حروب العملات.. والأشكال الجديدة للمنافسة (2/2)
جاك راسموس جاك راسموس

حروب العملات.. والأشكال الجديدة للمنافسة (2/2)

في العدد السابق، عرضت «قاسيون» في الجزء الأول من هذا المقال، قواعد التنافس الرأسمالي التي يراها الكاتب بأنها باتت قديمة. وفي الجزء الثاني هذا، نستكمل عرض «القواعد الجديدة» للمنافسة العدائية، حسب توصيف الكاتب.

ترجمة وإعداد: علاء أبوفراج

بعض الأشكال الأكثر وضوحاً للشكل العدائي من المنافسة الرأسمالية ما يلي:
أولاً: تلاحق الحكومة الأمريكية البنوك الأوروبية، عبر فرض غرامات تقدر بمليارات الدولارات، وكذلك عبر إجراءات من شأنها أن ترفع تكلفة الأنشطة الاقتصادية للبنوك الأوروبية في الأسواق الأمريكية. ويخدم الإجراءان كلاهما تعزيز الأداء الاقتصادي المتراجع للبنوك التجارية الأمريكية.
ثانياً: تقوم الحكومات الأوروبية بالمثل، فتلاحق شركات التكنولوجيا الأمريكية بضرائب وغرامات تصل لمليارات الدولارات، مطالبة بنقل أصول هذه الشركات في أوروبا، وقطع العلاقات معها، في محاولة لتعزيز منافسة شركات التكنولوجيا الأوروبية لنظيراتها الأمريكية العملاقة، كـ«غوغل، ومايكروسوفت..إلخ».
ثالثاً: ينشب عراك بين منتجي النفط والغاز الصخري الأمريكيين، ومنتجي «أوبك» بقيادة السعودية والمشيخات النفطية المجاورة لها.
رابعاً: صمِّم كل من برنامجي التيسير الكمي (الأول أجرته اليابان بين 2013-2014، والثاني هو تيسير كمي أوروبي وشيك في 2015)، ليحصلا على صادرات تدفع نفقتها الاقتصادات الرأسمالية الأخرى، ولتحفيز تدفق رأس المال من الاقتصادات الأخرى إلى اقتصادهم، بهدف دعم الأوراق المالية والسندات، والتعويض عن فشل إقراض بنوك اليورو، وتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى أوروبا من الصين والأسواق الناشئة.
خامساً: يزداد استخدام العقوبات الاقتصادية، كوسائل لإخراج المنافسين من الأسواق الإقليمية المستهدفة، وفتح الطريق لمنتجيها الرأسماليين.


التنحية عبر «اختبارات الضغط»

منذ الانتخابات الأمريكية في 2012، تولت حكومة أوباما إدارة المصالح الأساسية للبنوك التجارية، بالنيابة عنها، في مواجهة بنوك منطقة اليورو بشكل خاص، وفرضت غرامات على البنوك الأوروبية «لأنها خرقت القوانين الأمريكية»، خصوصاً بنوك سويسرا وفرنسا وبريطانيا.
وقامت الولايات المتحدة بتعبئة بنكها المركزي وبنك الاحتياطي الفدرالي في هذه الجهود، إذ أن بنك الاحتياطي الفدرالي على وشك القيام بتوظيف غير مسبوق للتكتيكات الهادفة إلى إخضاع البنوك الأوروبية لاختبارات الضغط الأمريكية للمرة الأولى، بذريعة أنها تريد التأمين ضد الأزمات المالية المستقبلية، مما أجبر البنوك الأوروبية على تنحية المزيد من رأس المال، وهو ما يعني قدرة أقل على التنافس مع البنوك الأمريكية.
ومن المتوقع أن أكبر بنكين أوروبيين من ناحية الأصول في أوروبا (البنك الألماني، وبانكو سانتاندر الإسباني)، لن يتمكنا من تجاوز الضغط المتوقع عليهما من البنك الفدرالي. في السابق، سمحت الولايات المتحدة للبنوك الأوروبية بتنظيم اختبارات الضغط خاصتها، واجتازتها، لكن من المرجح ألا تتجاوز اختبارات البنك الفدرالي اليوم.
إذا فشلت البنوك الأوربية في الاختبارات الأمريكية، فمن الممكن أن يجري تقليص حدود إقراضهم في الاقتصاد الأمريكي، وهذا ما سيسمح للبنوك الأمريكية مثل «جي بي مورغان» وبنك أمريكا.. إلخ بأن يختاروا أعمالهم، فكلما كانت حصة البنك الألماني أقل، ستكون حصة «جي بي» أكثر. كذلك، فإن فشل البنوك الأوروبية في الاختبار، يمكن أن يؤدي إلى استثمار أقل في البنوك الأوروبية من المستثمرين الأمريكيين في البورصة، وبالتالي تعزيز قيمة أسهم البنوك الأمريكية.


