15عاماً على قصف يوغوسلافيا ترميز مرحلي للحرب العالمية الحالية
بقلم : كلاوديو غالو بقلم : كلاوديو غالو

15عاماً على قصف يوغوسلافيا ترميز مرحلي للحرب العالمية الحالية

قد ندرك، إذا قفزنا من نهر الأخبار دائم الجريان، أننا في عمق الحرب العالمية «الرابعة» التي بدأت في 1989 مع انهيار جدار برلين الذي حدد نهاية الحرب العالمية الثالثة، المعروفة أيضاً باسم الحرب الباردة. أما الفصل الأخير من الحرب العالمية الرابعة فيتمثل بالمحاولات الفاشلة لطرد روسيا من شبه جزيرة القرم.

كل هذا إلى الآن هو بقايا مرحلة ترميزية من قصف الناتو ليوغسلافيا الذي بدأ في 24/4/1999، منذ 15 سنة تماماً، والتي كانت حرباً ضد سلوبودان ميلوسيفيتش، لكن في الوقت نفسه حرباً لنقل تأثير وحدود «الناتو» شرقاً.

«عمليات قوات التحالف» كما سماها «الناتو»، كانت عبارة عن 78 يوماً من قصف يوغسلافيا بكثافة تدريجية، منتقلة من الأهداف العسكرية إلى استهداف بنى تحتية مدنية. 

حرب «نظيفة».. جداً..!

ندم المؤرخ العسكري البريطاني، جون كيجان، بشكلٍ شبه مسرحي في صحيفة «Daily Telegraph» لإيمانه الأولي بجنود المشاة، حيث قال: «هناك تواريخ محددة تحدد نقاط تحول حقيقية في تاريخ الحروب(..) هناك نقطة تحول جديدة لتحديدها الآن على التقويم، 3 حزيران 1999، برهن استسلام الرئيس "ميلوسيفيتش" على أنه من الممكن كسب الحرب عن طريق سلاح الجو فقط».

حرب «نظيفة» جداً، مع الكثير من القنابل الذكية القادرة على أن تمر فوق رؤوس الصربيين، لتصيب الأشخاص السيئين فقط دون غيرهم، كما طرحت «بروباغاندا طبول الحرب». لم تكن مهمة سهلة في البداية أن يُطرح على أبناء الغرب أن حرباً عدوانية داخل أوروبا الشرقية هي مجرد حرب عادية، لكن «المقنعين الخفيين» كانوا قد اكتسبوا خبرة في أثناء حرب الخليج التي رعاها جورج بوش الابن. وإذا كانت تلك الحرب أول حرب متلفزة، تم عرضها عبر مشاهد منتقاة بعناية من كاميرات الـ«CNN»، فإن حرب يوغسلافيا كانت أول حرب عاصرت الإنترنت.

كان يجب عليهم افتعال حادث رمزي، فكانت مذبحة «Racak»- وهي قرية في كوسوفو- حيث قتل 45 ألبانياً على يد الجيش الصربي، كردّ على إطلاق النار على 4 رجال شرطة صربيين. زعمت رواية «الناتو» أن القصف جاء كردّ على التطهير العرقي الصربي، ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك، إذ كان تدخل «الناتو» لشن بعض العمليات ضد أبناء كوسوفو، مع تصاعد الحرب ضد الانفصاليين من جيش تحرير كوسوفو «KLA»، المدعوم من الولايات المتحدة وألمانيا. 

كان لجريدة «Times» (المرفعة عن كل الشبهات!) بعض الشكوك حول مذبحة «Racak»: «لا تزال الادعاءات والادعاءات المضادة تكتنف حقيقة ما جرى في «راجاك»، فما هو معلوم أن أربعة رجال شرطة قتلوا خارج القرية بكمين لجيش تحرير كوسوفو. بعد ذلك، تم إطلاق النار على 40 رجلاً ألبانياً على الأقل من القرية ذاتها في هجومٍ شنه الصربيون في الفجر. قال الصرب أن جميع القتلى الذين سقطوا في أثناء الهجوم هم من مقاتلي جيش تحرير كوسوفو. أما الألبان، فقالوا بأن جميع من قتل كانوا من المدنيين الذين تمت تصفيتهم بعد أن أسروا».

لكن مسبباً كهذا لن يكون كافياً، فأنت بحاجة لإيديولوجية لإقناع الناس، لأنه بمعزل عن ادعاء النيوليبرالية بموت الإيديولوجية، فإنها حية أكثر من أي وقت مضى. «حقوق الإنسان» كانت هي هذه الإيديولوجية. لنكن صريحين: من ضدّ حقوق الإنسان؟ ولكن السؤال هو: أية حقوق إنسان؟! حقوق الإنسان التي قتل لأجلها أسقف غواتيمالا خوان جيراردي على يد «فرق الموت» في 1998 على سبيل المثال. أو تلك التي حددها جورج بوش وتوني بلير؟

ذريعة «الإنسانية»

بعض أفكار البيان الذي يقوم عليه «حزب العمال الجديد» في المملكة المتحدة تعبد الطريق أمام عملية الناتو في يوغسلافيا، وإن البيان ذاته كان الأساس الذي قامت عليه «السياسية الخارجية الأخلاقية»: «العمال يريدون بريطانيا أن تكون محترمة في العالم بسبب النزاهة التي تحدد علاقاتها الخارجية. سنجعل من حماية وتعزيز حقوق الإنسان جزءاً أساسياً من سياستنا الخارجية. سنعمل لإنشاء محكمة جنايات دولية للتحقيق في جرائم الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية». 

