هل الشيوعيون مجرد مراقبين؟
الماركسية تخاطب البروليتاريا الصناعية فقط، ومدح انغلز في مقدمة الصراع الطبقي في فرنسا (1848 ـ 1850) لماركس اشتراك البروليتاريا الألمانية في أيامه في الانتخابات، واستخدامها ذلك في نشر أفكارها.
لذلك نظر ماركس إلى الاستعمار، وكأنه قدر للشعوب المستعمرة، التي لم يكن لديها خيار، إلا بين الظلم الاستعماري والاستبداد القديم (المغولي، أو غيره). وربما الأممية الثانية كانت مدفوعة بذلك في مواقفها من الاستعمار، وفي تحالفها مع رأسماليات بلدانها، باعتبار أن ذلك التحالف هو الخيار المطروح أمامها.
الماركسية ـ اللينينية هي التي خاطبت العمال والفلاحين معاً، وكان ذلك بتأثير الوضع في إمبراطورية روسيا القيصرية، حيث ضعف التطور الصناعي جعل البروليتاريا الصناعية هناك ضعيفة العدد وضعيفة التطور في الوقت نفسه، وحيث الظلم الاجتماعي يقع على الفلاحين بالدرجة الأولى.
وتسبب دخول الفلاحين في المعادلة الثورية تعقيدات تاريخية عديدة، منها تعقيدات الحرب الأهلية، التي كان وقودها المعادي هو الفلاحين، وأيضاً الصراع مع الكولاك (الملاكين الزراعيين الصغار) الذين كانوا قادرين على تجنيد فلاحيهم، وكذلك الإشكاليات الوطنية، التي رافقت الحرب الوطنية العظمى، وكادت تقصم ظهر الدفاع عن الوطن في أشرس وأوسع غزو عرفته الحرب العالمية الثانية، ويمكن أن ينسب المرء إلى مرتكزات الكتل ذات الأصل الفلاحي تصاعد الثورة المضادة (بمساعدة الرأسمالية الدولية طبعاً)، التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، وانهيار أنظمة الاشتراكية العلمية في كتلة دول الاشتراكية العلمية السابقة.
وفي الوقت نفسه يمكن أن يعزو المرء إلى دخول الفلاحين في المعادلة الثورية الصعوبات التي عانتها وتعانيها دول العالم الثالث ذات التوجه الاشتراكي العلمي.
وهذا لا ينفي الدور الفلاحي العظيم في مختلف ثورات العالم الثالث التقدمية. وأيضاً في الاتحاد السوفيتي. لقد قامت الثورة الصناعية التي فجرها الحزب الشيوعي السوفيتي على يد الفلاحين، وأيضاً كان الدفاع المستميت عن الوطن في الحرب الوطنية العظمى على يد الفلاحين: الفلاحون هم الذين نقلوا المصانع إلى ما وراء الأورال، والفلاحون هم الذين دافعوا عن موسكو وليننغراد (بطرسبورغ) وستالينغراد، وكذلك الفلاحون هم الذين انتصروا في الثورات الصينية والفيتنامية والكوبية والأمريكية ـ اللاتينية.
لكن الفلاحين هم في الوقت نفسه مخزون الماضي الذي ينتمي إلى الإقطاع وإلى استبداد القديم، وفي الوقت نفسه يتحالف مع الرأسمالية الدولية، وعن هذا التحالف ينتج أمران، الأول تكريس ما هو قديم على علاته، والثاني استغلال ذلك في مختلف مخططات السيطرة الرأسمالية في بلدانها وفي العالم.
الطائفية هي إحدى ثمار ذلك، وقد استغلها الاستعمار الانكليزي في تفتيت شبه القارة الهندية، وكان من جملة نتائجها باكستان وبنغلادش، أما الإدارة الأمريكية، فقد استغلتها وما تزال، على نطاق عالمي، ودفعت ثمن ذلك كثيراً: المشروع الصهيوني وهو مشروع طائفي كلفها حتى اليوم التريليونات، ويكلفها زعزعة المجتمع الأمريكي وتشرذمه، وأيضاً خروج القرار الوطني من يدها، وعلى الصعيد العالمي توظف الإدارة الأمريكية الأموال البترولية (الحليفة والمنهوبة)، والقدرات المادية الحليفة، وأموال المخدرات والتجارات غير المشروعة على اختلافها، في تسعير الطائفية في كل مكان سلباً وإيجاباً، سلباً باعتبارها إرهاباً يجب أن تحاربه وتحارب باسمه شعوب العالم، وإيجاباً باعتبارها قوة تخريب وتدمير في كل مكان، من الصين وحتى بولونيا.
انعكس كل ذلك على اليسار عموماً، وعلى الأحزاب الشيوعية. اليسار الموروث عن الأممية الثانية انتهى ماركسياً ـ لينينياً، بالتحول إلى فصائل متحالفة تحالفاً مجحفاً مع الرأسمالية الدولية، وفي أيام الإدارة الأمريكية، يرى المرء اشتراكيات الأممية الاشتراكية socintern أشد رجعية بقيادات أحزابها من قيادات أحزاب المحافظين، ومجاناً ما عدا المنفعة الشخصية، فلا ندري، مثلاً، ماذا انتفعت بريطانيا من احتلال العراق في أيام السيد طوني بلير.
الأحزاب الشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ربما فقدت نسغها، العديد منها تراجع بقياداته إلى صفوف الرأسمالية الدولية، بل وأحياناً إلى الصف الطائفي، وهذا في غاية التدهور.
وهناك أحزاب ما تزال قيادتها نظرياً متمسكة بالماركسية ـ اللينينية، وهذا في ذاته أمر مهم جداً، إذ يذكر الأجيال والمجتمع ببوصلة التحرر الوطني والإنساني. غير أن التذكير وحده لا يكفي، فالمهمة الأساسية للحزب الشيوعي هي النضال.