تجاوز حدود وشروط القديم

من جانبهم، أطلق الأوروبيون هجوماً على شركات التكنولوجيا الأمريكية، وكان الهدف الأساسي لهم هو «غوغل»، فالأوروبيون لا يرون «غوغل» بوصفه عقبة تقوم ببناء صناعتها التكنولوجية الخاصة فحسب، بل كتهديد للصناعات الأوربية المستقبلية، نظراً لأن الشركة تنوي التوسع في أسواق جديدة، وتهدد شركات الإعلانات والطباعة الأوروبية. كما أزعج أوروبا تلاعب «غوغل» بقوانين الضرائب الأوروبية، لتجنب دفع المليارات من مدفوعات الضرائب. هذا دون ذكر دور الشركة المركزي في مراقبة الحكومات والسكان الأوروبيين، ما أدى لأن يقوم البرلمان الأوروبي في تشرين الثاني/ 2014، بتصويت غير متوقع لكسر الشركة في أوروبا.
لا ينحصر الموضوع في شركات التكنولوجيا الأمريكية، بل أيضاً عمالقة الشركات الأمريكية مثل «GE» و«Exxon»، والعديد من شركات الأدوية الأمريكية، التي تقوم بالتلاعب في قوانين الضرائب، لتتجنب دفع مئات المليارات من الضرائب للحكومات الأمريكية والأوربية كل عام. باختصار، يقوم رأسماليو وحكومات الاقتصادات المتقدمة الآن باستهداف صناعات بأكملها، في سياق تحسين القدرات التنافسية لما يقابلها من صناعاتهم، كما يظهر خطر استمرار تباطؤ الاقتصاد العالمي.
في أوقات مضت، كانت هذه المنافسة بين الشركات المدعومة من حكوماتها، لتصبح تجربة ناجحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وممثلي الاتحاد الأوروبي. لكن في عالم يتباطأ فيه النمو الاقتصادي، وينخفض الإنفاق والإيرادات الحكومية، وفيه درجات مختلفة من سياسات التقشف المالية، ستشن هجمات كبرى ضد صناعات بأكملها، من قبل أجزاء أخرى من نخب الاقتصاد المتقدم- بتوجيه من حكوماتهم المعنية. هذا شيء جديد، تجاهل الحدود والشروط السابقة للعبة المنافسة.


أوروبا- اليابان/ الولايات المتحدة

يوضِّح لجوء البنوك المركزية اليابانية ومنطقة اليورو إلى أشكال شديدة من التيسير الكمي شكلاً جديداً من المنافسة. فمنذ عام 2010، كان الاقتصادان الياباني والأوروبي أهم اللاعبين عالمياً، وكل على حدة، انزلق داخل وخارج الركود بشكل متكرر.
يمثل كل من هذه القطاعات اليابانية والأوروبية في مناطق الاقتصادات المتقدمة، ما يقارب 20 ترليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، ما جعل أوروبا واليابان يدركان أنهما لن يكونا قادرين على أن يكملا في طريقهما السياسي والاقتصادي أكثر من ذلك. ونظراً لأن اليابان ومنطقة اليورو يعتمدان بشدة على إنتاج الصادرات لإعادة تجديد اقتصادهم المحلي، عرضت أسواق الأسهم والسندات حقن سيولة مصرفية كبيرة على شكل الكثير من تريليونات الدولارات، أي ما يعادل برامج التيسير الكمي.
تتعدد الأهداف، لكن الهدف الرئيسي هو خفض قيمة عملتيهما، اليورو والين، في سياق «خفض فعلي للقيمة» عبر الوسائل السياسية النقدية. آملة بأن يقود تخفيض كهذا إلى صادرات أرخص، ونمو في التصدير، وانتعاش اقتصادي بسبب هذا التصدير. (وهذا ما يعد سعي بائس للمنافسة).