يقول دانيلو زولو، البروفيسور في فلسفة القانون والقانون الدولي بجامعة فلورانس: «في بداية التسعينيات، كانت التدخلات الإنسانية تشكِّل العنصر المفتاحي في الاستراتيجية الدولية للولايات المتحدة. وزعمت الأخيرة أن ضمان الأمن الدولي كان يتطلب من القوى الكبرى المعنية بالحفاظ على النظام العالمي، أن تعتبر أن مبدأ «ويستفاليا» القائل بعدم التدخل في التشريعات الداخلية للدول المستقلة بات بالياً. شنت الولايات المتحدة الحرب على جمهورية يوغسلافيا الاتحادية– الحرب في كوسوفو 1999– وشرعت بممارسة «التدخل الإنساني». وهكذا اتخذ الدافع «الإنساني» كسبب صريح للحرب العدوانية. وأعلنت الولايات المتحدة شرعية استخدام القوة لأسبابٍ «إنسانية»، على الرغم من تناقضه مع ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ النظام الأساسي، والحكم الصادر عن محكمة «نورنبيرغ»، وأيضاً مع القانون الدولي بشكل عام».

عنون الفيلسوف الإيطالي، كوستازو بريفه، كتابه عن قصف الناتو بالـ«القصف الأخلاقي» وقال: «خلقت الولايات المتحدة وضعاً مأسوياً يتعارض مباشرةً مع شكلها الكاريكاتوري المشوه، أيديولوجيا تصدير حقوق الإنسان من خلال القوة المسلحة. تشير الـ«تراجيديا» في معناها اليوناني الأصلي للوضع الميؤوس منه، حيث كل قرار يؤخذ هو قرار سيء. ربما تكون مسألة حقوق الانسان اليوم المسألة الأكثر تراجيدية. من جهة، يجب على الشعوب في أنحاء العالم جميعها أن يحترموا حقوق الانسان بكل تأكيد، إضافة إلى ذلك، يجب على هذا الاحترام أن يرتكز فلسفياً إلى حوار عالمي (بدون نعرة التفوق الغربي القذرة) وخصوصاً بنسختها تلك، التي تأتينا وكأنها تفويض إلهي منزّلٌ من مدينة «رونالد ريغن» المباركة. ومن جهة أخرى، فقد أدى خضوع الأمم المتحدة للولايات المتحدة وأنظمتها الخانعة لحالة متفشية من انعدام الشرعية».

ومن باب المفارقة الصارخة أنه تزامن قصف يوغوسلافيا في عهد ميلوسيفيتش مع وصول أول رئيس وزراء من «الحزب الشيوعي القديم» في إيطاليا، ماسيمو داليما. كما كتب رئيس الجمهورية السابق، فرانشيسكو كوسيغا: «نزول "الشيوعي" داليما في مقر الحكومة جرى بدعم كامل من واشنطن، بمقابل ضمان عدم انسحاب إيطاليا من الحرب في كوسوفو». 

ومن باب المفارقة الصارخة أكثر أن القصف بدأ بالسنة ذاتها التي ظهر فيها اليورو. حيث استغلت إدارة كلينتون مناسبة قصف كوسوفو لتوضح للعالم كله التناقض السياسي لأوروبا الجديدة، التابعة دائماً للولايات المتحدة. ففي «نضالها» لإيديولوجيا «حقوق الإنسان» في كوسوفو، كانت أوروبا تقاتل فعلياً من أجل الأجندة الامبريالية.

على حد تعبير الفيلسوف الإيطالي، ديغو فوزارو: «مع انهيار هيكل العالم ثنائي القطب، بدأت مرحلة جديدة مختلفة تماماً من الصراع. ويجري كل هذا ضمن سياق الحرب العالمية الرابعة. وهذه حرب جيوسياسية وثقافية معلنة من «الحاكم العالمي» على بقية العالم. حرب ضد الدول والشعوب غير الراضين بأن يخضعوا لقوتها، أي بمعنى سياستها المتمثلة في الهيمنة على العالم من خلال التسليع».

حول هذه المادة:

طرح الكاتب تاريخ مصطلح «التدخل الإنساني» الذي تتستر وراءه الولايات المتحدة وأتباعها لشن حروبهم العدوانية في العالم، مستفيداً من الذكرى الخامسة عشر لقصف يوغسلافيا ليسلط الضوء على أحداث العقود المنصرمة التي نصّبت فيها الولايات المتحدة نفسها «شرطي العالم»، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة «التي وصفها الكاتب بالحرب العالمية الثالثة». واستخدم الكاتب مصطلح «الحرب العالمية الرابعة» للتعبير عن حجم الصراع الجاري في العالم الذي يحتضن في جوهره صراع الإمبريالية الأمريكية مع الدول الرافضة لهيمنها على العالم، الذي يشهد تنامياً في الوزن الروسي ومن خلفه دول «بريكس» جميعها، وهو ما يخولها لكسر سياسة القطب الأوحد ويشكل تهديداً جدياً للهيمنة الأمريكية على العالم. واعتبر الكاتب أن الفصل الأخير من «الحرب العالمية الرابعة» كان بتصدي روسيا لمحاولات توسع الغرب شرقاً والاستيلاء على القرم.

*عن موقع «RT English» بتصرف..