إمبريالية الدولار.. نسخة 2015 (1/2)
«الدولار هو عملتنا نحن، ولكنه مشكلتكم أنتم»، هذا ما قاله وزير الخزانة الأمريكي، جون كونالي، لنظرائه في اجتماع روما لدول «العشرة الكبار» في تشرين الثاني من عام 1971. بالمختصر، وبعد أن قامت إدارة نيكسون بإنهاء «معادلة» الدولار بالذهب، ونقل النظام النقدي العالمي إلى نظام تعويم سعر الصرف، أخذ العالم يعاني من هذه «المشكلة» بشكلٍ متصاعد. ومنذ ذلك الوقت، اكتسبت الولايات المتحدة ميزة قيّمة وهي إصدار العملة العالمية المعتمَدة في المخزون الاحتياطي والتجارة العالمية وفقاً لنظام «بريتن وودز» بعد الحرب العالمية الثانية.
يعمل «بنك الاحتياطي الفدرالي» بفاعلية كبنكٍ مركزي للعالم كله، إلا أنه يضع السياسات المالية وفقاً لمصلحته الخاصة، وتحت ضغط وأوامر احتكارات القلة المالية يحدد البنك أسعار الفائدة ويطبع النقود بما يلائمه، دافعاً بالاقتصادات العالمية نحو انهيار تدريجي- لولبي.
«صدمة فولكر» والدول النامية
عندما أراد بنك الاحتياطي الفدرالي إخراج الولايات المتحدة من الركود التضخمي أواخر السبعينيات، وإيقاف الهبوط بمعدلات الربح- هذا الهبوط الذي دام عقداً من الزمن- قام بزيادة معدلات الفائدة بشكلٍ حاد (الإشارة هنا إلى «صدمة فولكر» في العام 1979 و1987 حيث قفز معدل الفائدة الفعلي للأموال الاتحادية إلى أكثر من 20% في بداية الثمانينيات من القرن الماضي) دافعةً بالعديد من الدول النامية إلى سقوطٍ حر، مما أنتج تخلفاً بالدفع وعبودية للديون، نظراً لأن ديونها كانت محسوبة بالدولار الذي قفزت معدلات فائدته فجأة، فأصبحت هذه الدول خاضعةً لأعباء الديون التي أثقلت كاهلها، والتي لن تتمكن من سدادها إلا من خلال طلب الاستدانة من «صندوق النقد الدولي»، بشروطٍ بات معروفاً مدى قسوتها.
تكرار «النمور الآسيوية»
كان لارتفاع معدلات الفائدة في العام 1997 في الولايات المتحدة- والذي لم يتجاوز ربع نقطة الدور المسبب الرئيسي للأزمة الآسيوية، حيث هربت رؤوس الأموال قصيرة الأجل من جنوب شرق آسيا. واليوم، في عام 2015، فإن كلاً من نهاية التيسير الكمي، وسياسة تعزيز الدولار، والرفع المتوقع في معدلات الفائدة الأمريكية يمكن أن ينزل ضربة قاسية بالاقتصادات النامية، على اعتبار أنه ومنذ عام 2009، تمت طباعة تريليونات من الدولارات أو تم إقراضها بمعدلات فائدة تقارب الصفر لدول الجنوب والشرق في العالم. لكن التشديد الذي تشهده السياسة النقدية اليوم قد بدأ يؤدي إلى هجرات جماعية لرؤوس الأموال قصيرة الأجل التي تزعزع هذه الدول، بما يجعل منافسي الولايات المتحدة في العالم «الناشئ» في حالة هبوط.
لم يكن الهدف الصريح والمعلن عندما وُضعت هذه القوانين هو ابتلاع دول الجنوب، ولكن نتيجة كهذه هي نتيجة حتمية ومتوقعة لسيطرة دولة وحيدة على النظام المالي العالمي، دولة واحدة هدفها الحفاظ على وضعها المهيمن، حيث أُخذت تدابير أخرى، وبشكلٍ محدَّد، باتجاه نهاية كهذه. لهذا، يجب رؤية الجولة الأخيرة من هذه الحرب المالية في سياق الإمبريالية المالية بشكل عام.
أسلحة من نوع جديد
يجري أيضاً ضرب الدول- التي تناضل في سبيل سيادتها- عن طريق العقوبات وهجمات المضاربة على عملاتها والتلاعب بأسعار السلع الأساسية ووضع تقييمات متحيزة من الوكالات الأمريكية المعنية، فضلاً عن غرامات هائلة على بعض البنوك بسبب «النشاطات غير اللائقة» حسب التوصيف الأمريكي، وحظر بنوك محددة من المشاركة في النظام المصرفي العالمي. كل هذه الأسلحة– تماماً مثل نظائرها الفتاكة– تستخدم بهدف الحفاظ على هيمنة الدولار وإضعاف المنافسين، سواء أكان هؤلاء دول الشمال (حلفاء أمريكا) أو دول الجنوب والشرق (المنافسين لها).
