العقدة الأوروبية: فراغ استراتيجي و«اغتراب» شعبي
تشكِّل الأزمة المستمرة في منطقة اليورو وأوكرانيا الخطر الأكثر جدّية على أوروبا منذ الأيام السوداء للحرب الباردة. الدمار الاقتصادي في الجنوب، والحرب في الشرق، يلقيا بظلالهما الطويلة على الاتحاد الأوروبي، وعلى نطاقٍ واسع في أوروبا ككل. اليوم، يمكننا القول أن وعود ما بعد عام 1945 حول السلام والازدهار لم تعد حقيقية.
تعتبر الدول الـ28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي موطناً لمستويات عالية من المعيشة بالنسبة لكثيرين، وأكبر سوق مشتركة لأكثر من 550 مليون مستهلك. لكن الانهيار الاقتصادي في عام 2008 كشف الهشاشة الهائلة في أساليب الحياة والنماذج الاجتماعية الأوروبية التي لطالما جرى التفاخر بها سابقاً.
إعداد وترجمة: رنا مقداد
في ظل غياب حل جذري ونوعي، يواجه الاتحاد الأوروبي مفارقة «الاقتصاد الثري والشعوب الأكثر فقراً»، وسط تزايد معدلات التفاوت الاجتماعي وارتفاع معدلات المعطَّلين عن العمل بين الشباب. وعلاوة على ذلك، فإن «أرباح السلام» بعد عام 1989 باتت مهدورة بشكلٍ كبير. حيث جرت محاولات لـ«تأصيل» الانقسامات القديمة بين الغرب وروسيا، في حين شهدت دول أوروبا كلها صراعات جديدة فيما بينها.
التهديدات الثلاث.. وحوامل التطرف
تواجه دول الاتحاد الأوروبي، والدول الأوروبية غير الغربية، ثلاثة تهديدات يبدو أنها حاضرة وجاهزة لتسوء بشكلٍ أكبر:
أولاً: انعدام الاستقرار الجيوسياسي، كما هي حال الصراع في أوكرانيا، وبما يسمى بـ«الصراعات المجمدة» في ترانسنيستريا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وتنامي نفوذ ما يسمى بـ«الدولة الإسلامية» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ثانياً: الشك والريبة الاقتصادية في منطقة اليورو. فبالإضافة إلى مآلات انسحاب اليونان من منطقة اليورو، هناك الاستفتاء المقترح حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. فضلاً عن الركود العالمي والانحدار (بما في ذلك من نمو بطيء، وأعباء الديون، والاستثمار غير الكافي في البنية التحتية، ومستويات الإنتاج المنخفضة باستمرار).
ثالثاً: انعدام الضمان الثقافي للأعداد المتزايدة من المواطنين على أرضية عدم استقرارهم المالي. فهؤلاء الذين تعرضوا للانهيار الاقتصادي، تعرضوا أيضاً للتفكك الاجتماعي والارتباك الثقافي طويل الأمد، وهو ما يفاقم عوامل الخوف من الهجرة المضادة.
كل هذا يساهم بإيقاد القوى المتمردة في «اليسار الراديكالي» واليمين المتطرف على حدٍ سواء، تلك القوى التي تسعى إلى تعبئة السكان ضد الاتحاد الأوروبي و«المؤسسات التكنوقراطية» في بروكسل.
بعد الفراغ الجيوسياسي: فراغ استراتيجي
بشكلٍ حاسم، وفي أنحاء أوروبا كلها، نشهد اليوم حركات تكتيكية وارتجال ردود الفعل، بدلاً من التفكير المُخطَّط والاستراتيجية طويلة الأمد.
أولاً: تُظهر جميع الأطراف علامات عن «التوحد الاستراتيجي»، بدلاً من الوحدة الاستراتيجية، حيث تلقي اللوم على الآخرين في الصراعات، وترفض تحمل المسؤولية فيها (أوكرانيا مثالاً). ثانياً: تعاني القوى الأوروبية الكبرى من متلازمة «العوز الاستراتيجي». ثالثاً: فشلت القوى الأوروبية- «الصلبة» و«الناعمة» على حدٍ سواء- بخلق بنية أمنية أوروبية تمكنها من تأمين أوروبا والمناطق المحيطة بها، والتي تعدُّ من بين أكثر المناطق اضطراباً في العالم، خصوصاً في بلدان الشرق الأوسط.
لا يبشر الفراغ الاستراتيجي في أوروبا بالسلام والرخاء للأوروبيين. ففي وقتٍ تحوِّل فيه الولايات المتحدة تركيزها الجيواستراتيجي نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تبدو أوروبا في حالة انقسام متزايد بين بلدانها، بين تلك التي توالي «الناتو» وتلك المؤيدة للأوراسية، بالتوازي مع الاستعصاء الألماني في المنطقة الرمادية «الشرق-أوروبية». ودون تطلعات استراتيجية مشتركة أو تحليل سياسي شامل، تنجرف القوى الأوروبية الكبرى بعيداً.
وعلاوة عن ذلك، فإن المواجهة الأيديولوجية القديمة بين اليسار واليمين، وبين الشرق والغرب، قد أفرزت، إلى حدٍ كبير، طريقة جديدة للاشتباك الثقافي بين قيم الليبرالية الكوسموبوليتية وقيم المقاومة الاجتماعية، وهو ما يتضح من خلال تصنيع متزايد سياسي وإعلامي لعداوة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا.
