التدخل الإمبريالي بشؤون الدول والشعوب باعتماد «الحرب عبر الإنترنت»
دومينيكو لوسوردو دومينيكو لوسوردو

التدخل الإمبريالي بشؤون الدول والشعوب باعتماد «الحرب عبر الإنترنت»

لا تفوّت إدارة أوباما مناسبةً للاحتفاء بالإنترنت والفيسبوك وتويتر بوصفها أدواتٍ لنشر الحقيقة ولترويج السلام ترويجاً غير مباشر. منحت واشنطن مبالغ معتبرة لتفعيل تلك الأدوات وجعلها منيعةً في وجه «الطغاة» وهجماتهم. في الحقيقة، القاعدة بالنسبة إلى وسائل الإعلام الجديدة مماثلةٌ للقاعدة المطبّقة على أكثر وسائل الإعلام التقليدية: يمكن أيضاً أن تكون أدواتٍ للتلاعب ولتأجيج الحقد بل والحرب. بهذا المعنى، استخدمت الإذاعة استخداماً واعياً على يد غوبلز والنظام النازي.

«ورشة حرب نفسية»

أثناء الحرب الباردة، مثّلت برامج الإذاعة سلاحاً للجانبين المنخرطين في النزاع أكثر ممّا مثّلت أداةً للبروباغندا: بناء تأثير «ورشة حرب نفسية» هو أحد أوائل الواجبات الموكلة إلى السي آي إيه. كما لعب اللجوء إلى التلاعب دوراً أساسياً في نهاية الحرب الباردة؛ في تلك الأثناء، وإلى جانب الإذاعة، تدخّل التلفزيون. في 17 تشرين الثاني 1989، انتصرت «الثورة المخملية» في براغ، بكلمة سرٍّ كانت توحي بالغاندية: «الحب والحقيقة». في الحقيقة، لعب نشر الأخبار الكاذبة بأنّ طالباً «قتل بقسوة» على يد رجال الشرطة دوراً حاسماً. هذا ما كشفه بسرور، بعد عشرين عاماً، صحافيٌّ وقائدٌ في الانشقاق اسمه «يان أوربان» وهو بطل التلاعب، إذ أدّت كذبته إلى استثارة الاستنكار الشامل وانهيار نظامٍ مترنّحٍ أصلاً.

في أواخر العام 1989، وعلى الرغم من التشكيك الواسع بنيكولا تشاوشيسكو، كان لا يزال يتربّع على رأس السلطة في رومانيا. كيف السبيل إلى الإطاحة به؟ نشرت وسائل الإعلام الجماهيرية الغربية على نطاقٍ واسعٍ بين السكّان الرومانيين المعلومات والصور عن «الإبادة» التي اربكبتها في تيميسوارا شرطة تشاوشيسكو. لكن ما هي حقيقة ما جرى؟ لنترك الكلمة لفيلسوفٍ مرموقٍ هو جيورجيو أغامبين، وهو شخصٌ لا يبرهن دائماً على التيقّظ النقدي تجاه الإيديولوجية المسيطرة، لكنّه أجمل هنا بأسلوبٍ جيد القضية التي نعالجها:

«للمرّة الأولى في تاريخ البشرية، تمّ على عجلٍ نبش جثثٍ دفنت لتوّها أو مصفوفة على طاولات المشارح ليتمّ أمام الكاميرات تمثيل الإبادة التي ينبغي أن تشرعن النظام الجديد. إنّ ما ظهر أمام أعين العالم كلّه على الهواء مباشرةً بوصفه حقيقةً على شاشات التلفزيون هو اللاحقيقة المطلقة؛ وعلى الرغم من أنّ التزوير كان واضحاً أحياناً، فقد قام نظام وسائل الإعلام العالمية بتعريفه على كلّ حالٍ بوصفه حقيقةً كي يكون واضحاً أنّ الحقيقي لم يعد سوى لحظة حركة الزيف الضرورية».

