الحـرب غير المعلنـة بيـن اليـورو والـدولار
علي الأسدي علي الأسدي

الحـرب غير المعلنـة بيـن اليـورو والـدولار

سأناقش في هذا الجزء من المقال بعض الآراء حول دور العملة الأوربية الموحدة «اليورو» في حرب 2003 على العراق والحرب المحتملة على ايران وربما فنزويلا. الأستاذ كراسيمير بتروف أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في صوفيا كتب مقالاً ضافياً حول هذا الموضوع أقتبس منه بايجاز شديد بعض الفقرات ذات الصلة بموضوع مقالي هذا - الحرب غير المعلنة بين اليورو والدولار الأمريكي «وليعذرني القارئ العزيز على طول النص المقتبس المترجم عن الانكليزية من قبلي»:

بعد إنشاء نظام بريتون وود في عام 1945 اعتبر الدولار وفق ذلك النظام مغطى جزئيا بالذهب، وهذا الدولار المضمون جزئيا بالذهب وفق نسبة محددة بأربع وعشرين أونسة ذهب يكون متاحا للحكومات الأجنبية فقط، وليس للمؤسسات المالية الخاصة. ووفق ذلك النظام اعتبر الدولار الأمريكي عملة الاحتياطي النقدي للدول كافة. كان ذلك ممكنا، لأنه خلال الحرب العالمية الثانية قامت الولايات المتحدة بتزويد حلفائها بالمواد الغذائية والعتاد الحربي مقابل الدفع بالذهب، تمكنت بفضل ذلك من حيازة كميات هائلة من الذهب. لكن ما تم في الواقع أن عرض الدولار المتداول قد تجاوز كثيرا غطاءه الذهبي، وكان يسلم للدول الأجنبية في مقابل السلع الاقتصادية التي يصدرونها للولايات المتحدة. لم يكن قد أخذ بالاعتبار أن تقوم الحكومة الأمريكية بشراء الدولار بالقيمة ذاتها من الذهب، حيث لم يكن هناك ذهب كافي يوازي الدولارات التي أصبحت في حوزة دول العالم والتي كانت في تزايد دائم عبر التجارة، وهي الدولارات التي تقل قيمتها كثيرا عن قيمتها الحقيقية. لقد حققت الولايات المتحدة دخلا عن طريق عملتها الورقية التي لم تساو أكثر من تكلفة طباعتها. وترغب الولايات المتحدة أن تبين للعالم أن هناك سببا يدعوهم للاحتفاظ بالدولارات وهو النفط. ففي عام 1971، وعندما أصبح واضحا أن الولايات المتحدة لا تتمكن من استعادة دولاراتها مقابل الذهب فقد أعدت نفسها لجعل العالم رهينة لعملتها الورقية غير المغطاة بالذهب. فقد عقدت اتفاقا مع العائلة الملكية السعودية عام 1972 – 1973 تقوم بموجبه الولايات المتحدة بحماية المملكة السعودية مقابل أن تقبل الأخيرة الدولارات الأمريكية فقط مقابل نفطها المصدر إلى الولايات المتحدة. وبفرض الدولار على دول أوبك تكون العملة الأمريكية مقبولة من كل الدول المستوردة للنفط من دول المنظمة. ولأن العالم يشتري النفط من البلدان العربية المنتجة للنفط سيكون مضطرا للاحتفاظ بالدولار لدفع أثمان النفط الذي يشتريه من الدول المصدرة له. ولهذا السبب ستضطر الدول التي تزداد مشترياتها، أو بسبب ارتفاع أسعار النفط أن تحتفظ بكميات اكبر من الدولارات، وهي تعرف عدم إمكانية مبادلة الدولار بالذهب، لكن يمكن مبادلته بالنفط. المغزى الاقتصادي لامكانية مبادلة الدولار بالنفط هي ترسيخ هيمنة الدولار في العالم، واذا ما ظهر أي سبب لفقد الدولار مكانته كعملة مسنودة بالنفط فإن الهيمنة الأمريكية على العالم تبدأ بالتلاشي، لأنها لم تعد قادرة على إجبار العالم على الاحتفاظ بكميات كبيرة من الدولار. لهذا فإن بقاء الامبريالية الأمريكية مرهون باستمرار بيع النفط فقط بالدولار. من الناحية الأخرى أن احتياطيات النفط موزعة على مساحات واسعة من بلدان العالم، وليس بينها من له القوة الاقتصادية والعسكرية الكافية ليطالب الولايات المتحدة بالدفع بعملات أخرى غير الدولار. واذا ما طالب أحد البلدان النفطية بعملات أخرى غير الدولار، فعليه أن يكون مقتنعا بعدم تغيير موقفه.