لا يكمن دور الدولار في محاولة تمكين بنيان الإمبراطورية الأمريكية وحسب، بل إن الدفاع عن مكانة الدولار الحالية يعد السبب الرئيسي للحروب الإمبريالية التي تخوضها الولايات المتحدة، حيث ترتكز القوة المالية والعسكرية الأمريكية على حقيقة كون الدولار هو العملة الاحتياطية والتجارية العالمية. كذلك، ترتكز هذه القوة على خلق طلب عالمي على الدولار يسمح للولايات المتحدة بأن تطبع من العملة الخضراء بمقدار ما تشاء، ثم تضخ هذه الدولارات في النظام المالي العالمي المفرط في التضخم، وتستخدمها لتمويل الحروب الإجرامية.
إن خلق طلب عالمي قوي جداً على الدولار كان مفتاحاً للحفاظ على النظام من الانهيار أثناء الأزمة المالية عام 2008، إذ سمحت اتفاقية البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي للبنوك المركزية في دول المركز وبعض بلدان الجنوب بالوصول بحرية غير محدودة إلى الدولار من خلال «خطوط المبادلة» الخاصة فيها.
العجز ونهاية الهيمنة
بالنسبة للاقتصاد الأمريكي الحقيقي، يُعطَى الدولار قيمة مبالغ بها، حيث يستهلك الاقتصاد أكثر بكثير مما ينتج، ويعوض الفرق من خلال الدَّين. فالعجز المتشكل من الميزانية الفدرالية، وكذلك من الحساب الجاري مجتمعين، يصل لحوالي تريليون دولار (ألف مليار) في السنة.
إن الضغوط الأمريكية والهجوم على الدول الساعية لتحرير نفسها من نير الدولار ليس نابعاً من اقترافهم لجرم «التشهير في الذات الملكية» فحسب، بل لإجبار العالم الحفاظ على مركز الدولار وبالتالي الحفاظ على الهيمنة الأمريكية.
لا توجد دولة أخرى، غير الولايات المتحدة، تستطيع أن تستهلك أكثر مما تنتج لهذه الدرجة دون أن تخشى عواقب هذا الفعل، فبدون الطلب العالمي على الدولار سيصبح الأخير مضبوطاً وستنتهي في آخر المطاف الهيمنة الأمريكية إلى غير رجعة.
«بريكس» وكسر نير الدولار
بعد تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حول جور نظام الدولار، فُرضت العقوبات الاقتصادية على روسيا، وجرت مضاربات على عملتها فضلاً عن تخفيض مصطنع بأسعار النفط (التي تم التلاعب بها مؤخراً من قبل أمريكا بشراكة السعودية)، وتخفيض وكالات التصنيف، ومحاولات إشعال «الثورات الملونة» لزعزعة الاستقرار، بالإضافة للتهديدات العسكرية.
حاولت دول «البريكس» بالعموم، وخصوصاً بعد الأزمة المالية في 2008، التحرر من هيمنة الدولار، فأصبحت الصين هدفاً للسياسة العسكرية الاستراتيجية الأمريكية «للتمحور حول آسيا» بعد 2011، وتعرضت لزعزعة سياسية في هون كونغ والمقاطعات الغربية في الصين، وعانت أيضاً من محاولات الولايات المتحدة عزلها اقتصادياً عن جيرانها من خلال «الشراكة عبر المحيط الهادئ».
في العام 2009، وبعد أن صدَّرت الولايات المتحدة أزمتها المالية الداخلية إلى أرجاء الكوكب، اقترحت الصين وروسيا أن «يفطم» العالم نفسه عن الدولار، ويستبدله بعملة احتياط ليست خاضعة لسيطرة دولة واحدة. واقترحتا أن تستخدم «حقوق السحب الخاص SDRs» التابعة لـ«صندوق النقد الدولي» (بالعملات والآليات الاحتياطية الأخرى لتفادي احتمالات عجز الدولار واحتياطي الذهب عن التمويل). أسقطت الولايات المتحدة الاقتراح فوراً، حيث أن «حقوق السحب الخاص» تعد «ثمرة فريدة» لأزمة العملة في آخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي.
ردَّ «صندوق النقد الدولي» على الأزمة، بدفعٍ من الأوروبيين، من خلال إنشاء عملة ورقية في العام 1969 لاستخدامها كعملة احتياط عالمي، ولكن الولايات المتحدة لم تعجبها فكرة وجوب أن تستبدل «حقوق السحب الخاص» بدور الدولار فنسفت الفكرة. بعد ذلك بوقت قصير، تخلَّت أمريكا عن معيار الذهب، فـ«حقوق السحب الخاصة» تشكل نسبة ضئيلة من احتياطات العالم. ومنذ ذلك الوقت، أسقطت الولايات المتحدة أي تعديلات اقترحت لنظام «حقوق السحب الخاصة»، باستخدام «الفيتو العرفي» لها في «صندوق النقد الدولي»، حيث كان يقتضي تغيير قواعد كهذه أن يتم بأغلبية 85%، إلا أن حصة الولايات المتحدة لا تتجاوز 17%.
مجلة «Counterpunch» الأمريكية.