متغيرات التدخل الإمبريالي الأمريكي في النزاعات العالمية 2/2
منذ الانهيار الاقتصادي في عام 2008، تراجعت، بشكل كبير، قدرة النخبة الإمبريالية الأمريكية على القيام بحروب بالوكالة عن «إسرائيل». اتسعت الهوة بين الحاكمين والمحكومين في الولايات المتحدة، وأصبحت مشاكلُ الاقتصاد المحلي المنبعَ الرئيسي للقلق، عوضاً عن الإرهابيين الأجانب. وأخذ عموم الأمريكيين ينظرون إلى الشرق الأوسط، بوصفه منطقة الحروب المكلِّفة التي لا تنتهي، ولا تقدّم أي فائدة لاقتصادهم
ترجمة وإعداد : نور طه
فقد أكد تقرير صادر عن «بيو للأبحاث»*، في أواخر عام 2013، على اتساع الفجوة بين آراء النخبة وآراء العامة في أمريكا، حيث كانت الإجابات التي حصدها الاستطلاع الذي تضمنه التقرير هامة جداً، فقد وافقت أغلبية العامة المُستطلَعة (52%) على الفكرة القائلة بأن على الولايات المتحدة أن تهتم بشؤونها على الصعيد الدولي. وأن تترك الدول الأخرى تحقق مصالحها بنفسها. وهذا يعكس ازدياد المعارضة الشعبية للتدخلات العسكرية الإمبريالية الأمريكية، ومن الجدير بالذكر هنا، أن نسبة الـ (52%) الحالية الرافضة للتدخل الإمبريالي في 2013 لم تكن تتجاوز الـ (30%) في عام 2002. ومن جهة أخرى، بات الرأي العام الأمريكي يميّز، بشكلٍ واضح، بين التجارة والعولمة «الاسم الآخر للإمبريالية»، فقد فضّل (81%) من العامة التجارة كمصدر لخلق الوظائف، في الوقت الذي عارض (73%) منهم العولمة. إن الرأي العام الأمريكي يرفض أيضاً التوسّع الاقتصادي الإمبريالي والحروب، لما تسببه من أذى لاقتصادهم الوطني ولطبقة العمال والطبقة الوسطى. وتدرك النخبة الأمريكية جيداً مقدار التباين في المصالح والقيم والأولويات بين الشعب والدولة الإمبريالية، كما أنها تعلم بأن الحروب السابقة المستمرة والباهظة قد أدت إلى رفضٍ عام لشن أي حروب إمبريالية جديدة، وإلى تزايد الطلب على إيجاد برامج توظيف محلية. إن الفجوة بين سياسة النخبة الإمبريالية وبين أغلبية الشعب هي إحدى أهم العوامل التي تؤثر على السياسة الخارجية للولايات المتحدة حالياً.
بين دفع الحلفاء وتريُّث الرأس
في هذه الأثناء، كان حلفاء أمريكا (إسرائيل - الحكّام التابعون في دول الخليج - الأوروبيون - اليابان) يدفعونها لتتدخل وتواجه خصومهم. ولتحقيق هذه الغاية، فقد قامت «إسرائيل»، والجسم الصهيوني المتواجد في الحكومة الأمريكية، بالتقليل من شأن مفاوضات السلام الأمريكية ـــ الإيرانية. كما عملت السعودية، ودول خليجية أخرى إلى جانب تركيا، على حثّ الولايات المتحدة على مهاجمة سورية. أما الفرنسيون، فقد نجحوا من جهتهم بدفع أمريكا إلى حرب ضد حكومة القذافي في ليبيا، ومن ثم وجّهوا أنظارهم إلى مستعمرتهم السابقة (سورية).
أمام خيار استمرارها بالتصرف كقوة إمبريالية غير مقيدة وذات مصالح عالمية، وبالتالي مواجهة السخط والاستياء الداخليين، اضطرت الولايات المتحدة إلى مراجعة سياستها واستراتيجيتها الخارجية. حيث أنها بدأت بتبني وجهة نظر مختلفة قليلاً عن السابق، بما يجعلها أقل عرضةً لعمليات الاستغلال والضغوط الخارجية.
بدأ «بناة» الإمبراطورية الأمريكية، في ظل محدودية الخيارات العسكرية أمامهم، وانخفاض مستوى التأييد الشعبي لهم، باعتماد الخطوات التالية:
1) تحديد أولويات في عملية اختيارهم لأماكن القتال.
2) تنويع أدواتهم السياسية والاقتصادية والدبلوماسية الخاصة بالضغط والإكراه.
3) تحديد عمليات التدخل ذات النطاق الواسع والمدد الطويلة، في المناطق التي تضم مصالح استراتيجية أمريكية.
إلا أن ما سبق لا يعني أبداً بأن الولايات المتحدة قد تخلّت عن سياساتها العسكرية، ولكنها تبحث عن طرق جديدة لتفادي الحروب ذات الأمد الطويل والكلفة العالية، والتي قوّضت اقتصادها ورفعت منسوب المعارضة السياسية المحلية فيها.
صراعات تعمِّق أزمة المركز
تشمل قائمة الصراعات القائمة حالياً، والتي تهمّ واشنطن كلاً من (أوكرانيا) و(تايلند) و(هندوراس) و(اليابان - الصين - كوريا الجنوبية) و(إيران - دول الخليج) و(«إسرائيل» - سورية) و(فنزويلا) و(«إسرائيل» - فلسطين) و(ليبيا) و(أفغانستان) و(مصر).