بعد عشرة أعوام، تمّ مرّةً أخرى تفعيل التقنية الموصوفة أعلاه، بنجاحٍ متجدّد. فقد برمجت حملةٌ شرسةٌ على يوغوسلافيا بعد أن جهزت خطّة تفكيكها والتحضير للحرب الإنسانية ضدّها:

«مجزرة راكاك رهيبة، تضمّنت بتر أطرافٍ وقطع رؤوس. إنّه مشهدٌ مثاليٌّ لاستثارة استنكار الرأي العام العالمي.. لم يكن الصرب هم من قاموا ببتر الأطراف، بل رجال العصابات الألبان».

لم يكن ممكناً الشكّ بقيام رجال العصابات الألبان حتّى ذلك الحين بمثل تلك الفظاعة: إنّهم محاربو الحرّية. اليوم، في مجلس أوروبا، نرى زعيم المحاربين الألبان ووالد الوطن في كوسوفو، هاشم تاسي، متّهماً بقيادة زمرةٍ سياسيةٍ إجراميةٍ ولدت عشية الحرب، وتورّطت ليس فقط في تهريب الهيروئين، بل كذلك الأعضاء البشرية. هذا ما كان يحدث بقيادته أثناء الحرب: حوّل رجال زمرة محاربي الحرّية مزرعةً في تريب، وسط ألبانيا، إلى صالة عمليات، المرضى فيها هم سجناء الحرب الصرب: ضربةٌ في النقرة قبل استخراج الكليتين، بتواطؤٍ من أطباء أجانب غربيين. كما ظهرت إلى النور حقيقة «الحرب الإنسانية» للعام 1999 على يوغوسلافيا؛ لكن آنذاك، تأجّل تفكيكها وأقيمت في كوسوفو قاعدةٌ عسكريةٌ أمريكيةٌ ضخمة.

الثورات.. والخديعة!

لنقم بقفزةٍ أخرى إلى الوراء، عدّة سنوات. فقد أبرزت مجلّةٌ فرنسية متخصّصة في الشؤون الجيوسياسية (هيرودوت) الدور الأساسي الذي لعبته القنوات التلفزيونية أثناء «ثورة الورود» التي حدثت في جورجيا أواخر العام 2003، تلك القنوات التي تسيطر عليها المعارضة الجورجية والشبكات الغربية: كانت تنقل من دون توقّفٍ صورةً (تبدّى لاحقاً إنّها مزيّفة) للدارة التي قيل إنّها دليل فساد إدوارد شيفرنادزه، القائد الذي ينبغي الإطاحة به. بعد إعلان النتائج الانتخابية التي أدّت إلى انتصار شفيرنادزه والتي عدّتها المعارضة مزيّفة، قرّرت المعارضة تنظيم مسيرةٍ إلى تبليسي. وعلى الرغم من كلّ الحشد في جميع أركان البلاد بوسائل بروباغندية ومالية، شارك في المسيرة في ذلك اليوم عددٌ يتراوح بين 5 آلاف وعشرة آلاف شخص، وهذا لا شيء بالنسبة إلى جورجيا، لكن بفضل إخراجٍ متطوّرٍ وعالي الحرفية، توصّلت أكثر قنوات التلفزيون انتشاراً في البلاد إلى توصيل رسالةٍ مختلفةٍ تماماً: «الصورة هنا، قويةً، وهي صورة شعبٍ بأكمله يمشي وراء رئيسه الجديد». هكذا رفعت الشرعية عن السلطات السياسية وأصبح البلد فاقداً للاتجاه وصارت المعارضة أكثر وقاحةً وعدوانيةً منها في أيّ وقتٍ مضى، ولاسيّما أنّ وسائل الإعلام الدولية والمستشاريات الغربية ساعدتها وحمتها. كان الانقلاب قد نضج، وحمل إلى السلطة ميكائيل ساكاشفيلي الذي درس في الولايات المتحدة الأمريكية ويجيد اللغة الإنجليزية وهو قادرٌ تماماً على أن يفهم سريعاً أوامر رؤسائه.

