الدرع الصاروخية الأميركية.. عين على روسيا!
عبد الرحمن مظهر الهلوش عبد الرحمن مظهر الهلوش

الدرع الصاروخية الأميركية.. عين على روسيا!

بدأت الحرب الباردة تسيطر مرة أخرى على الأجواء بين قطبي النظام العالمي بسبب منظومة الصواريخ الأمريكية التي أقلقت روسيا، حيث تعمل الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة عام 1991 على تكريس نفوذها الدولي في النطاق الجيو -سياسي الهائل، وكانت أدواتها تكوين الأحلاف السياسية، واستمرار الانتشار الاستراتيجي لقواعدها العسكرية في مناطق النفوذ الروسي التقليدية.

الدرع القديمة والجديدة

بدأ التفكير بتعزيز الطوق حول روسيا منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، رغم أجواء التقارب التي شهدتها علاقات البلدين بعد أحداث 11 أيلول2001 وانضمام روسيا عملياً إلى الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب وتقديمها تسهيلات مباشرة أو عبر حلفائها في منطقة أسيا الوسطى لنشاط «التحالف» في أفغانستان، لكن كل هذا لم يخفف من اندفاع الرئيس جورج بوش لتعزيز التواجد العسكري حول روسيا بأشكال مختلفة.

وتعود فكرة «الدرع» إلى تقرير أعدته في العام 1998 لجنة كان يرأسها دونالد رامسفيلد، أكد فيها أن إيران وكوريا الشمالية سوف تمتلكان صواريخ عابرة للقارات وقادرة على حمل رؤوس غير تقليدية في غضون عشر سنوات. عموماً تشتمل الخطة كما يقول خبراء عسكريون روس على إنجاز نشر عشرات القواعد الصاروخية في البر والبحر ومنظومات لصواريخ اعتراضية وضاربة في الفضاء قبل حلول العام 2012. وبحسب المصادر العسكرية الروسية فإن الولايات المتحدة تريد إنشاء منظومة متقدمة تقنياً تضم صواريخ تطلق من المنصات الأرضية المتنقلة ومن السفن من طرازات ««THAAD و«إيجس» (Aegis Combat System) و«SM3»، في أوربا، أي أن القوات الأميركية ستكون قادرة على إطلاق صواريخها من الأراضي الأوربية من مواقع يصعب كشفها كونها مواقع غير ثابتة. وتشتمل المرحلة الثانية التي تمتد حتى العام 2015 على نصب قواعد صاروخية أحدث وأكثر فعالية وأوسع مدى في قواعد عسكرية (ألمانيا- تركيا). في حين تنتهي المرحلة الثالثة بنصب أنظمة أخرى في جنوب القوقاز، وهذه المرحلة تبدو الأكثر خطورة بالنسبة إلى روسيا كون التفكير يتجه إلى نصب «الدرع» في أذربيجان أو جورجيا، وهو أمر تعارضه موسكو بقوة. وأكد خبراء عسكريون أن روسيا لن تقف موقف غير مبال تجاه إدخال سفن حربية أميركية تحمل صواريخ مضادة للصواريخ إلى بحر البلطيق، حيث التهديد لأمنها القومي بات واضحاً، أيضاً قد تتجه الولايات المتحدة نحو توسيع نظام الردع الصاروخي في «إسرائيل» (تم نصبه في العام 2008)، وأيضاً إلى إنشاء قواعد برية وبحرية جديدة، والاعتماد أميركياً لمواجهة «الخطر الصاروخي الإيراني» على مظلة دفاعية صاروخية متطورة تم بيعها إلى الإمارات بقيمة سبعة مليارات دولار، وعلى نظام دفاعي متطور في تركيا (على الرغم من إعلان أنقرة إن تعاونها مع الولايات المتحدة غير موجه إلى أي دولة من دول المنطقة)، بالإضافة إلى السفن العسكرية الأميركية في الخليج العربي.