البلد الوحيد الذي طلب اليورو بدل الدولار كمدفوعات مقابل النفط هو العراق في عام 2000. لقد قوبل طلبه في البداية بالسخرية ثم بالتجاهل، وعندما اتضح فيما بعد أنه طلب أن تكون أموال صندوق النفط مقابل الغذاء لدى الأمم المتحدة باليورو( وحينها كانت حوالي عشرة بلايين دولار) تزايد الضغط عليه لتغيير موقفه. بلدان أخرى مثل ايران طلبت هي الأخرى بدفع أثمان مبيعات نفطها باليورو والين الياباني. الخطر الذي يواجه الدولار واضح وقائم، لذا كان اتخاذ موقف حاسم من الولايات المتحدة قد أصبح ملحا. لقد كانت الحرب على العراق عام 2003 من أجل الدفاع عن الدولار، ليكون درسا للآخرين الذين ربما ينتهجون ذات الطريق الذي انتهجه العراق. المطالبة بالدفع بغير الدولار من أي دولة سيلاقون المصير نفسه وسيعاقبون. البعض انتقد الرئيس بوش الابن كونه ذهب إلى الحرب من أجل النفط. على كل حال تلك الانتقادات لم تفسر لماذا أراد بوش السيطرة على النفط العراقي، فهو بكل بساطة يمكن أن يطبع بلايين الدولارات التي لا تكلف شيئا ويستخدمها لشراء النفط الذي يحتاج. لقد كان له سبب آخر لغزو العراق، فالتاريخ يعلمنا بأن امبراطورية تذهب إلى الحرب لسببين: الأول: للدفاع عن النفس، والثاني: لتحقيق المنافع من خلال الحرب.

اقتصاديا، أي امبراطورية تقرر خوض الحرب لابد أن تتوقع أن المنافع التي تتحصل عليها من ورائها تزيد عن تكاليف خوضها. المنافع من النفط العراقي مقارنة بتكاليف حرب العراق في المديين القصير والبعيد لا تشكل شيئا. لقد ذهب بوش إلى العراق ليدافع عن الامبراطورية الأمريكية، وهذا هو السبب الحقيقي. فبعد شهرين من غزو العراق تم الغاء برنامج النفط مقابل الغذاء، وكافة الحسابات العراقية التي كانت قد صممت للتعامل مع اليورو تحولت إلى الدولار، وبدأ بيع النفط العراقي بالدولار فقط. لم يعد أي بلد في العالم يشتري النفط العراقي باليورو، وعادت من جديد هيمنة الدولار على مدفوعات مبيعات النفط. وقد أعلن الرئيس بوش أن المهمة أنجزت، وأعلن نفسه منتصرا، فقد نجح في الدفاع عن الدولار والامبراطورية الأمريكية  (انتهى الاقتباس).

لكن المهمة لم تنجز تماماً، فالخطر الذي يهدد سلطة الدولار ما زال قائما، فلم يكن العراق إلا حلقة واحدة من السلسلة التي تضيق الخناق على الدولار، فايران على ما يبدو أصبحت الحلقة الثانية، فهي تباشر منذ أمد بقبول اليورو في مقابل صادراتها من النفط والغاز، إضافة إلى تحويل احتياطياتها النقدية إلى سلة من العملات الصعبة ليس بينها الدولار. والأشد خطورة هو إقامتها في 2005 بورصة لتجارة النفط في جزيرة كيش الايرانية في الخليج العربي، وستتعامل بمختلف العملات كاليورو والين الياباني واليوان الصيني والروبل الروسي والريال الايراني. وفي 13 / 7 / 2011 بدأت ايران بالفعل التجارة في البورصة التي أقامتها، حيث عرضت نفطها مسعراً بالدولار، ولأن إيران تخضع لعقوبات منذ 1979 من الدول الغربية بضغط من الولايات المتحدة، فلم تعقد اية صفقات ذات شأن، وهي بداية ليست جيدة. ومما زاد الوضع الايراني سوء هو تشديد العقوبات عليها في السنتين الأخيرتين من الولايات المتحدة وأوروبا، جعل من الصعب على أي جهة عقد صفقات مع الشركات الايرانية سواء كانت عمليات مصرفية أو خدمات النقل والتأمين البحري. لكن ليس كل الدول التزمت بالعقوبات، فالصين تتزود حاليا بمليوني برميل يوميا من النفط الايراني، أي حوالي 15% احتياجاتها من النفط المستورد لعام 2011، تليها الهند بحوالي نصف مليون برميل يومياً. يتم تسوية الحسابات بين إيران والدول الأخرى عبر المصارف التركية، لكن مثل هذه الوسائل تثير غضب الولايات المتحدة و إسرائيل، وقد لا تستمر تركيا بالقيام بهذه التسهيلات بسبب ذلك.

