حروب العملات.. والأشكال الجديدة للمنافسة (1/2)
بقلم: جاك راسموس* بقلم: جاك راسموس*

حروب العملات.. والأشكال الجديدة للمنافسة (1/2)

تقوم الرأسمالية، بطبيعتها، على أساس المنافسة المكثفة، والمدمِّرة غالباً. ليس فقط بين رأس المال والعمل، بل بين الرأسماليين أنفسهم. لكن ليست المنافسات كلها سواء. هناك المنافسة التي تحدث عندما تنمو الكعكة الاقتصادية العالمية، وهناك المنافسة في أوقات الركود والتراجع.

في الأشهر الأخيرة، تزداد المؤشرات على أن أشكالاً جديدة من المنافسة الشديدة والعدائية بدأت تظهر بين الرأسماليين، مع استمرار الاقتصاد العالمي في التباطؤ بشكلٍ عام، وكذلك الركود، والانزلاق إلى الركود، في عددٍ متزايد من الدول.

في الأوقات «الجيدة» من النمو الاقتصادي المطرد، تحدث المنافسة ضمن بعض القواعد المتعارف عليها عموماً من السلوك التنافسي الرأسمالي: المسموح به، والمتوقع كذلك، هو المنافسة بين الرأسماليين حول من يستطيع خفض التكاليف والأسعار أكثر أو أسرع، للاستيلاء على حصة السوق لدى الرأسماليات الأخرى، وحول من يمكنه الحصول على موطئ قدم استثمار أكبر في السوق المحلية للمنافسين، أو الحصول على منتج تنافسي بشكلٍ أسرع ليدفعه إلى السوق، ومن يمكنه الاستفادة من تكنولوجيات الإنتاج الجديدة بشكلٍ أسرع، أو من يمكنه الحصول على إحدى الحكومات لتوفير تخفيضات ضريبية أفضل، ومناورة أفضل في التجارة الحرة لفتح الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد المحلي الرأسمالي الآخر، وهكذا دواليك.

«الجيدة» وتلك «السيئة»

لعبت الحكومات دائماً دوراً رئيسياً في لعبة المنافسة بين الرأسماليين. لكن أشكال المساعدة التي تتعهد بها الحكومات في دعم لعبة المنافسة يمكنها أن تتغير أيضاً مع مرور الزمن: التلاعب بالسياسية الضريبية المحلية، خفض أسعار الفائدة، قطع تكاليف الفوائد، ومساعدة الشركات في ضغطها المستمر على ارتفاعات الأجور. جميعها تدابير نموذجية توظفها الحكومات لصالح الرأسماليين المحليين (والمساهمين في الحملات الانتخابية) في الأوقات «الجيدة». وتمثل هذه التدابير تعزيزاً لتنافسية الرأسماليين، على حساب الطبقة العاملة المحلية لديها، والمستهلكين، وربما الأجور المكتسبة لدافعي الضرائب. لكن هناك تدابير أخرى لا تزال محتملة، هناك طرق لـ«انتزاع» حصة من الدخل، ليس فقط من العمال، ولكن من الرأسماليين الآخرين خارج السوق المحلية، أي في البلدان النامية والاقتصادات الأخرى.

ومع تحول الأوقات «الجيدة» إلى أوقاتٍ «سيئة» في العقود الأخيرة، وخصوصاً منذ عام 2008، فإن قواعد لعبة المنافسة قد تغيرت، ليس فقط فيما يتعلق بـ«انتزاع» الدخل من العمال والمستهلكين، بل من تحصيل الدخل على حساب المنافسين الرأسماليين الأجانب.

عندما تتحطم قواعد لعبة المنافسة برمتها بين الرأسماليين، تكون النتيجة هي الحرب، وهي الشكل النهائي للمنافسة بين الرأسماليين. تقفز الحربان العالميتان في القرن العشرين إلى الذهن مباشرةً، حيث كان القتال من أجل المستعمرات والموارد واضحاً، لا سيما في حالة الحرب العالمية الأولى، فيما كانت الحرب العالمية الثانية نتيجة للقضايا العالقة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى، وكذلك نتيجة للانهيار الاقتصادي للرأسمالية العالمية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.

مناطق «ممنوعة» وأخرى «مسموحة»

إن الحروب الحديثة والمستمرة التي قادتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال هذا القرن، هي دليل قاطع على الحروب التي تنتج دورياً، وعلى الصراع المسلح الذي يجري باسم مصالح الرأسماليين المحليين. إنها حروب الشرق الأوسط التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي، وتكثَّفت في بدايات القرن الحالي، والتي قامت في أساسها على تأمين الموارد المتوفرة للولايات المتحدة والاقتصادات المتطورة الأخرى، وخصوصاً النفط.

في مذكرات بعض الأشخاص الأساسيين في النخبة الاقتصادية الأمريكية، بعد غزو العراق في 2003، اعترفوا بأن هذا الغزو كان بدافع النفط بشكل أساسي- ورغم أن هذا الاعتراف أتى من بعض السياسيين الأمريكيين، إلا أنه لم يعتمد من الصحافة.

