الحرية» (وبالتالي الديمقراطية) على أنها تناقض- في رأيهم- طابع البشر بصفته مخلوقا عبدا (لاحظ الكلمة) ليخدم سيده الخالق، شأنه شأن العبد المطلوب منه خدمة سيده.طبعا لا يفسر لنا أصحاب هذا المذهب كيف نصل إلى معرفة المطالب الملموسة لهذا السيد الخالق في العالم الحديث. هل هو يقبل أم يرفض زيادة في الأجور على سبيل المثال. الأمر الذي يفتح السبيل لإقامة «ولاية الفقيه» على النمط الإيراني، وبديكتاتورية تكتل رجالدين الذين أعلنوا أنفسهم «علماء» يحتكرون هذه المعرفة!
إن السلفيين أعداء الحداثة، التي تعرف بحق الإبداع في تناول شؤون الدنيا. والإبداع يتطلب الحرية والروح النقدية.. التي يرفضها السلفي.
ماذا إذن عن قول قيادات السلفية إنهم «ينتمون إلى العالم الحديث» لأنهم يعلمون تلاميذهم استخدام الكومبيوتر «وإدارة الأعمال» (وذلك باللجوء إلى كراسات أمريكية من النوع المتواضع التي توزعها المعونة الأمريكية!)؟ هذه الأقوال لا تعدو كونها مهزلة حقيقية-فالسيد الحقيقي- أقصد رأسمالية الامبريالية السائدة- يحتاج إلى خدميين يمارسون هذه «الفنون» ولا أكثر؛ وكان السيد دنلوب الانجليزي المشهور- المستشار في شؤون التعليم أيام الاحتلال البريطاني لمصر- قد أدرك ذلك تماما وجعله مخططاً تم تنفيذه في المدارس!
الحداثة تبدأ عند تجاوز هذه الحدود وقبول مبدأ الحرية وهو شرط تطوير قدرة الأمة على الانتماء إلى العالم الحديث بصفة فعلية وفعالة.
بين مصر والجزائر؟
مصر والجزائر هما الدولتان العربيتان اللتان احتلتا موقعا بارزا وقياديا خلال الموجة الأولى من «صحوة الجنوب» في عصر باندونج وعدم الانحياز. فحققتا تقدما ناجحا في تكريس كيان يستحق أن يعتبر «ما بعد الكولونيالية» صحبته انجازات اقتصادية واجتماعيةتقدمية ملحوظة بالرغم من محدوديتها الأمر الذي روى آمالاً في مواصلتها في سبيل التحرير وعلى أنه تم إيقاف هذه المسيرة في البلدين. والدولتان رجعتا إلى حظيرة الدول والمجتمعات المسودة من قبل الاستعمار المهيمن.
ويبدو أن النمط الجزائري قد تمتع بتناسق متفوق على زميله المصري الأمر الذي تجلى في قدرته على وضع حدود للتآكل اللاحق، بحيث أن الطبقة الحاكمة الجزائرية مازالت منقسمة بين جناح احتفظ على نزعات وطنية وجناح كومبرادوري عادي. بل نجد في بعضالأحوال هذين الميلين يشتركان في تكوين شخصية أو أخرى منتمية إلى طبقة الحكام. هذا على خلاف الوضع في مصر حيث تخلت تماما الطبقة الحاكمة- في عهدي السادات ومبارك- عن أية نزعة وطنية كليا.
هناك سببان يفسران هذا الاختلاف، كانت حرب التحرير في الجزائر قد ولدت بشكل طبيعي اتجاها جذريا أيديولوجيا واجتماعيا. على خلاف مصر؛ حيث أن الناصرية أتت تتويجا لمرحلة مد تحرري بثورة 1919 ثم امتد بمراحل مد وجزر قبل أن تتبلور بذور التجذيرالحديث بعد الحرب العالمية الثانية. فأتى انقلاب عام 1952 بدور ملتبس فأوقف حركة التجذير. ثم تلي الانقلاب الناصري عام 1954 الذي عدل الاتجاه اليميني. على أن التعديل اعتمد على مبادرات فوقية استبعدت الشعب من المساهمة فيها. هذا من جانب.
ومن جانب آخر لابد من الأخذ في الاعتبار الآثار المدمرة التي ورثتها الجزائر المستقلة عن نمط الكولونيالية الاستيطانية الفرنسية؛ فالمجتمع الجزائري التقليدي تفكك بحيث أن المجتمع الجديد للجزائر المستقلة أصبح مجتمعا يسود فيه طابع العامة «la plebe»وبالتالي صار الطلب على المساواة يميز سلوك وميول المواطنين بدرجة لا مثيل لها في جميع البلدان العربية الأخرى هذا أيضا على خلاف تاريخ مصر حيث أن الطبقات الحاكمة- انطلاقا من محمد علي باشا- هي التي حركت تطور المجتمع ومشروع نهضته.والمشروع المصري ظل مشروعا قادته ارستقراطية تدعو إلى التحديث، فصارت بالتدريج «بورجوازية ارستقراطية»
وقد خلق هذان الخلافان شروطا مختلفة في مواجهة التحدي الجديد الذي يمثله صعود الإسلام السياسي. فقد أوضح حسين بلالو في كتابه (الديمقراطية في الجزائر: إصلاح أو ثورة، تحت الطبع) كيف أن الإسلام السياسي في الجزائر كشف باكرا وجهه البشع، ثم باءبالفشل والهزيمة. وليس معنى ذلك أن الإسلام السياسي أصبح هنا من آثار الماضي وغير قادر على الإنتعاش. ومع أن الفرق واسع بين وضع الجزائر ووضع مصر من هذه الزاوية حيث أن الإسلام السياسي في مصر لا يزال يتمتع «بشرعية» لدى الرأي العام. فلايزال يمثل التحالف بين البورجوازية الكومبرادورية والإسلام السياسي المحور الرئيسي لضمان دوام سيادة نمط الرأسمالية التابعة في مصر.