تحول ايران عن الدولار الأمريكي إلى اليورو والين الياباني في الوقت الذي يواجه الدولار وضعا حرجا لم يواجهه من قبل، قد يكون سببا لانهياره كعملة رئيسية للاحتياطيات النقدية العالمية. وإذا قام مستهلكون ومنتجون للنفط بالتعامل في تجارة النفط بغير السوق المفتوحة كالبورصة الايرانية أو التعامل بعملات أخرى غير الدولار، فسيكون كل بلد منها قادراً على بناء احتياطيه النقدي بسلة من العملات تتحاشى بها الاضطرابات الملازمة للدولار، مما يجعل اقتصادها أكثر استقرارا. فمثلا:

1- سيكون الأوربيون غير ملزمين بشراء أو الاحتفاظ بالدولار الأمريكي من أجل تأمين مدفوعاتهم عند شراء النفط، وسيكون بمقدورهم شراء النفط بعملاتهم المحلية أو باليورو.

2- اليابانيون والصينيون سينتفعون من شراء نفطهم من البورصة، لأنهما سيتمكنان من تخفيض احتياطاتهم النقدية الضخمة من الدولار والتوجه ناحية اليورو، وبذلك يتحاشون الاضطرابات التي يتسبب بها انخفاض قيمة الدولار في السوق الدولية.

3- وللروس أيضا مصلحة اقتصادية في استخدام اليورو بدل الدولار، لأن معظم تجارتهم تتم مع اوربا. وحيث باشر الروس منذ عهد قريب بالتخلص من الدولار كاحتياطي نقدي، وتوجهوا نحو حيازة المزيد من الذهب بدلاً عنه. من جانب آخر ستتمكن روسيا من إجراء المبادلات التجارية مع كل من الصين واليابان باليورو. وأمام تصاعد الشعور القومي داخل روسيا فقد برز اتجاه التقارب مع أوربا على حساب الولايات المتحدة بالتخلص من الدولارعبر تبني اليورو .

4- الدول العربية المصدرة للنفط سيكون من مصلحتها التحول إلى اليورو للتخلص من جبال العملة الأمريكية من الورق الأخضر المتناقص القيمة. وهي كروسيا جل تجارتها مع أوربا وهي لذلك تفضل عملة اليورو المستقرة على الدولار المتقلب.

 

فهل ستسمح الولايات المتحدة لايران أن تنجح بما تخطط له؟

الإجابة: لا بالتأكيد، ففي ظل التوازن الدولي الجديد، لن تخشى الولايات المتحدة روسيا والصين الذين لهما علاقات ومصالح اقتصادية وفنية وسياسية وثيقة مع إيران، ومع أن ايران تستورد أسلحة من الدولتين لكن ليس هناك تحالفاً عسكرياً بينهما، فهما بالنسبة للولايات المتحدة ليسا خصمين بل شريكين تجاريين منافسين، ما يجمعها بالولايات المتحدة أكثر مما يبعدهما عنها. لقد انتهت مرحلة الصراع بين ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، ولذا فان ما ترمي اليه الولايات المتحدة من أهداف استراتيجية أو تكتيكية في أية منطقة من العالم تستطيع الوصول إليه بالوسيلة التي تقررها هي وحليفاتها في الحلف الأطلسي. فقد تدخلت لتغيير القيادات الحكومية في ليبيا ومصر وسورية واليمن، بينما تقف ضد الحركات الوطنية المطالبة بالتغييرات الديمقراطية في البحرين والسعودية وامارات الخليج والمملكة المغربية. ولا تتوانى من أجل تحقيق أهدافها الامبريالية بالقوة المسلحة والاحتلال المباشر، كما كان الحال مع أفغانستان والعراق.

