استئناف التحالف الوثيق بين تركيا و«إسرائيل» للانتقام من سورية

استئناف التحالف الوثيق بين تركيا و«إسرائيل» للانتقام من سورية

بمرور الذكرى العاشرة لتسلم رجب طيب أردوغان مهامه السياسية في منصب رئيس الوزراء، يدشن مرحلة فريدة في ديمومة السياسة التركية، إذ أضحى أطول زعيم سياسي يبقى في منصبه بصورة متواصلة متفوقاً على رئيس الوزراء الأسبق المنتخب عدنان مندريس الذي أطاحت به الطغمة العسكرية في انقلاب وقع عام 1960، ثم حوكم وأعدم على أيديها.

كما تلقى أردوغان «هدية وإعادة اعتبار» من الرئيس الأميركي باراك أوباما، في 22 آذار، حينما خاطبه هاتفياً قبل مغادرته مطار اللد متوجهاً إلى عمّان للتوسط بينه وبين نظيره «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو في مكالمة دامت نحو 30 دقيقة، التي قدم فيها نتنياهو اعتذاره عن اعتراض قواته البحرية لسفينة «نافي مرمرة» التركية ومقتل عدد من النشطاء الأتراك على متنها. الجانب الأميركي كاد يزهو بانجازه موضحاً أن نتنياهو أقر بارتكاب «أخطاء ميدانية» لكنها لم تكن مقصودة، بل «أعرب الجانب الإسرائيلي عن أسفه لمقتل البعض وجرح الآخرين».

الآلة الإعلامية لحزب أردوغان، حزب الحرية والعدالة، تحركت على الفور لتزف النبأ ببهجة عالية «لموافقة إسرائيل على الشروط التركية الثلاثة»، والإيحاء بأن الأولى رضخت صاغرة لشروطها. في فلسطين المحتلة، تعاملت يومية «جيروزاليم بوست» مع النبأ بازدراء قائلة إن أردوغان ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو يصوران الأمر وكأنه «انتصار هام أنجزاه معاً ضد إسرائيل.. بل إن أردوغان لم يحقق كل ما طمح اليه»، ولاسيما شرطه المسبق برفع الحصار المفروض على غزة، والأهم إسقاط تركيا للتهم القانونية الموجهة للضباط «الإسرائيليين» المسؤولين عن مجزرة «نافي مرمرة».

أردوغان بدوره تمادى في تضخيم المسألة الشكلية كاشفاً عن نرجسيته في مخاطبة أنصاره «عندما بدأ نتنياهو بالحديث معي عبر الهاتف، قمت بقطع الاتصال. وقلت له إنني أرغب في مخاطبة الرئيس أوباما أولاً. إنني أحنُّ لسماع صوته».

رغبات كامنة

أهداف الدور الأميركي، مجسداً بدخول الرئيس أوباما على الخط مباشرة، قد يكتنفه الغموض لدى البعض، ولاسيما أن علاقته الشخصية والعملية مع نتنياهو شهدت توتراً معلناً منذ حملة الانتخابات الرئاسية ودعم الأخير للمنافس الجمهوري ميت رومني. بيد أن حقيقة التطورات السياسية تدفعنا إلى القول إن نتنياهو حقق تنازلاً معيناً من الرئيس أوباما، ربما يفضي إلى توسيع هامش مجال مناورته بشأن الملف الإيراني أو الحصول على مزيد من المعدات العسكرية والمساعدات الأميركية، فضلاً عن رغبة الطرفين التركي و«الإسرائيلي» بإعادة علاقتهما إلى سابق عهدها. وأوضح «الرئيس الإسرائيلي» شمعون بيريز الأمر بالقول إن للطرفين «أسباباً عدة لتعزيز العلاقات الإسرائيلية- التركية والتعاون بينهما أكثر من أي وقت مضى». نتنياهو، من جانبه، ذهب للتأكيد على تغير التطورات الإقليمية، ومن بينها ما يجري في سورية، مما يستدعي تعاوناً أوثق بين الطرفين اللذين «يشتركان حدودياً» مع سورية. إذن، ما أطلق على تسميته «اعتذار إسرائيلي» كان أمراً ضرورياً «لضمان أمن إسرائيل»، أو هكذا يوحي.