العقوبات على روسيا  شكل جديد للمنافسة

المنطقة الأخيرة التي تشهد ظهوراً لقواعد جديدة للمنافسة ما بين الرأسماليين، هي عبر اللجوء إلى فرض عقوبات اقتصادية كإجراءات تنافسية. والحالة الأمثل اليوم هي روسيا، والعقوبات المفروضة عليها بقيادة أمريكية. يجب أن لا يساء فهم ذلك: العقوبات على روسيا، في التحليل النهائي، هي إجراءات تنافسية، وليست مبادرة بدوافع سياسية.
يقف خلف هذه العقوبات هدف الولايات المتحدة بإبعاد روسيا عن الاقتصاد الأوروبي، فأوروبا كانت لتصبح مرتبطة أكثر بروسيا ومعتمدة عليها، ليس فقط على غازها وموادها الأولية، بل عبر العلاقات التجارية وتدفق رأس المال، وكان ليتعمق على أكثر من جبهة بين روسيا وأوروبا بشكل عام، قبل الأزمة الأوكرانية التي أمنت الغطاء لفرض العقوبات.
يهدد تزايد التكامل الاقتصادي بين روسيا وأوروبا المصالح الاقتصادية للرأسماليين الأمريكيين على المدى البعيد. استراتيجياً، عجلت الولايات المتحدة في الانقلاب داخل أوكرانيا، وذلك كوسيلة لاستدعاء تدخل عسكري روسي، بما يعنيه من حدث ضروري في سياق تعميق وتوسيع العقوبات الاقتصادية، التي ستقطع، في نهاية المطاف، العلاقات الاقتصادية النامية بين أوروبا وروسيا في الأمد البعيد. وبدوره، لا يضمن هذا القطع أن تبقى المصالح الاقتصادية الأمريكية مسيطرة في أوروبا فحسب، بل ستفتح أيضاً فرصاً أمام الولايات المتحدة لجني الربح في أوروبا وأوكرانيا (ولكن روسيا لم تنجر للمصيدة- المحرر).
تؤثر الهجمات الاقتصادية للولايات المتحدة وأوربا على صناعات بأكملها، وتمثل مرحلة عالمية جديدة من المنافسة داخل وبين الاقتصادات المتقدمة: هذه الصناعة مقابل هذه الصناعة (أي العين بالعين..). هذا شيء جديد في مجال المنافسة والقتال على حصة سوق الطاقة بين الاقتصادات المتقدمة وشركاء «أوبك» الذين كانوا موثوقين، ويغير تغييراً نوعياً كبيراً آخر في السلوك التنافسي الرأسمالي العالمي. وهو لا يمثل اشتباكاً نوعياً في أسواق الطاقة فحسب، بل يزيد من خطر التهديدات المتعددة للأسواق المالية العالمية في العموم.
بدأ الرأسماليون في القتال على قطع أصغر من كعكة اقتصاد التصدير. واللجوء إلى العقوبات الاقتصادية كإجراءات تنافسية، في الوقت الذي تأخذ في الظاهر شكل أحداث سياسية، إنما في الحقيقة، تمثل تحولاً إلى شكل أكثر خطورة على المدى الطويل من المنافسة بين المناطق الكلية كاملها للاقتصاد الرأسمالي العالمي.

*عن «Counter Punch» بتصرف