في القرن التاسع عشر كان النضال موجها مباشرة ضد الرأسمالية، ولكن هذه استطاعت أن تنخر ذلك النضال في الأممية الأولى، وأن تحوله في الأممية الثانية إلى تحالف معها، كما استطاعت أن توظف المخزونات التقليدية في الاتحاد السوفيتي ضد تلك القلعة العظيمة التاريخية للاشتراكية العلمية.
اليوم ما يزال الهدف الأخير للنضال هو إسقاط الرأسمالية الدولية كنظام (إسقاط الرأسمالية، لا إسقاط الرأسماليين)، ولكن الهدف المباشر هو وطني تحرر البلد من الاستعمارين السياسي والاقتصادي، ومن مرتكزاتهما المتمثلة بالدرجة الأولى بالطائفية.
لقد أدخل الاتحاد السوفيتي في النصف الثاني من القرن الماضي الفلاحين في المعادلة الثورية الثالثية، ونتج عن ذلك إنجاز عظيم هو التحرر السياسي للمستعمرات، وتحولها إلى دول مستقلة عضوة في منظمة الأمم المتحدة، وهذا أمر ليس بقليل. طبعاً استطاعت الرأسمالية الدولية أن تنخر بالطائفية استقلال البلدان الثالثية، وأعادتها كلها تقريباً إلى الحظيرة الاستعمارية، بل أصبح مجلس الأمن والمؤسسات الدولية تنتهك السيادة في كل دول العالم تقريباً، ومن الجملة في دولة عظمى كالصين.
لقد خدم فلاحو المستعمرات المشروع الوطني لبلدانهم، وحرروها سياسياً تباعاً في النصف الثاني من القرن الماضي، ويمكن نظرياً أن يستكملوا تحريرها الوطني، وأن يستمروا من أجل تحرير الإنسان من النظام الرأسمالي الدولي. ولكن لا يستطيعون القيام بأي شيء من ذلك، ما بقوا سجناء الطائفية. وهنا يأتي موضوع أساسي للنضال التقدمي في مختلف البلدان وخصوصاً في العالم الثالث، ألا وهو تحرير الشعب من السجن الطائفي. غير أن القوى التقدمية لا تستطيع مقاومة الطائفية، التي تبذل اليوم في سبيلها تريليونات الدولارات.
الأحزاب الشيوعية، التي فقدت البوصلة قليلاً أو كثيراً، تلجأ غالباً إلى التحالفات المجحفة، التي تضعها في أدنى درجات الشراكة، والأسوأ هو أن تتحول قياداتها إلى مختلف أنواع الرجعيات. والأحزاب التي تتمسك بالبوصلة الأساسية، أي الماركسية ـ اللينينية، كثيراً ما تترك الأمور للتطور. غير أن الزمن هو في مصلحة من يعمل، ومن يعمل اليوم هو الرأسمالية الدولية، ولذا فلن يكون التطور، إلا ضد الشعوب، لا لمصلحتها.
النضال بالنسبة للحزب الشيوعي هو أمر أساسي، وهو المبرر لوجوده إنه أمر أساسي في بلدان الانتفاضات الشعبية، فهذه الانتفاضات على أهميتها التاريخية، وعلى بسالتها وتضحياتها الثمينة تصب أخيراً، كما نرى، في سلة الرأسمالية الدولية إذن تضيع الاندفاعات والتضحيات سدى.
ربما الأحزاب الشيوعية في واقعها لا تستطيع لا قيادة تلك الانتفاضات ولا التأثير فيها، وهذا يبين مدى بعدها عن المسؤولية الاجتماعية. فحمل هذه المسؤولية هو مسألة تراكمية لنضال الحزب.
الحزب الشيوعي والشارع، مسألة تحتاج إلى تدقيق، فليس النضال مجرد اندفاعة عفوية إلى الشارع، قد يخسر الحزب بنتيجتها الكثير.
فالشارع منذ أيام ثورة 1848 الفرنسية، وأيام الكومونة في 1871، أدى إلى هزيمة الثورة لزمن طويل، وحتى اليوم. النضال لا يتطابق والشارع، كما لا يتطابق والعمليات «الفدائية» على طريقة الحزب الشيوعي اللبناني: لأن النضال هو منظور بعيد الأفق للتحرير الوطني والإنساني.
النضال هو ضد الاستعمار، أينما وجد، وضد الطائفية، المرتكز الأساسي، السلبي والإيجابي للاستعمار، والنضال هو مع البناء الصناعي، ومع التقدم المادي في أي مجتمع، والنضال هو مع بناء العضو الحزبي، لا ليكون تابعاً تنفيذياً، وإنما ليكون قيادياً في مجاله يحس بمسؤولية الحزب كاملة، ويستطيع أن يتصرف وفق ذلك.
النضال هو مسؤولية جماعية للحزب، وهو في الوقت نفسه مسؤولية فردية ملقاة على أعضائه، أينما وجدوا، وهو في نفس الوقت تكامل عضوي بين المسؤوليتين.
والنضال أيضا ليس مسؤولية احتكارية للحزب، فهو في نهاية المطاف لا يستطيع التأثير إلا في نطاق ضيق، إن مهمة الحزب تفجير النضال في المجتمع، وجعله ممارسة عامة، وهنا تحتاج الأحزاب الشيوعية والتقدمية التعاون والتنسيق فيما بينها، وصولاً إلى الوحدة. إن النضال هو الذي يوحد أبناء المجتمع في النهاية.
الحزب الشيوعي يقضي على ذاته، إذا بقي مراقباً، ولا يحيا إلا بالنضال ولكن كيف؟ إنها مهمة قياداته