دوافع تركيا للمضي بترميم علاقاتها مع «إسرائيل» كانت أقل وضوحاً. إذ ذهب «مجلس العلاقات الخارجية» إلى القول إن الحافز الأكبر لتركيا «ربما يعود لعوامل ثلاثة مجتمعة: سورية وإيران ومجال الطاقة»، إذ يفسح لها بالوصول إلى موارد اكتشفت حديثاً في مياه البحر المتوسط مما يحتم عليها إيجاد مخرج للتعاون مع «إسرائيل»، مهما كلفها الأمر بالنسبة لانعكاساته على تردي علاقاتها مع كل من روسيا وإيران من وراء ذلك. أردوغان، بدوره، تمادى في تملقه بالتركيز على «العلاقات التاريخية المشتركة بين اليهود والشعب التركي»، غير غافل عن ذكر دور الامبراطورية العثمانية الداعم لاستيطان اليهود في فلسطين منذ القرن الثامن عشر. بالإضافة لذلك، يدرك الطرفان أهمية تعاونهما في احتواء الأزمة السورية والحد من انتقال عدواها إلى خارج الحدود أو نحو مزيد من التدهور وفقدان السيطرة عليها.

الثابت أيضاً أن تركيا تلعب دوراً محورياً في فك وإنهاء عزلة «إسرائيل» في المنطقة، ولاسيما في أعقاب تبنيها للتغيرات السياسية التي جاءت بحركة الاخوان المسلمين إلى السلطة في عدد من أقطار العرب، ونفوذها الملحوظ على قياداتها، خاصة في مصر. بالمقابل، لزوم «إسرائيل» جانب تركيا يخفف من قلقها على عدة جبهات متعددة: إيران وروسيا وقبرص وبلدان المشرق العربي، بالاضافة إلى وضعهما المميز داخل حلف الناتو– بصرف النظر عن أن «إسرائيل» ليست عضواً رسمياً في الحلف.

الطاقة بوصفها مصلحة استراتيجية

في أعقاب اكتشافات موارد الطاقة من النفط والغاز الطبيعي في أعماق البحر المتوسط، تعاظم دور قبرص «الشطر اليوناني» بالدرجة الأولى لتلعب دوراً هاماً في تنمية وتطوير برنامج الطاقة، وإتاحة الفرصة لتركيا و«إسرائيل» استغلال خيراتها المكتشفة لمنافسة روسيا، المصدر الأساسي لتوريد الطاقة إلى تركيا. ومن شأن استعادة العلاقات الثنائية، بين تركيا و«إسرائيل»، أيضاّ فسح المجال لتصدير الغاز الطبيعي من سواحل فلسطين المحتلة إلى وعبر الأراضي التركية باتجاه الأسواق الأوربية، الأمر الذي يخدم المصلحة الاستراتيجية للطرفين.

كما لا يجوز إغفال أهمية عامل تجميد تركيا للورقة الكردية في الصراع وإخراجها من التداول المسلح، مرحلياً، وما قد يمثله من ترحيب وتعزيز موقعها لدى واشنطن وحلف شمال الاطلسي. ومن شأنه أيضاً تخفيف العبء عن كاهل الدولة التركية، في المستويات العسكرية والمالية، لتتفرغ للانضمام الكلي إلى الجهود الأميركية في السيطرة على منطقة البحر المتوسط وسورية.

وكما تجلى سابقاً، باستطاعة تركيا ممارسة نفوذها السياسي والإيديولوجي للضغط على أطراف المقاومة في قطاع غزة لمصلحة «إسرائيل»، ولاسيما أن نتنياهو في مكالمته الهاتفية المذكورة أوضح لأردوغان أن مصير العلاقات الثنائية بينهما مرتبط بما ستؤول إليه أوضاع الفلسطينيين. الثابت الملموس في «التنازلات الإسرائيلية» هو ما تشهده حركة توريد السلع الاستهلاكية إلى غزة من تخفيف الإجراءات على قيودها السابقة.

تركيا، «إسرائيل»، وإيران

يجمع المحللون والساسة على السواء على الدور المحوري لتركيا في تعزيز قدرات الدفاع الجوي «لإسرائيل» ضد إيران، والتي كانت شبه غائبة عن الخطاب السياسي مؤخراً، مع العلم ان قواعد الرادار المتطورة لحلف الناتو في المناطق الشرقية لتركيا، التي تشرف على إدارتها وتوجيهها القوات العسكرية الأميركية، تقوم بتزويد «إسرائيل» بمعلومات بالغة الحساسية حول النظم الصاروخية الإيرانية، والتي بواسطتها تستطيع الأولى تصويب نظم «آرو» للدفاعات الجوية ضد صواريخ «شهاب» الإيرانية؛ فضلا عن عدم رغبة أو ارتياح تركيا لرؤية جارتها الإيرانية على عتبة الارتقاء إلى مصاف الدول النووية، والتي تشاطرها «إسرائيل» في الهدف عينه. عملياً، قد يؤدي هذا الأمر إلى صرف نظر تركيا عن طلعات جوية للطائرات الحربية «الإسرائيلية» للمرور بأجوائها في طريقها إلى تسديد ضربة لإيران.