نصل هكذا إلى «الحالة الليبية». في هذا الصدد، تحدّثت مجلّةٌ إيطاليةٌ متخصّصة في الشؤون الجيوسياسية عن «استخدامٍ استراتيجيٍّ للمزيّف»، «يتمّ بدايةً إظهار النضال بوصفه مبارزةٍ بين القويّ والضعيف المجرّد من الدفاع، ثمّ يتمّ تحويلها إلى مواجهةٍ جبهيةٍ بين الخير والشرّ المطلقين». في هذه الظروف، وبعيداً عن أن تكون أداةً للحرّية، تؤدّي وسائل الإعلام الجديدة إلى النتيجة المعاكسة. نحن أمام تقنية تلاعب، «تقيّد بشدّة حرّية الخيار لدى المشاهدين»؛ و«يتمّ ضغط فضاءات التحليل العقلي إلى أقصى حدّ، ولاسيما باستغلال التأثير الانفعالي الذي يؤدّي إليه التوالي السريع للصور».

هكذا، نعثر مجدّداً بالنسبة إلى وسائل الإعلام الجديدة على القاعدة السارية على الإذاعة والتلفزيون: أدوات، أو الأدوات المحتملة، للحرية والانعتاق (الثقافي والسياسي) يمكن أن تنقلب وغالباً ما تنقلب اليوم إلى ضدّها. ليس صعباً توقّع ألاّ يقاوم التمثيل الثنائي للنزاع الليبي طويلاً؛ لكنّ أوباما وحلفاءه يتمنّون في هذه الأثناء بلوغ أهدافهم، وهي ليست حقاً أهدافاً إنسانية، حتّى إذا كانت اللغة الجديدة تصرّ على تعريفها بوصفها كذلك.

تلقائية الإنترنت

نحن أمام فصلٍ جديدٍ في الحرب النفسية. في هذا المجال أيضاً، تتقدّم الولايات المتحدة تقدّماً حاسماً، بعقودٍ من البحث والتجارب. قبل بضع سنوات، نشرت ريبيكا ليموف، الباحثة الأنتروبولوجية في جامعة واشنطن الحكومية، كتاباً «يظهر المحاولات اللاإنسانية التي قامت بها السي آي إيه وبعض أكبر المحللين النفسيين من أجل (تدمير وإعادة بناء) نفسية المرضى في الخمسينيات». نستطيع إذاً فهم حدثٍ جرى في تلك الحقبة نفسها. ففي السادس عشر من آب 1961، هزّت ظواهر غريبة ومقلقة قرية بون سانتسبري، وهي قريةٌ هادئةٌ وجميلة تقع جنوب شرقي فرنسا. أجل، هزّت البلاد ريحٌ غامضةٌ من الجنون الجماعي. مات عشرة أشخاصٍ على الأقل، وانتهى الأمر بالعشرات إلى مصحٍّ نفسي، وأبدى مئاتٌ علامات الهذيان والهلوسات. انتهى كثيرٌ منهم في المستشفى وهم مربوطون بقميص المجانين. الآن كشف السرّ الذي أحاط لوقتٍ طويلٍ بهذه الضربة من «الجنون الجماعي».. كانت تلك تجربةً قامت بها السي آي إيه بالتعاون مع وحدة العمليات الخاصة، الوحدة السرية في الجيش الأمريكي في فورت ديتريك، ميريلند؛ لقد قام عناصر السي آي إيه بتسميم الخبز المباع في مخابز البلاد بمادة «إل إس دي»، ما أدّى إلى النتائج التي رأيناها أعلاه. نحن في بدايات الحرب الباردة: كانت الولايات المتحدة حليفةً طبعاً لفرنسا، لكن لهذا فقط كانت فرنسا تستسلم بسهولةٍ لتجارب الحرب النفسية التي كانت تستهدف بالتأكيد «المعسكر الاشتراكي» (والثورة المناهضة للاستعمار)، لكن كان يصعب إجراؤها في البلدان الواقعة وراء «الستار الحديدي».

