«الدولة الفاشلة» وسياسة الهيمنة
دفع الانحلال السريع والمفاجئ للاتحاد السوفيتي، صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى إعداد استراتيجيات جديدة، تحافظ على الهيمنة الأمريكية في العالم، وتمنع ظهور منافس جديد لها على الساحة الدولية، وتبقي في الوقت نفسه على اتفاقاتها العسكرية مع الدول العدوّة سابقاً، والحليفة حالياً، كي لا تضطر إلى سحب قواعدها من هذه الدول، وتعطيها الفرصة لمنافستها في المجال العسكري لاحقاً.
كان على هذه الاستراتيجيات إيجاد عدوّ وهمي، وتحويله إلى حقيقي كي يعوّض عن انحلال الاتحاد السوفيتي، ويبقي على أجواء التوتر مسيطرة على الساحة الدولية، وإيجاد المبرر للتدخل العسكري الأمريكي في شؤون الدول الأخرى للسيطرة عليها، ونشر القواعد العسكرية في المناطق التي تعتبر حيويّة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
لذلك كانت «الدولة الفاشلة»، التي تتميزّ بأنّها الدولة «غير القادرة على الدفاع عن استقلالها، والسيطرة على الوضع السياسي داخل أراضيها، وعدم وجود قيادة تلتف حولها الجماهير..الخ.»، هي الورقة الأكثر ملاءمة لمعظم الاستراتيجيات التي أخذت تتبلور في أروقة صنع القرار في أمريكا، لأنّ باستطاعتهم تحميلها كل المساوئ والمخاطر والتهديدات التي يتعرض لها العالم بشكل عام، والأمن القومي الأمريكي بشكل خاص، من انتهاكات لحقوق الإنسان، وغياب للديمقراطية، وأنّها تشكل مصدراً لعدم الاستقرار في العالم، وطريق لتجارة المخدرات، ومأوى للإرهابيين..الخ.
أعدّ الخبراء الأمريكيون نظرية «الدولة الفاشلة»، لأوّل مرّة في عهد الرئيس كلينتون عام 1993، ضمن إطار إمكانية استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية لأهداف «إنسانية»، حيث تم التدخل العسكري على أساسها في الصومال عام 1993، وفي هاييتي عام 1994، وفي البوسنة عام 1995، وفي ساحل العاج عام 1998، وفي كوسوفو عام 1999، وفي تيمور الشرقية عام 1999.
أخذت نظرية «الدولة الفاشلة في عهد بوش الابن، الأولوية في المخططات الأمريكية، وبخاصّة بعد أحداث 11 أيلول عام 2001، التي افتعلتها أجهزة صنع القرار في الولايات المتحدة، لتتحرّر من قيود الشرعية الدولية، حيث اعتبرت الدولة «الفاشلة» مركزا لتصدير الإرهاب وأنّها تمتلك أسلحة دمار شامل ( مع العلم أنّ أمريكا هي من صنّعت كل ذلك)، وخطراً على مصالح أمريكا وأمنها القومي ..الخ.، وعلى هذا الأساس تم احتلال أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، والتدخل في شؤون السودان ونيجيريا والكونغو ومالي والفيليبين ..الخ.
لكن المقاومة القوية، التي لاقتها أمريكا في الدول التي احتلتها، والكلفة المادية الباهظة التي أنفقتها، والأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي أخذت تعصف في الولايات المتحدة والدول الغربية، أجبرتها على الانسحاب من العراق، وإعلان الانسحاب من أفغانستان عام 2014، والعزوف عن استخدام القوّة العسكرية في تنفيذ المخططات الاستعمارية، وبدأت بوادر التراجع الاستراتيجي الأمريكي والغربي تظهر في العالم.
طبعاً، لم تعترف أمريكا بالهزيمة الاستراتيجية، يساعدها في ذلك عدم جهوزية الخصم الاستراتيجي المنافس المتمثل بالصين وروسيا للحسم، وقواعد الشرعية الدولية التي ما تزال سارية حتى الآن، التي تمكنّها من المناورة السياسية على المسرح الدولي، وأملها في تجاوز أزمتها الاقتصادية في وقت قريب قبل فوات الأوان.
لذلك تحاول أمريكا جاهدةً في ربع الساعة الأخيرة، عن طريق أدواتها في المنطقة، تحويل دول الخصم الارتكازية في الشرق الأوسط وهي سورية وإيران إلى دول «فاشلة» ومجزأة، لإخراجها من المعادلة الجيوسياسية الدولية، كي تجرّد الخصم من مفاصل هامة تعيق تمدده الاستراتيجي، في أكثر المناطق حيوية من الناحية الجيوسياسية في العالم، وتعطيها فرصة للعودة بقوة من جديد إلى الحلبة السياسية الدولية.
إذاً، الدولة «الفاشلة» هي وسيلة تستخدمها الولايات المتحدة، لشرعنة التدخل العسكري وغير العسكري في شؤون الدول الأخرى، خدمة لأهداف جيوسياسية أهمها:
أولا – نشر القواعد العسكرية في المناطق التي تعتبر حيوية بالنسبة لها.
ثانيا – إسقاط أنظمة الحكم، وتقسيم الدول التي يمكن أن تشكل خطراً على مصالحها.
ثالثا – السيطرة على مصادر الطاقة وطرق نقلها.
رابعا – تطويق الدول المؤهلة لأن تكون منافساً على الساحة السياسية الدولية، لمنع تمددها الاستراتيجي في المناطق الحيوية في العالم.
خامسا – منع ظهور منافس استراتيجي، والحفاظ على أحادية القطب في العالم بزعامتها.
لكن أمريكا لا تدرك، أنّها ولو حققت نجاحات مؤقتة، إلاّ أن أزمتها الاقتصادية والمالية التي تعاني منها، والمقاومة الكبيرة التي تبديها الشعوب والدول المتضررة من مخططاتها الاستعمارية، ستؤدي إلى فشلها، وتشكل عالم متعدد الأقطاب، تتبوأ الأمم المتحدة الدور الريادي فيه.