والشيء الأكثر حداثة، كان عندما تدخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر لإدارة الإنقلاب في أوكرانيا خلال العام الماضي، وما تلاه من إعدادٍ لمصرفيي الظل التابعين للمحافظين الجدد بهدف إدارة اقتصاد البلاد، وهو ما كان قد بدأ في كانون الأول الماضي 2014.

قد تكون المنافسة عن طريق الحرب ممنوعة داخل، وبين، الاقتصادات المتطورة، ولكن جرى النظر إلى أوكرانيا- على الأقل بالنسبة للولايات المتحدة- على أنها «صراع مقبول على الحدود»، وخارج «المنطقة التي تمنع فيها المنافسة الاقتصادية العسكرية»، غير أنه، من جهة أخرى، وبالنسبة للأوروبيين، فإنه ينظر إلى أوكرانيا بوصفها داخل تلك المنطقة، ولهذا، كان الأوروبيين أكثر توتراً حيال هذا الصراع.

الحروب الحديثة والمناورات المسبقة

أما قضية روسيا فهي مثيرة للانتباه أكثر. فالأوروبيون أكثر توتراً من الأمريكيين حول «قواعد لعبة التنافس» الجديدة في حالة روسيا، فهذه القواعد الجديدة، تعني عقوبات اقتصادية حادة لتقويض الاقتصاد الروسي. وعلى الرغم من أنه خيار مفضل بالنسبة لواشنطن، إلا أن الأوروبيين يعدون هذه العقوبات على روسيا مغامرة خطيرة. ليس من باب تأثيراتها العكسية على الاقتصادات الأوربية نفسها فحسب، ولكن أيضاً لأن هذه العقوبات تمثل سابقة محتملة (للبناء عليها لاحقاً مع دول أخرى). 

إذا كانت روسيا، كما يراها العديد من الأوروبيين، خارج المنطقة التي تمنع فيها المنافسة العسكرية، فإن التنافس مع روسيا اقتصادياً عن طريق العقوبات هو سابقة خطيرة. وكما التخفيضات التنافسية، يمكن للعقوبات الاقتصادية الخفض في اتجاهين، فالمنافسين كليهما سيلجأ إلى نفسه، ولا يمكنه أن يسود اقتصادياً في النهاية.

لم تتضمن الحروب الحديثة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وأماكن أخرى، أي نزاع عسكري بين الاقتصادات المتطورة في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان، بل إن ما يجري فعلياً هو أن الاقتصادات المتطورة تضرب رأسماليي الأسواق الناشئة وحكوماتها، كمناورة مسبقة لتأمين مصالحهم الأساسية نيابة عن طبقة رأسمالييهم الخاصة، وعلى النفقة الاقتصادية المباشرة للأسواق الناشئة هذه.

*جاك راسموس: دكتور في الاقتصاد السياسي، وأستاذ محاضر في جامعة «سانت ماري» في ولاية كاليفورنيا. له مؤلفات عدة: «الركود الملحمي: مقدمة لكساد عالمي»، «الاقتصاد زمن أوباما: الانتعاش للقلة».

أكثر من السابق..  وأقل من حرب

بات من الواضح أن المنافسة بين الرأسماليين عن طريق الصراعات العسكرية بين الاقتصادات المتطورة (الولايات المتحدة واوروبا واليابان) غير موضوعة على الطاولة اليوم، ولا حتى بشكل طفيف، بل يجري حفظها لهذه الدول والاقتصادات التي تقع خارج فلك الاقتصادات المتطورة. لكن القواعد للعبة التنافس، ضمن، وفيما بين، الرأسماليين في الاقتصادات المتطورة، القواعد التي كانت سارية في السنوات السابقة، يبدو وكأنها تخبو.

تظهر قواعد جديدة، بدقة أكبر، فالقواعد القديمة حول «نزاعات خارج المنطقة» تنهار، لتأخذ أشكالاً جديدة مقبول فيها أن تجري المنافسة بين الرأسماليين داخل، وبين الاقتصادات المتقدمة. لهذا، نرى الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة تدخل إلى المنصة- في نوع من المنافسة، خاضع لشعار «لا يوجد منطقة محرمة»- حيث تظهر أشكالٌ جديدة، وأكثر عدوانية من المنافسة بينهم. 

 

بين التدخل الحكومي في حدوده القصوى، ونيابة عن مصالح الرأسماليين المحليين- التدخل الذي يأخذ شكل الصراع العسكري المباشر- وبين شكل آخر قائم على انخراط حكومات الاقتصادات المتقدمة بإجراءات تنافسية (مثل الضرائب المحلية والتجارة والنقد، وسياسات الأجور نيابة عما يمثلونه من مصالح الرأسماليين)، جرى إرساء «أرضية مشتركة»، حيث تظهر أشكال جديدة من المنافسة بين الرأسماليين تقوم على المواجهة، والتي لا تزال إلى الآن أقل من العنف المباشر والحرب. لم تعد أشكال المنافسة كالسابق، قائمة على التجارة والتكنولوجيا وتخفيض التكاليف.. إلخ، ولم تصل بعد إلى المواجهة العسكرية التي تقوم لمصالح اقتصادية، لكن في مكان ما بين الإثنين من حيث شدته وعدوانيته.

*عن «Counter Punch» بتصرف