فلنطرح على أنفسنا سؤالاً: ألا يمكن استثارة هياج الجماهير واضطرامهم عبر الطرق الدوائية؟ مع مجيء الإنترنت والفيسبوك وتويتر وتعميمها، برز سلاحٌ جديد، قابلٌ لتعديل علاقات القوّة على الصعيد الدولي تعديلاً عميقاً. هذا الأمر ليس سرّاً على أحد. في أيامنا هذه وفي الولايات المتحدة، يقول أحد ملوك الهجاء التلفزيوني مثل جون ستيوارت: «لكن لماذا نرسل أسلحةً إذا كان إسقاط الدكتاتوريات عبر الإنترنت سهلاً لا يقلّ سهولةً عن شراء زوجٍ من الأحذية؟».. بدوره، وفي مجلةٍ قريبةٍ من وزارة الخارجية الأمريكية، يلفت أحد الباحثين الانتباه إلى كم هو صعبٌ عسكرة وسائل الإعلام الجديدة لأهدافٍ قصيرة الأمد ومرتبطةٍ ببلدٍ محدّد؛ الأفضل متابعة أهدافٍ أوسع مدى. يمكن أن تتنوّع التشديدات، لكن في جميع الأحوال، يتمّ التشديد على المعنى العسكري للتقنيات الجديدة والمطالبة به.

الحرب عبر الإنترنت

لكن أليست الإنترنت تعبيراً عن التلقائية الفردية؟ وحدهم الأكثر فقراً (والأقل تحرّجاً) يناقشون الأمر على هذا النحو. في الحقيقة، وكما يعترف دوغلاس بال، المساعد الأسبق لريغان وبوش الأب، الإنترنت حالياً «مدارةٌ بمنظمةٍ غير حكومية هي في واقع الأمر نتاجٌ لوزراة التجارة الأمريكية». هل يتعلّق الأمر بالتجارة فقط؟ تنقل صحيفةٌ من بكين حدثاً نسي إلى حدٍّ كبير: حين طلبت الصين في العام 1992 لأوّل مرّةٍ ربطها بالإنترنت، رفض طلبها بسبب خطر أن يتمكّن ذلك البلد الآسيوي الكبير من التزوّد بمعلوماتٍ عن الغرب. أمّا الآن، فتطالب هيلاري كلينتون بـ«الحرّية المطلقة» للإنترنت بوصفها قيمةً كونيةً لا يمكن التخلّي عنها؛ ومع ذلك، تعلّق الصحيفة الصينية، «لم تتغيّر أنانيّة الولايات المتحدة».

ربّما لا يتعلّق الأمر بالتجارة فقط. في هذا الصدد، تطلب المجلة الأسبوعية الألمانية دي تسايت توضيحاتٍ من جيمس بامفورد، أحد أكبر الخبراء في مجال الأجهزة السرية الأمريكية: «يخشى الصينيون أيضاً أن تكون الشركات الأمريكية مثل غوغل في التحليل النهائي أدواتٍ للأجهزة السرية الأمريكية على الأراضي الصينية. هل هذا موقفٌ رهابي»؟ «مطلقاً»، يجيب الخبير من فوره. بل على العكس، يضيف: المنظمات والمؤسسات الأجنبية [أيضاً] مخترقة على يد الأجهزة السّرية الأمريكية التي هي على كلّ حالٍ قادرةٌ على التجسّس على الاتصالات الهاتفية في كلّ أرجاء الكوكب وينبغي أن تعدّ «أكبر قراصنة العالم». ويضيف صحافيان من دي تسايت إنّ ذلك لم يعد يترك أيّ مجالٍ للشك:

«لقد أصبحت مجموعات الإنترنت الكبيرة أداةً للتوجهات الأمريكية الجيوسياسية. قبلاً، كنّا نحتاج عملياتٍ سرّيةً شاقّةً لدعم الحركات السياسية في البلدان البعيدة. أمّا اليوم، فيكفي غالباً أن نحوز بعض تقنيات التواصل، وتشغيلها من الغرب [...] حالياً، يقوم جهاز التكنولوجيا الأمريكية السري، وكالة الأمن القومي، بإنشاء منظّمةٍ جديدةٍ تماماً للحروب على الإنترنت».