بالنسبة للنزاع بين كل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية، فإنه يبدو في الظاهر صراعاً على «كومة صخور»* لا فائدة اقتصادية تُرجى منها، إلا أنه في العمق ينطوي على خطة أمريكية لتطويق الصين عسكرياً عبر تحريض حليفتيها - اليابان وكوريا الجنوبية - على مواجهة الصينيين عند هذه الجزر. ومن الجدير بالذكر أن السياسة الأمريكية الحالية تجاه الصين تعكس صراعاً مستمراً بين تيارين، هما «الإمبرياليون العسكريون» من جهة، والمدافعون عن المصالح الاقتصادية الإمبريالية من جهة ثانية.
أما فيما يتعلق بالصراع الدائر بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وروسيا، فإن المصالح الاقتصادية الأمريكية فيه هي مصالح ثانوية، ولكنه قد يتضمن مصالح عسكرية رئيسية لها. فإذا انضمت أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، فإنها ستتحول إلى دولة تابعة أخرى، تخضع لإملاءات البيروقراطيين ورجال المصارف المتواجدين في بروكسل، كما جرى مع إسبانيا واليونان والبرتغال وإيطاليا. إن أكثر ما يهم أمريكا في هذه القضية، هو ضمان انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو»، كجزء من خطتها لتطويق روسيا.
وفيما يخص سورية، فقد لقيت محاولة التدخل الأمريكي فيها معارضة شديدة وواسعة في الكونجرس، ومن الرأي العام الأمريكي، ولم تجد تأييداً سوى من اللوبيات الصهيونية والسعودية المتواجدة في أمريكا. حيث تفوّق صوت الرأي العام الأمريكي على كل من صوت «القصف الإعلامي»، الذي مارسته وسائل الإعلام المؤيدة لـ «إسرائيل»، والضغوطات التي قام بها الرؤساء الاثنان والخمسون لـ «المنظمات اليهودية الأمريكية» الرئيسية، التي كانت تدفع إدارة أوباما وبكل نشاط نحو «المستنقع السوري».
يعدّ الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الوجه أو الممثل الجديد للعسكرة والتدخل الإمبرياليين في إفريقيا، نظراً لما قامت به بلاده من عمليات قصف واسعة لليبيا، إضافة إلى غزو واحتلال مالي وجمهورية افريقيا الوسطى. وفي هذا السياق، فقد قبلت أمريكا بـ «دور داعم» لفرنسا، حيث أنها، وباستثناء حروبها بالوكالة في الصومال، لا تتدخل بشكل استراتيجي في افريقيا.
وفي فنزويلا، لا تزال واشنطن تواصل تمويلها لأحزاب المعارضة التي تؤيد استخدام الأساليب الغوغائية والعنيفة في الشوارع، وتخريب الخدمات العامة كالكهرباء. وبالتوازي مع هذا الدعم، فإن الإدارة الأمريكية باتت تعتمد على نخبة من رجال الأعمال المحليين، ليقوموا باحتكار السلع الأساسية، بغرض زيادة أسعارها. إلا أن جميع هذه المحاولات الرامية إلى زعزعة وتقويض الحكومة الفنزويلية قد باءت، حتى الآن، بالفشل.
نقاط ضعف القوة الإمبريالية
تكمن نقطة الضعف الاستراتيجية الرئيسية الأولى في سياسة «بناء الإمبراطورية الأمريكية» في غياب الدعم المحلي، حيث تشهد الولايات المتحدة طلباً متزايداً على وظائف برواتب أفضل لعكس اتجاه الانخفاض العام في مستويات المعيشة الأمريكية، إضافة إلى المطالبة بحماية أكبر للخدمات والبرامج الاجتماعية. أما نقطة الضعف الاستراتيجية الثانية، فإنها تتجسد في عدم قدرة الولايات المتحدة على إنشاء «اقتصاد رفاه وازدهار» قابلٍ للحياة.
في النهاية، فإن العائق الأساسي الأكبر أمام تكيّف السياسة الخارجية الأمريكية مع الحقائق الراهنة بشكل فعال، يتمثّل باللوبي «الإسرائيلي» ـــــ الصهيوني، الذي يتمتع بقدرة تأثير كبيرة في الولايات المتحدة، والذي يتواجد في كل من الكونجرس والإدارة الأمريكية ووسائل الإعلام العامة، فالصهاينة ملتزمون بشدة بدفع أمريكا لخوض المزيد من الحروب من أجل «إسرائيل». ومع هذا، فإن التوجه نحو المفاوضات مع إيران، ورفض قصف سورية، والامتناع عن التدخل في القضية الأوكرانية، تعدّ مؤشرات على أن واشنطن أصبحت أقل ميلاً نحو التدخل العسكري واسع النطاق، وأكثر تقبلاً للرأي العام الذي يفرض قيوداً على ممارسة القوة الإمبريالية.
هوامش :
بيو للأبحاث* : مؤسسة بحوث أمريكية تُعنى بتقديم معلومات حول القضايا الاجتماعية والرأي العام في الولايات المتحدة والعالم.
كومة صخور* : استخدم السيد بيتراس هذا التعبير للإشارة إلى جزر «ديايو» أو «سينكاكو» المُتنازع عليها (المترجم).