خطّة الدّفاع الوطني الصّاروخي

 تنصّ الخطّة على تطوير درعٍ دفاعيّةٍ مضادّة للصّواريخ لحماية الولايات المتّحدة بأسرها من أيّ هجوم صاروخي. وتهدف الخطة إلى اكتشاف أيّ صاروخ بالستي مُوَجّه إلى الولايات المتّحدة وتدميره قبل أن يصيب هدفه. والاسم الشّائع للبرنامج «ابن حرب النّجوم»، نسبةً إلى «مبادرة الدّفاع الاستراتيجي»، أو «حرب النّجوم»، التي أطلقها الرئيس الأميركي السّابق رونالد ريغان في مطلع الثّمانينيّات لتدمير الصّواريخ الموجّهة إلى بلاده قبل دخولها الغلاف الجوّي للكرة الأرضية. بيد أنّ الخطّة الجديدة أقل تعقيداً وشمولية من «حرب النجوم». وتأمل واشنطن أن تعمل أجهزة الرّادار وأنظمة الاتّصالات المنتشرة في الولايات المّتحدة وبريطانيا وغرينلاند، إضافة إلى الأقمار الصناعيّة الموجودة في الفضاء، كمنظومة إنذار مبكر من أي ّ هجوم صاروخي، فتتمكّن أسلحة اعتراض متطوّرة على أراضي الولايات المتحدة من تفجير هذه الصّواريخ قبل إصابتها لأهدافها.

مصادر التّهديد للأمن الأميركي

تتهم واشنطن بعض الدول المعادية لسيّاستها، وهي دول تسميها الإدارة الأمريكية (مارقة)، وعلى رأسها كوريا الشمالية وإيران والعراق (تم احتلاله عام 2003 بحجة تلك الادعاءات التي ثُبت كذبها لاحقاً)، بالعمل سراً على تطوير صواريخ بالستية ذات رؤوس كيميائية وبيولوجية وربما نووية. وتخشى الولايات المتحدة أن تتمكن هذه الدول يوماً من صناعة صواريخ بالستية بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى أهداف في الولايات المتحدة. وتصرّ واشنطن على أن الدّرع التي تعمل على تطويرها غير معدة لمواجهة روسيا، بل تدعو موسكو إلى التنبّه من المخاطر التي يمكن أن تتأتّى من الدول (المارقة) بالنسبة إلى الأمن القومي الرّوسي. ولكن ما هي أوجه الاختلاف بين خطة (الدّفاع الوطني الصاروخي) و(حرب النجوم)؟.

لقد نصّت (مبادرة الدّفاع الاستراتيجي) أو (حرب النجوم)، على وضع جيل جديد من الأسلحة المضادّة للصواريخ (معظمها يعتمد على الليزر)، في الفضاء، إضافة إلى عدد كبير من الأسلحة على الأرض. وفيما لا تختلف خطةّ (الدفاع الوطني الصّاروخي) عن (مبادرة الدفاع الاستراتيجي) لناحية الأسلحة الفضائّية، فهي تنص على وضع أسلحة دفاعية على الأرض.

هل ستخرق الخطّة الجديدة معاهدات الحدّ من التسلّح، كما تقول روسيا؟

 بحسب (معاهدة الحدّ من الأنظمة المضادّة للصواريخ البالستّية)، الموقعة بين الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفيتي عام 1972، لا يحقّ لأيّ من الدولتين أن تطور درعاً واقية من الصواريخ تغطّي أراضيها كلّها. وقد كانت الخشية من تهديد الاتّحاد السّوفيتي بإلغاء المعاهدة من طرف واحد وتطوير صواريخ قادرة على تحييد الدّرع العتيدة من خلال هجوم مكثّف أحد الأسباب وراء صرف إدارة (ريغان) النّظر عن مشروع (حرب النجوم)، إضافة إلى الأكلاف المرتقبة التي بلغت أرقاماً فلكيّة لم تتمكّن الخزينة الأميركيّة من تحملها. وفي إطار المنظومة الدفاعية أقامت الولايات المتحدة قاعدتين لاعتراض الصواريخ الطويلة المدى في ألاسكا وكاليفورنيا، إلا أنها لا تمتلك أي قواعد صاروخية خارج الأراضي الأمريكية باستثناء قاعدة رادار في شمال اليابان تم تشغيلها في أيلول الماضي. وتعتمد واشنطن في خطتها على نشر للمنظومة الدفاعية الصاروخية في أوروبا أولاً، وتوسيع الناتو ثانياً، وعدم التزام دوله باتفاقية الأسلحة التقليدية في أوروبا ثالثاً، لتضييق الخناق على روسيا والتخفيف من قدرتها الدفاعية، الإستراتيجية والتكتيكية، لما يسببه هذا البرنامج بالنسبة للتوازن العسكري الدولي القائم بين الجبارين من خلل لمصلحة الولايات المتحدة. المستجدات تشير إذاً إلى أن التنافس بين موسكو وواشنطن، الذي يحمل طابعاً استراتيجياً، يتحول نحو مواجهة تريد الإدارة الأمريكية الحالية فرضها على روسيا ضمن مداها الجغرافي القريب، وهذا قد يفتح الأبواب أمام سباق تسلح في مجال الأسلحة التقليدية أيضاً مع ما سينجم عن ذلك من توتر في أوروبا والعالم ككل.