من المناسب إذاً أن نعيد على ضوء هذا كلّه بعض الأحداث الأخيرة ذات التفسير غير الميسور. في تموز 2009، وقعت أحداثٌ دامية في أورومكي وكسينيانغ، المنطقة الصينية التي يسكنها بخاصّةٍ شعب الويغور. هل يفسّر تلك الأحداث التمييز والقمع ضدّ الأقليات الإثنية والدينية؟

فلنفكّر بدينامية الأحداث. في مدينةٍ ساحليةٍ من الصين يعمل فيها الهانس، والويغور (المسلمون) جنباً إلى جنب، على الرغم من اختلاف الشروط الثقافية والدينية الموجودة مسبقاً، انتشرت فجأةً إشاعةٌ مفادها أنّ شابّةً من الهانس اغتصبت على يد عمّالٍ من الويغور؛ نجمت من تلك الإشاعة حادثاً فقد فيها اثنان من الويغور حياتهما. كانت الإشاعة التي أدّت إلى تلك المأساة كاذبة، لكن انتشرت إشاعةٌ أخرى أقوى وأكثر ضرراً: نشرت الإنترنت على شبكتها خبراً مفاده أنّ مئاتٍ من الويغور يفقدون حياتهم في المدينة الصينية الساحلية، حيث يذبحهم الهانس تحت أنظار الشرطة اللامبالية لا بل المؤيدة. والنتيجة: صداماتٌ إثنيةٌ في مقاطعة كسينيانغ، أدّت إلى مقتل نحو 200 شخص، كانت غالبيتهم العظمى من الهانس.

التلاعب الشامل.. والهجوم المضاد

إذاً، هل نحن هنا أمام تشويشٍ تعيسٍ وطارئٍ في الشروط أم أنّ نشر الشائعات الكاذبة والمتحيّزة كان يستهدف النتيجة التي حدثت تالياً؟ نحن في وضعٍ يتكشّف عن استحالة تمييز الحقيقة من التلاعب. أنجزت شركةٌ أمريكيةٌ برامج تسمح لشخصٍ منخرطٍ في حملة تضليلٍ إعلامي بأن يتّخذ عدداً من الهويات يصل حتّى 70 هوية على نحوٍ متزامن (حسابات في الشبكات الاجتماعية وفي المنتديات، إلخ.) ويديرها معاً: كلّ ذلك من دون أن نتمكّن من اكتشاف من يشدّ خيوط تلك اللعبة الافتراضية. من الذي يلجأ لهذه البرامج؟ التخمين سهل. تذكر الصحيفة هنا، وهي صحيفةٌ لا يشتبه بكونها معادية للنزعة الأمريكية، أنّ الشركة المعنية «تقدّم خدماتٍ لمختلف الوكالات الحكومية الأمريكية، مثل السي آي إيه ووزارة الدفاع». يحتفل التلاعب الشامل بانتصاره في حين تبدو لغة الإمبراطورية واللغة الجديدة في فم أوباما أكثر عذوبةً وطلاوةً منها في أيّ وقتٍ مضى. 

تعود إلى الذاكرة إذاً التجربة التي قامت بها السي آي إيه صيف العام 1951 والتي أدّت إلى «ريحٍ غامضةٍ من الجنون الجماعي» في «قريةٍ جميلةٍ وهادئة» في بون سانتسبري. وها نحن مجدّداً مرغمون على طرح السؤال الأولي: هل يمكن إنتاج «الجنون الجماعي» عبر الأدوية فحسب، أم يمكن اليوم أن يكون نتاج اللجوء أيضاً إلى «التقنيات الجديدة» في التواصل الجماهيري؟

نفهم بالتالي الأموال التي تخصصها هيلاري كلينتون وإدارة أوباما لوسائل الإعلام الجديدة. لقد رأينا أنّ حقيقة «الحروب على الإنترنت» قد نالت الاعتراف حتّى من وسائل الإعلام الغربية المشهورة؛ لكن في لغة الإمبراطورية واللغة الجديدة، يصبح الترويج لـ«الحروب على الإنترنت» ترويجاً للحرية والديمقراطية والسلام.