يحاول الاتحاد الأوروبي إبراز القوة المعيارية، إلا أنه يواجه الآن أخطر أزمة هوية منذ معاهدة «ماستريخت 1992». إذ أن الأساس المعياري الخاص بالاتحاد صار متجسداً في العمل على أن يصبح هذا الاتحاد أداةً للطعن والصراع. حيث باتت لغة «الديمقراطية الليبرالية الغربية» و«الحقوق الفردية للإنسان» أداة لخلق التوتر الحضاري مع روسيا ودول أخرى.
أزمة الشرعية و«الاغتراب» الشعبي
أدت الاضطرابات في منطقة اليورو، وعلى الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، إلى تفاقم أزمة شرعية الاتحاد، التي تجلت بأوضح صورها في الانخفاض الحاد بنسبة الدعم الشعبي للمشروع الأوروبي. حيث أن التباين الآخذ في الاتساع بين القوة والسلطة، بات يشكل جدلية حقيقية يمكنها أن تساهم تدريجياً بتآكل ما تبقى من الدعم الشعبي للتكامل الأوروبي. فالحكومات التي تتخذ القرارات وراء الأبواب المغلقة في الاجتماعات الوزارية التي تجري في بروكسل، تبدو أنها غير قادرة، وعلى نحو متزايد، أن ترتقي لقيادة موفقة. وهذا ما يخلق بدوره فجوة متزايدة بين «النخب» الحاكمة والمواطنين في أوروبا.
في موازاة ذلك، يواجه الاتحاد الأوروبي خطراً مزدوجاً يهدد بتفكيك الدولة القومية من جهة، والهوية الوطنية من جهةٍ أخرى، إذ أنه فشل في محاولة بناء أول مجتمع سياسي عابر للحدود في التاريخ الحديث. هنا، يكمن سبب التطرف السياسي و«الاغتراب» الشعبي إزاء المشروع الأوروبي. حيث أن انهيار التخيلات الاجتماعية الوطنية القديمة هو مصدر التطرف لدى قوى اليمين واليسار الأوروبي. ونتيجةً لذلك، فإن أعداداً متزايدة من المواطنين في جميع أنحاء أوروبا يعيدون التفكير في «الديمقراطية التمثيلية» ومؤسسات السوق الأوروبية التي تتواطأ مع المصالح الخاصة على حساب الأكثرية من المواطنين. لا الحكومات الوطنية، ولا هيئات صنع القرار العابرة للحدود الوطنية في الاتحاد الأوروبي، سوف تكون قادرة على أن تحظى بموافقة شعبية بما يعالج أزمة الشرعية التي تهدد المشروع الأوروبي ككل.
«العودة إلى الجذور»: لسنا طرفاً تابعاً للولايات المتحدة
تواصل نماذج وأساليب الهيمنة داخل الاتحاد الأوروبي، تأجيج القوى النابذة التي تؤدي إلى تفاقم مشاكل التكامل الأوروبي، وتوسع احتمالات تقطيع الاتحاد إرباً. ووسط الانقسامات المتفاقمة، تتطلب أوروبا تحليلاً سياسياً جديداً ونظرة استراتيجية مشتركة. ابتداءً من الاتحاد الأوروبي، الذي عليه أن يتخلى عن كونه بديلاً عن السياسة والسياسيين، ويعود إلى المبادئ الأولى فيما يخص التضامن (عبر تقديم المساعدة المتبادلة للمعوزين بين الشعوب والدول الأوروبية)، والتبعية (عبر الحكم الذاتي على المستوى الأنسب، وفقاً لكرامة وازدهار الإنسان). فالاتحاد لا يجب أن يكون طرفاً تابعاً للدولة الاتحادية العظمى (المقصود هو الولايات المتحدة)، ولا منطقة رفيعة للتجارة الحرة.
في مثل هذا النظام السياسي الذي تتداخل فيه الاختصاصات وتتعدد فيه مستويات العضوية، فإن الدول هي المفتاح، لأنها توازن بين المطالبات المشروعة التي تأتي من الأحياء والمناطق، والمطالب المشروعة لشعوب أوروبا ككل.
عن «WorldPublicForum» بتصرف..
*أدريان بابست: باحث فرنسي، ودكتور في العلوم السياسية. أستاذ محاضر في جامعة «Kent» البريطانية.
تنويه من المحرر:
بغض النظر عن مدى شمولية الأسباب التي ساقها الكاتب في هذا المقال للدلالة على عمق الأزمة التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي، إلا أن أهمية هذا الطرح تتبدى في تسليطه الضوء على حالة التجاذب الحاصلة داخل دول الاتحاد، وبين بعضها، في ظل انسداد الأفق أمامه للاستمرار في تخديم الإمبريالية المتراجعة دولياً. هذه الحالة التي أفرزت تخبطاً سياسياً أوروبياً، حتى ممن لا يريدون الإبقاء على الاتحاد الأوروبي كما هو، بين من يميل إلى «فرط» الاتحاد الأوروبي، ومن يؤيد الحفاظ على نوعٍ ما من الوحدة بين أعضائه مع تغيير التوجهات الاستراتيجية القديمة، وانتفاء دور أوروبا كقوة احتياطية أمريكية.