إمبريالية الدولار.. نسخة 2015 «2/2»
بقلم: ريمي هيريرا وميشيل براند بقلم: ريمي هيريرا وميشيل براند

إمبريالية الدولار.. نسخة 2015 «2/2»

عرض الجزء الأول من هذا المقال البحثي بداية وتاريخ هيمنة الدولار على العالم وخطوات مجموعة دول «بريكس» للانعتاق من هذه الهيمنة. في هذا العدد، تنشر «قاسيون» الجزء الثاني من المقال، والذي يناقش الآثار الكارثية على الاقتصادات النامية الناتجة من تلاعب «بنك الاحتياط الفدرالي» بمعدلات الفائدة والتيسير الكمي، بالإضافة للتداعيات على الاقتصاد الأمريكي المتهاوي، ليخلص الباحثان الفرنسيان إلى أن المخارج الحالية المطروحة لا تعدو كونها مخارج مؤقتة بالنظر إلى أن جوهر المشكلة يكمن في النظام الرأسمالي نفسه. 

ترجمة وإعداد: علاء أبو فراج

رغم أن فكرة استبدال النظام النقدي العالمي لم تنجح إلى الآن، لكنها تهدِّد أمريكا بشدة، وتقطع شوطاً كبيراً في تفسير الحروب التي تخوضها وتفتعلها الآن، والتي قد تبدو غير منطقية بدون أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار

تنطوي خطوط قواعد الناتو في أوروبا الشرقية، والانقلاب غير الشرعي في أوكرانيا، على محاولات لفصل أوروبا عن روسيا بهدف إبقاء «أوروبا الخاضعة» في الفلك الأمريكي وللحيلولة دون قيام أي منطقة اقتصادية «أوراسية» وعزل روسيا وزعزعة استقرارها. هذه المحاولات تشترك بالهدف مع «الشراكة والتجارة عبر الأطلسي»، في محاولة إضعاف الصين وروسيا (ودول بريكس بالعموم) في المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية كافة، مع أمل لقلب الأنظمة هناك، بالإضافة إلى أن سبب الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط لا ينحصر بالسيطرة على النفط أو الأسواق، بل هو نابعٌ بالدرجة الأولى من ضرورة الإبقاء على سوق النفط الأحفوري مسعرة بالدولار. تعد جميع هذه الأسباب جزءاً أساسياً في الاستراتيجية الأمريكية لإبقاء هيمنة الدولار.


«الدولار مشكلتكم وحدكم»

تصعد «بريكس» باتجاه إلغاء «الدولرة»، حيث بنك البريكس الجديد للتنمية معد ليكون البديل لصندوق النقد والبنك الدوليين. فمن الممكن نظرياً لهذا البنك أن ينشئ عملة احتياطية منافسة للدولار مستقبلاً مما قد يكون له آثار كارثية على الاقتصاد الأمريكي. وقد أُنشئ البنك الآسيوي الجديد، للاستثمار في البنية التحتية الآسيوية دون الاستعانة بـ«البنك الدولي» أو «بنك التنمية الآسيوي» الخاضع لمصالح اليابان وأمريكا.
زادت «بريكس» التجارة بعملاتها المحلية فيما بينها على حساب الدولار، ويجري الترويج ليكون اليوان الصيني عملة إقليمية للتجارة والمخزون الاحتياطي في آسيا، وهناك اقتراح مشابه لدى «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» لإنشاء عملة مشتركة «الألتين» قريباً. كما تزيد روسيا والصين من تعاونهما في ميادين الطاقة والشؤون العسكرية، وتقومان أيضاً بالتخلص من سندات الخزينة الأمريكية من احتياطاتهما، وتشتريان كميات هائلة من الذهب. أعلنت الصين في أواخر 2014 عن خطة إصلاح مالي تضمن إعادة توزيع احتياطيات عملتها، فبدلاً من إعادة تحويلها إلى سندات خزينة أمريكية، يجري توجيهها «لدعم الاقتصادات المحلية وإحداث تطوير في الأسواق الخارجية لتلائم البضائع والمعدات الصينية الراقية». وفي شباط 2015، أعلنت روسيا عن إنشاء بديلها عن «SWIFT» (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) كردّ على التهديدات الغربية بفصلها عن هذه الشبكة، وعلى كشف مراقبة «وكالة الأمن القومي» الأمريكية للمعاملات التي تجري في شبكة «SWIFT». تؤخذ كل هذه الخطوات من أجل أن تتمكن دول الجنوب والشرق من أن تقول لأمريكا، وبشكلٍ نهائي: «الدولار هو عملتكم أنتم، ومشكلتكم وحدكم».


عالم مغرق بالدولار

إلى الآن لا يعد الدولار مشكلة الأمريكيين وحدهم، بل مشكلة بقية العالم كذلك، لأن سياسات «بنك الاحتياط الفدرالي» تخلق الفوضى مجدداً في العالم النامي. على مدى ست سنوات، قام البنك بإغراق العالم بالدولار، مانحاً 4.5 تريليون دولار بشكل شبه مجاني لبنوك ومستثمرين عن طريق التيسير الكمي، واعداً بإبقاء أسعار الفائدة منخفضة. وصرح «بنك التسويات الدولية» في كانون الأول 2014، أنه في أواسط العام ذاته بلغت ديون المقترضين (المؤسسات الائتمانية غير المصرفية) خارج أمريكا 9 ترليون دولار، بزيادة نسبتها 50% منذ 2008. افترض المستثمرون والمقترضون أن «بنك الاحتياط الفدرالي» سيحافظ على سياسة التيسير الكمي لوقت طويل، سامحاً للمقترضين بالالتفاف على سنداتهم بسهولة، لأن اقتراض الدولار لم يكلف شيئاً تقريباً. لكن البنك ذاته بدأ بتقليص التيسير الكمي في بدايات 2014، وأنهاها في نهاية شهر تشرين الثاني، وبدأ في الخريف الماضي الحديث بجدية حول رفع نسب الفائدة في وقت ما من عام 2015.