تتخوف روسيا من أن محاولات احتواء الأمن القومي الروسي ستشعل سباق تسلح جديد كما كان الحال في التسعينيات من القرن الماضي، حيث سيؤدي ذلك إلى الإخلال بميزان القوى الدولي، وكذلك إهدار بلايين الدولارات للأبحاث العسكرية وإنتاج الأسلحة بأنواعها. وقد أعلن رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر صحافي في فيينا أن روسيا تتخوف من أن يؤدي المشروع الأميركي للدرع المضادة للصواريخ في أوروبا إلى إطلاق «السباق نحو التسلح» معتبراً أن الصواريخ الإيرانية غير قادرة على ضرب أوروبا. ورفض بوتين مجدداً حجة واشنطن القائلة إن نشر الدرع المضادة للصواريخ في أوروبا سيسمح بضمان حماية من هجمات إيرانية محتملة. وقال إن «مدى الصواريخ الإيرانية 1700 كلم» مشيراً إلى أنه لإصابة أوروبا يجب أن تمتلك إيران صواريخ يصل مداها إلى خمسة أو ثمانية ألاف كلم.

أهداف أميركية – إسرائيلية

 الحقائق المجردة توضح أن إيران تقع على مسافة أربعة ألاف كيلومتر من بولندا، بينما الصواريخ الأمريكية التي سيتم نشرها في بولندا مداها ألفا كيلومتر، هذا يعني أن الهدف الأمريكي المحدد هنا هو قواعد الصواريخ الإستراتيجية النووية في قلب روسيا بما يقلص تماماً من قدرة روسيا على الردع النووي، وهو الردع الذي كان بحد ذاته سبب التعايش السلمي مع أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية. هذا يعني أيضاً أنه سيصبح على روسيا تغيير عقيدتها الدفاعية من جديد، وهو ما أشار إليه العسكريون الروس حين أعلنوا أن انضمام بولندا إلى المشروع الصاروخي الأمريكي الجديد، يضعها ضمن أهداف الرد الصاروخي النووي الروسي في حال نشوب مواجهة. فما يبعث قلق روسيا هو تطويقها بقوى الأطلسي، والروس لا يفهمون لماذا حلف شمال الأطلسي قائم إلى اليوم وهو من ثمرات الحروب الباردة، وهذه انصرمت وانتهت والعامل الأخير الراجح هو إرادة روسيا محاصرة عدوى الاستقلال في شمال القوقاز، وتبرز الخشية هذه في مواقف بوتين، بالحفاظ على وحدة أراضي روسيا الإقليمية. هناك رهانات غربية، في دول المعسكر الشيوعي السابق، على الحماية الأميركية. فجورجيا، وأوكرانيا، تتفننان في عرض ما يمكن عرضه من خدمات إستراتيجية على الولايات المتحدة، كوضع رادارات تجسس في خدمتها، بينما وقعّت بولندا بسرعة خلال الأسبوع الأول من الأزمة الجورجية المفتوحة اتفاقية الدرع الصاروخي مع واشنطن.