حاجة الطرفين لبعضهما البعض تخدم الأهداف «الإسرائيلية» بالدرجة الاولى، إذ يعزز وجودها على الحدود الشمالية مع سورية بشكل خاص، ويخفف عنها بعض الأعباء كي تنصرف إلى معالجة التهديد الذي قد يأتي من الجبهة الجنوبية مع مصر، في الوقت الذي تذهب فيه تركيا إلى تحمل أعباء التدخل والسيطرة على أحداث سورية.

طموحات أردوغان السياسية لم تعد ثمة تكهنات، بل يراهن على قدرته وحزبه من ورائه بتغيير بعض النصوص الدستورية لمصلحته الشخصية والتي تحرمه حالياً من الترشح لولاية أخرى، ومن ثم يتطلع لمنصب رئاسة الجمهورية. رهانه يعتمد على صلابة الأداء الاقتصادي واستقراره. أما ترتيباته المعلنة مع رئيس حزب العمال الكردستاني المعتقل، عبد الله أوجلان، لوقف إطلاق النار فهي تأتي في سياق الصراع الأشمل مع سورية بغية نزع فتيل الملف الكردي المتفجر من الداخل التركي، وإخراجه من سيطرة الحكومة السورية واحتمال فتح جبهة صراع جديدة.

اقتصادياً، عودة العلاقات التجارية والديبلوماسية إلى سابق عهدها مع «إسرائيل» يعزز الفائض في التبادل التجاري بينهما لمصلحة تركيا، إذ بلغ مجموع العملية التجارية بينهما لعام 2011 نحو 4 مليارات دولار.

قبرص حاضرة أيضاً..

في الملف القبرصي، يعّول أردوغان على مساعدة «إسرائيل» في استغلال نفوذها لدى القبارصة اليونانيين الذين تتطلع حكومتهم إلى نسج علاقات اقتصادية أفضل مع الدول الغربية، ولاسيما في ظل الازمة المالية التي تعصف بالبلاد راهناً، وولوج طريق بديل عن تركيا للقيام بذلك. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس القبرصي اليوناني الحالي، نيكوس اناستاسياديس، يعد رجل الغرب بامتياز ويتطلع للانضمام إلى هيئات الناتو للشراكة من أجل السلام. وهذا يستدعي تعاوناً أوثق مع تركيا، عضو الحلف، لضمان عدم معارضتها فضلاً عن دورها المفترض باستغلال نفوذها لدى القبارصة الأتراك بغية التوصل إلى تسوية سياسية في الجزيرة القبرصية، والتي من شأنها بمفردها تعديل الأداء الاقتصادي للجزيرة، ولاسيما لناحية تنعم جميع المواطنين بالخيرات الطبيعية المكتشفة بالقرب من الشواطىء البحرية لبلادهم. الأمر الذي سيولد نشاطاً واهتماماً اقتصادياً على مستويات عدة، من بينها استقطاب استثمارات خارجية للمساهمة في نهضة البلاد، بما سيفيد تركيا حتماً، بل ستكون في مصاف المستفيد الأكبر. أما «إسرائيل»، فبإمكانها توفير مصادر استثمارية في قطاع الطاقة الأفضل استقراراً ونمواً.

استعراض المنافع المشتركة للطرفين، تركيا و«إسرائيل»، كما تقدم، يوضح بشكل جلي دوافعهما ومصالحهما في المديين المتوسط والبعيد في سياق الصراع الأوسع الدائر على الساحة السورية، ومن ورائها إضلاع محور القوى الداعمة للمقاومة؛ ليس في المنافع الاقتصادية للطرفين فحسب، بل مشروعية السؤال لماذا انتظر نتنياهو فترة طويلة قبل المحادثة الهاتفية وترميم ما أطلق عليه توتر العلاقات الثنائية بالرغم من أن نقاط التوافق والالتقاء بينهما تفوق نقاط التنافر والتناحر بمرات عدة.

• مركز الدراسات الأميركية والعربية
المرصد الفكري/ البحثي