أزمات مرتقبة

تفترض نهاية التسهيلات المالية و«الانتعاش» الاقتصادي المرتقب في الولايات المتحدة زيادةً في قيمة الدولار وانخفاضاً مقابلاً في عملات عالمية عديدة، وتبرز مخاوفٌ حقيقية من انسحاب رؤوس الأموال من هذه البلدان والعودة إلى موطنها.
نقلت صحيفة «Financial Times» البريطانية عن مسؤول صيني رفيع المستوى أن 20$ مليار خرجت من الصين في تشرين الأول وحده، وهذا هو وضع الصين المالي حيث «تبدو مشابهة أكثر للأزمة المالية الأسيوية» في 1990. سيفاقم رفع معدل الفائدة، حتى لو بمعدل ربع نقطة، هذه المشكلة وسينزل ضربة قوية بـ«البريكس» ويصعّب سداد ديونها.
في هذا الصدد، كتبت صحيفة «Telegraph» البريطانية: «كلما ازداد الازدهار الأمريكي سيكون الوضع أسوأ بالنسبة للدول المتضررة من الدولار. اقترضت الأسواق الناشئة 5.7 تريليون من عملة لا يمكنها طباعتها أو التحكم بها، ونشأ هذا الرقم من خلال تضاعف الدين ثلاث مرات خلال عقد، لذلك عليهم الاستعداد لهذه المحنة. وقال ستيفين جين، من شركة «slj macro partners» أن عملات الأسواق الناشئة يمكن أن تذوب، حيث تدفق في العقد الماضي الكثير من رؤوس الأموال التراكمية إلى هذه الأسواق. لا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً لإيقاف التدفقات الخارجية الآن، طالما استمر الاقتصاد الأمريكي بالتعافي. قاد هذا الاتجاه نحو أزمة تشبه 1998-1997، وصرت أعتقد بأن هذا أمر مرشح بشدة بالعام 2015». فهل الوضع كذلك حقاً؟


تداعيات على الاقتصاد الأمريكي

بالظاهر، فإن كل هذا يجري لمصلحة الإمبريالية المالية الأمريكية، ولتقويض أي منافسين يشككون بهيمنة الدولار. ولكن الوضع خطير حتى على اقتصادات المركز غير المستقرة تماماً. إذ سيضرب ازدياد قوة الدولار الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات بقوة. كل ما على الأمريكيين فعله لدفع منافسيهم نحو أزمات هو إيقاف صنابير التيسير الكمي (بعد أن أغرقوا العالم بالدولار) ورفع قيمة الفائدة، وهو قد يبدو حلاً غير مكلف، لكن الأمور قد لا تنتهي بدون تكاليف على أمريكا بنهاية المطاف، فالعالم مترابط ومعولم أكثر بكثير من 1979 أو1997، واقتصادات الأطراف تبلغ الآن نصف الاقتصاد العالمي، والاقتصاد الأمريكي ضعيف بالتوازي مع طباعة تريليونات الدولارات الجديدة، وما زالوا عازمين على إجبار العالم للخضوع لهيمنتهم.


المخرج الحقيقي الوحيد

بوجود 5.7 ترليون دين داخلي على «بريكس»، لايزال لدى دول المجموعة مخارج قبل أن تحرر نفسها كلياً من الدولار، فإذا دخلوا في أزمة عميقة وشاملة، قد يكونوا مجبرين على خطوات أكثر سرعة باتجاه إطار مالي بديل مضاد للدولرة للبقاء على قيد الحياة. يبدو أن هذا العالم ثنائي القطب سيوفر بعض الراحة لتلك الاقتصادات. مع ذلك، إذا انقسم العالم إلى قطبين متنافسين فقد يؤدي إلى حرب باردة جديدة، وربما ينذر بخطر حرب عالمية جديدة. وسيكون إنشاء عملة احتياط عالمية جديدة حلاً أفضل بكثير– الذي لن يستبدل العملات الوطنية ولكنه سيتغلب على الدور غير العادل المهيمن للدولار المدار من المؤسسات الدولية- سواءً أكان ذلك عبر إصلاح صندوق النقد (إذا كان هذا ممكناً) أو من خلال إنشاء واحد أخر يكون «محايداً» أكثر من تلك المؤسسات.
لن يغير تحرير العالم من عبء الدولار، ومن الحروب الباردة و«الحامية« التي شنت في سبيل إبقاء هيمنته. وإن هذا التحرير لن يلغي الحقيقة العالمية بأن «المرض الخبيث» هو الرأسمالية، لكنه سيسمح بوجود هامش التنفس الضروري لخبرة عمل بديلة باتجاه اقتصاد أكثر اجتماعيةً، باتجاه الاشتراكية للنجاة والازدهار المنشود.