الاستنتاج: يحدث كل ذلك في دائرة المجال الحيوي لروسيا، منطقة نفوذها التاريخي والتقليدي من قرون، بعيدةً قبل نشوء الاتحاد السوفيتي، وبما يمس بـ«مصالحها القومية» في الصميم، وهي مصالح متنوعة وتشمل كل مجال. وليس في إيراد هذا الاعتبار أي غرابة، بل تجاهله هو المستغرب إذا ما استحضرنا المنطق الأميركي المعلن كحق بديهي تبرر بواسطته كل التدخلات، بما فيها العسكرية. وقد سعت الولايات المتحدة إلى إدخال «إسرائيل» إلى دائرة الصراع مع روسيا وإيران. فبعد الزيارة التي قام بها إلى الولايات المتحدة الأميركية وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك (تشرين الثاني2009)، رفض أن يعلق على مدى استعداد إسرائيل لمهاجمة إيران وحدها وأشار إلى استعداده للتركيز على الإجراءات الدفاعية بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، وقال إنّه حصل على موافقة البنتاغون على نشر رادار قوي يعرف باسم (أكس باند) في «إسرائيل» قبل وصول (إدارة أوباما). ووصف مسؤولون أمريكيون هذا النظام الذي تبنيه شركة راثيون بأنّه قادر على تعقب شيء بحجم كرة بيسبول من على بعد 4700 كيلومتراً، وسيمكن هذا النظام صواريخ (أرو) من اعتراض صاروخ إيراني ذاتي الدفع يسمى شهاب - 3 في منتصف طريق رحلته التي تستغرق 11 دقيقة إلى «إسرائيل»، وقال باراك إنّ الولايات المتحدة ستزيد كذلك قدرة «إسرائيل» على الدخول على الأقمار الصناعية لبرنامج الدعم الدفاعي التي ترصد إطلاق الصواريخ. ويقول مسؤولون إسرائيليون إن حرية الدخول في السابق كانت بناء على طلب، ولم تكن مستمرة.. وأضاف باراك: (خلال أشهر ستكون أكثر قوة وتجهيزاً فيما يتعلق بالحماية من الأخطار المقبلة من على مسافة بعيدة). وكانت «إسرائيل» أعلنت العام الماضي أن مشروع (أرو) الذي أسهمت الولايات المتحدة الأمريكية بدرجة كبيرة في تمويله سيتم تحديثه، وسيكون نظام أرو - 3 قادراً على إسقاط صواريخ على ارتفاع أكبر، وهو ما يشكل حماية من آثار الانفجار النووي.