لن يسمح الأمريكيون للايرانيين أو الفنزوليين باستبدال الدولار الأمريكي باليورو، فهم لم يسمحوا للعراق قبلهم أن يفعل ذلك. ومن المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بأحد أو بعض الخيارات التالية لمنع أي دولة من تبني اليورو أو غيره من العملات في تجارة النفط:

1- إعاقة المبادلات التجارية والمالية عن طريق نشر الفايروسات في شبكات الانترنيت والاتصالات، أو من خلال عمليات مشابهة لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001 لضرب أو تدمير البنية التحتية الايرانية والفنزويلية.

2- تشجيع الانقلاب العسكري للإطاحة بالنظام القائم، وهو أسلوب استخدمه الأمريكيون في العديد من الدول في مناسبات كثيرة في الماضي ( انقلاب الجنرال زاهدي عام 1953 ضد حكومة الدكتور مصدق الذي أمم النفط الايراني وطرد الشركات الأمريكية من البلاد كان واحدا من تلك المحاولات الناجحة التي استعادت بفضله شركات النفط هيمنتها على نفط ايران، وبعد ذلك انقلابهم الناجح ضد حكومة عبد الكريم قاسم في عام 1958 ) .

3- التفاوض وفق شروط مسبقة وهو أحد الأساليب التي تستخدمها الولايات المتحدة لفرض قرارتها على الآخرين.

4- استصدار قرار من مجلس الأمن لاستخدام العمل العسكري، لكن هذا لا يمكن ضمانه بسبب وجود أعضاء مثل روسيا والصين التي لها علاقات طيبة مع ايران وفنزويلا.

5- شن ضربة عسكرية باستخدام سلاح نووي محدود وهذا هو أفظع الأساليب الاستراتيجية التي يمكن أن تفكر بها الولايات المتحدة، وفي هذه الحالة يمكن أن تستخدم اسرائيل للقيام بهذه المهمة القذرة.

6- القيام بحرب شاملة، وهذه أيضا لا تقل فظاعة عن سابقتها، وكان الجيش الأمريكي قد سبق له أن قام بمثل هذه الحرب. لكن هناك عقبات تقف في طريقها. فقد تثير الولايات المتحدة بتصرفها هذا قوى مثل روسيا والصين والهند المكونين لمجموعة شنغهاي للتعاون التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع ايران، حيث يمكن أن يشكلوا ضغطا على الولايات المتحدة لمنعها من مثل هذه الخطوة.

ويمكن فهم لماذا لم تتبنَّ بريطانيا لحد الآن اليورو، برغم أن مصلحتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوربي، فبريطانيا ملتزمة بالاتفاقات الاستراتيجية التي تربطها بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن الواضح أن الأمريكيين قد طالبوهم بعدم الانضمام بسبب التحالف الاستراتيجي بينهما، لأنهم والأمريكيون يقودون تجارة النفط العالمية من بورصتي نيويورك ولندن المملوكتين للأمريكيين. دون ذلك فان بورصة لندن كانت ستتبنى اليورو، وهذا لو حصل فانه سيدمي شريكهم الاستراتيجي، لأنه سيلحق الضرر بالدولار الأمريكي.

ما عدا ذلك، فإن جل ما يقلق الولايات المتحدة هو ما يجري في القارة الأوربية، فان عدداً من دولها التي انضمت في 2002 للاتحاد الأوربي، أصبحت أعضاء في العملة الأوربية الموحدة، وباشرت بالفعل استخدام اليورو في تعاملاتها التجارية وفي احتياطياتها النقدية. وقد صرح مسؤولون في منظمة الأقطارالمصدرة للنفط (أوبك ) أخيرا بأنهم يدرسون حاليا بعناية خيار التحول إلى العملة الأوربية الموحدة. فرض الدولار على العالم احتاج إلى حروب دامية وطويلة، أما انهياره فلن يحتاج إلى اطلاق رصاصة واحدة، لأن موته سيكون طبيعيا تماما.