ولا تبقى أهداف هذه العمليات ساكنةً من دون حراك: كما في كلّ حرب، يسعى الضعفاء إلى جسر الهوّة بالتعلّم من الأقوى. هكذا يصيح الأقوياء: «في لبنان، أولئك الذين يتحكّمون أكثر من غيرهم بوسائل الأخبار والشبكات الاجتماعية ليست القوى السياسية الموالية للغرب التي تساند حكومة سعد الحريري، بل أتباع (حزب الله)». وتستثير هذه الملاحظة تنهيدةً: كم يكون جميلاً لو أنّ من يحتكر «التقنيات الجديدة» وأسلحة المعلومات والتضليل الإعلامي الجديدة كانت البلدان التي تكبّد الشعب الفلسطيني مأساةً لا تنتهي وترغب في أن تمارس في الشرق الأوسط دكتاتوريةً إرهابيةً، مثلما كان الأمر بالنسبة إلى القنبلة الذرّية والأسلحة الأكثر تطوّراً! لكن ـ يتأسّف مويزس نعيم، مدير فورين بوليسي ـ الولايات المتحدة والغرب لم تعد لهما علاقةٌ بـ«أغبياء الإنترنت في الماضي». فهؤلاء يقومون بـ«هجومٍ مضادّ» بالأسلحة عينها، ويقومون بالإعلام المضادّ ويسمّمون الآبار.. مأساةٌ حقيقيةٌ من وجهة نظر أبطال «التعدّدية». بلغة الإمبراطورية واللغة الجديدة، تصبح المحاولة الخجولة لخلق فضاءٍ بديلٍ لما تديره أو تسيطر عليه القوّة العظمى الوحيدة تسميماً للآبار.

تلقيت رسالةً من تييري ميسان يقول فيها:

(فيسبوك في سورية: منذ بداية المظاهرات في درعا، فتحت صفحةٌ على فيسبوك بعنوان: «الثورة السورية 2011»: هذا شعارٌ دعائي لا يمكن تخيّله بالنسبة إلى ثوريين حقيقيين: إذا لم ينجحوا في العام 2011، هل يتخلّون عن الثورة؟ (!). في يومٍ واحد، بلغ عدد أصدقاء هذه الصفحة 80 ألف شخص، غالبيتهم العظمى حسابات فيسبوك تأسست في اليوم نفسه. هذا مستحيلٌ إلاّ إذا كان «الأصدقاء» حساباتٍ افتراضيةً خلفتها برمجيات.

قضية ندى في إيران: إذا استعدنا تسجيل الفيديو لمقتل الشابة ندى أثناء الاحتجاجات التي تلت الانتخابات الرئاسية في إيران، وعرضناه عرضاً بطيئاً، نلاحظ أنّ الفتاة وهي تقع سندت نفسها بذراعها. والحال أنّ كلّ من يصاب بالرصاص ـ لاسيما إن كانت إصابته في الصدر ـ يفقد ردود أفعاله. ينبغي أن يقع الجسم ككتلةٍ واحدة. والحال لم تكن كذلك. يستحيل أن تكون الشابّة قد أصيبت بالرصاص في تلك اللحظة. بعد بضع ثوانٍ، يظهر التسجيل وجه الفتاة. إنّه نظيف. تمرّ بيدها على وجهها وهاهو مغطّى بالدم. يظهر تكبير اليد أنّها تمسك براحتها زجاجةً صغيرةً من الدم وتبسطها بنفسها على وجهها. ثمّ يحملها أصدقاؤها إلى المستشفى، وتموت أثناء نقلها. وبعد وصولها إلى المستشفى، يلاحظ الأطباء أنّ وفاتها نجمت من رصاصةٍ في الصدر. لا يمكن أن تكون هذه الرصاصة قد أطلقت إلاّ من قبل «أصدقائها» أثناء نقلها؟.

أستاذ الفلسفة في جامعة أوربينيو – إيطاليا