عين على روسيا

هدف المحافظين الجدد، الذين يعودون اليوم مع إدارة أوباما ولكن بشكل غير معلن، هو عسكرة الفضاء بمثل ما نجح جيل سابق منهم في «عسكرة الحرب الباردة». هذا التعبير الأخير كان أول من استخدمه في مطلع الخمسينيات هو الدبلوماسي الأميركي الراحل جورج كينان، الذي كان أول من طرح سياسة «الاحتواء» ضد الاتحاد السوفيتي منذ سنة 1947. في حينه ارتاع كينان من أن المجمع الصناعي العسكري في بلاده اختطف ذلك الشعار ليفرض على الاتحاد السوفيتي وعلى العالم، سباقاً للتسلح باهظ الكلفة، بما جعل المؤسسة الحاكمة في النهاية ترغم جورج كينان على الاستقالة من منصبه كمدير للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية، فيستمر في التقاعد حتى رحيله عام 2005 عن عمر 101 سنة. لقد بدأت المسألة أساساً بتوجه أمريكا إلى نشر عشر أنظمة جديدة للدفاع الصاروخي في بولندا ونظام راداري مكمّل في جمهورية تشيكا، ومن دون أي تشاور مسبق، لا مع روسيا ولا حتى مع حلفاء أميركا الآخرين في منظمة حلف شمال الأطلسي. بوتين اختار الاحتجاج علناً ضد هذا التطور الأمريكي في اجتماع للأمن الأوربي، وسايرته دول أوروبية أخرى بدرجة أقل من بينها ألمانيا. واختارت أمريكا الاتفاق الثنائي مباشرة مع كل من بولندا وتشيكيا بما يعني استبعاد حلف شمال الأطلسي كله من المشروع. أما الرد الروسي المبدئي فلم يتأخر، وبدأ بالإعلان عن تجربة الصاروخ الاستراتيجي الروسي الجديد عابر القارات، وصاحبهُ تحذير متجدد من بوتين بأنّ نشر النظام الصاروخي الأمريكي الجديد في شرق أوربا سيحوّل قارة أوربا كلها إلى (برميل بارود)، منتقداً رد فعل الأوربيين: (يجب ألا نتكلم وكأننا نتعامل مع شركاء أنقياء ولطفاء ونزيهين «الأميركيين» من جهة، ووحش انطلق من الغابة وله مخالب وقرون «روسيا» من جهة أخرى). أميركا ستمضي في نشر نظامها الصاروخي في بولندا وتشيكيا سواءً قبلت موسكو أم رفضت. الحجة الأمريكية المعلنة والمتكررة هي أن هذا النظام الصاروخي الأمريكي الجديد في شرق أوربا ليس موجهاً ضد روسيا، وإنما تحسباً لتهديد محتمل من صواريخ قد تنطلق من كوريا الشمالية أو من إيران. الخبراء المتخصصون رفضوا هذا الادعاء قائلين إن كوريا الشمالية لا تملك أصلاً القدرة على ضرب أميركا صاروخياً عن طريق أوربا، أما إيران فلا تملك أساساً التكنولوجيا التي تهدد بها أوربا، أميركا نفسها بوجودها العسكري المباشر المحاصر لإيران امتداداً من أفغانستان إلى تركيا والعراق وكل دول الخليج، قادرة عسكرياً على ضرب إيران في أي وقت بما يجعل أميركا هي الخطر الأكبر على إيران أكثر بكثير من العكس. إن الحلفاء، خصوصاً في أوربا، يرتابون في أن الولايات المتحدة ستستخدم الدرع الصاروخي كبديل عن المعاهدات والتحالفات المتعددة الأطراف، بينما الصين وروسيا تخشيّان من السعي الأمريكي لتحقيق ميزة إستراتيجية حاسمة. الأكثر أهمية هنا هو أن الاتحاد السوفيتي انسحب عسكرياً وسياسياً من أوربا الشرقية، ووافق على توحيد ألمانيا، وقام بتفكيك حلف وارسو، وبعدها تفكك هو ذاته إلى خمس عشرة دولة مستقلة. وقتها كان منطقياً أن تنسحب أميركا عسكرياً من أوربا الغربية وتقوم بتفكيك حلف شمال الأطلسي، الذي قام أساساً تحت عنوان عريض هو الدفاع الجماعي بقيادة أمريكية ضد احتمال توسع سوفيتي/ شيوعي محتمل للاستيلاء على أوروبا الغربية. فإذا كانت الحرب الباردة قد انتهت تكون مهمة الحلف أيضاً قد انتهت. وبعيداً عن النصوص المكتوبة، كان السائد قولاً إن الهدف الحقيقي من الحلف الأطلسي هو (إدخال أميركا في أوربا، وإخراج الاتحاد السوفيتي من أوربا، وإبقاء ألمانيا في أسفل أوروبا). أدركت روسيا ومعها الصين أنها المستهدفة من الانتشار الصاروخي الأمريكي الجديد في شرق أوروبا وربما تايوان في مرحلة تالية. إنّ الدرع الصاروخية تعتبر إحدى الأدوات ضمن مجموعة بالغة الخطورة من المشروعات العسكرية الأمريكية المعنية بإنشاء منظومة درع صاروخية عالمية بشكل منفرد ما عدته موسكو تشجيعاً على سباق تسلح في أوروبا وما وراء حدودها، مؤكدة أن نشر الدرع في أوروبا ينطوي على تهديد حقيقي لروسيا. فقد قامت سياسة الردع على تطويق روسيا عسكرياً عبر نشر القواعد عبر  منطقة أسيا الوسطى، ومحاولات ضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الأطلسي، ونشر محطات إنذار مبكر ومنظومات صاروخية في كاليفورنيا وألاسكا، وصولاً إلى خطة نشر «الدرع» في أوربا الشرقية.

 الخطوة الأمريكية هذه كانت محسوبة على أنها ستفاقم التوترات بين روسيا والدول الغربية خصوصاً في ذروة أزمة جورجيا. وإنّ الاعتماد على منطق «الحرب الباردة» قد يؤدي إلى حسابات خاطئة، فما نشهده اليوم من تبريد وتسخين فوق سطح واحد، يشير إلى أن «الحرب الباردة» الحالية ليست كتلك القديمة؛ أيديولوجية أو فكرية تستنزف الاقتصاد تدفقات واستثمارات مالية هائلة، لتصرف على التسلح والعسكرة. «الحرب» الحالية تأخذ شكلا تنافسياً، بل صراعاً على المصالح القومية، والتسابق للهيمنة على مناطق ومفاتيح النفوذ، إنما عبر الاقتصاد ورزمة من أشكال أخرى تتعدد فيها وسائل الصراع غير العنيف، حتى ولو عبر أدوات عسكرية كالصواريخ والأساطيل والرادارات... وغيرها.