ومن هذا نستطيع أن نتصور تطورات متباينة في مواجهة التحديات المعاصرة في البلدين، في الأجل القصير على الأقل.
فلا استبعد إمكان انجاز إصلاحات مسيطر عليها من الداخل في الجزائر. على الأقل وإن لهذا الاحتمال نصيباً من الواقعية، على خلاف الوضع في مصر حيث لا يمكن تصور تطور يتفادى الاصطدام العنيف بين الحركة الشعبية وبين الكتلة الرجعية «الإسلامية/الكومبرادورية».
مصر والجزائر هما الدولتان العربيتان اللتان يمكن تصورهما مرشحتين للانضمام في كتلة الدول «البازغة». على أن يمثلا أيضاً نموذجاً حزيناً للفشل في الصعود إلى هذا المستوى.
وإن كانت مسؤولية الطبقات الحاكمة في هذا الفشل حاسمة، فإنه لا يصح تجاهل مشاركة المجتمع ومثقفيه ومناضلي الحركات السياسية في هذه المسؤولية.
وبالنسبة إلى دول المغرب العربي بشكل عام يزعم أن المملكة المغربية تضرب بمثل آخر قائم على انجاز إصلاحات ديمقراطية بوسائل سلمية وأسلوب تدريجي، فليسمح لي القارئ أن أبدي تحفظاتي على احتمال تحقيق الهدف؛ إذ أن التطور المرسوم بالأمر الملكييستعبد من الأصل أي تساؤل حول النمط الرأسمالي التابع الذي يكون إطاره.
يضاف إلى ذلك أنه- طالما ظل الشعب المغربي يتقبل مبدأ سيادة نظام ملكي/ ديني (فالملك هو أمير المؤمنين)- لن تفتح الإصلاحات المقيدة والمحدودة سبيلا للدمقرطة الصحيحة المطلوبة.
لعل هذا هو السبب في استحالة المغاربة أن يفهموا مغزى مشكلة الصحراء الغربية. فأهل الصحراء الأحرار يفتخرون بتأويل آخر للإسلام، لا يتيح لهم الركوع عدا أمام الله، ولا أمام أي بشر، ولو ملك.
الكارثة السورية
انتمى النظام السوري البعثي- في الماضي- إلى مجموعة التجارب الوطنية الشعبية (ولو غير الديمقراطية) على نمط الناصرية وغيرها في عصر باندونج؛ وعندما ظهرت حدود الانجازات (الحقيقية) الممكنة في هذا الإطار اتجه حافظ الأسد إلى مشروع يسعى إلىالجمع بين المحافظة على نزعة وطنية معادية للاستعمار من جانب والاستفادة من تنازلات يمينية تجلت في «الانفتاح» من الجانب الآخر؛ وهو خيار مماثل لما قام به عبد الناصر في أعقاب هزيمة 1967.
أوضح التاريخ اللاحق عبث هذا المشروع. ففي مصر أدى فورا- بعد وفاة ناصر عام 1970- إلى الاستسلام دون تحفظ لطلبات المحور الرجعي المكون من الولايات المتحدة والخليج وإسرائيل.
وفى سورية أدى الانفتاح إلى النتائج الذاتية التي أدى إليها في البلدان الأخرى. أقصد تدهور سريع وخطير للأوضاع الاجتماعية بالنسبة إلى الطبقات الشعبية. فتآكلت شرعية النظام.
وقد واجه النظام صعود الاحتجاج بالقمع، ولا غير. كما أن الإخوان المسلمين انتهزوا الفرصة للظهور كقوة «معارضة». فتبلورت خطة متماسكة بقيادة الاستعمار وحلفائه تسعى لا إلى «تخلص الشعب السوري من ديكتاتور» بل إلى تدمير الدولة السورية، على نمط ماأنجزته الولايات المتحدة في العراق وفي ليبيا.
وهنا تظهر العلاقة العميقة التي تربط مصالح الثلاثية. فالهدف بالنسبة إلى واشنطن هو كسر التحالف «إيران - سورية - حزب الله» الذي يعتبر عقبة في تكريس سيطرة أمريكا على المنطقة وهو بالنسبة إلى إسرائيل تفتيت سورية إلى دويلات طائفية. وهو بالنسبة إلىالخليج تكريس ديكتاتورية «سنية» مزعومة على النمط الوهابي، ولو أن هذه الديكتاتورية سوف تقوم على مجازر وتصفية إجرامية للعلويين والدروز والمسيحيين.
ولكنه في مواجهة خطر تحقق هذا المصير المخيف يظل نظام بشار الأسد عاجزاً عن الرد بالأسلوب المطلوب الفعال الوحيد، وهو يفترض التخلي عن استخدام العنف والدخول في إصلاحات حقيقية. فالحل المطلوب المقبول الوحيد يفترض فتح سبيل لمفاوضات حقيقية،وهى شرط تقوية جبهة ديمقراطية صحيحة مكوناتها موجودة في الساحة بالرغم من المجهود المبذول لكتم صوتها