خطورة استمرار السياسات النقابية نفسها
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

خطورة استمرار السياسات النقابية نفسها

وفقاً للقوانين والأنظمة السارية في البلاد بشكل عام وقانون التنظيم النقابي بشكل خاص، تنعقد المؤتمرات الانتخابية كل خمسة أعوام وتسمى بدورة نقابية، حيث تجري انتخابات على مستوى المنظمة بأسرها في جميع المحافظات، بدءاً من اللجان المنتخبة في الهيئات العامة للتجمعات العمالية بكل قطاعاتها، مروراً بانتخابات مكاتب النقابات واتحاد المحافظات، حتى انتخاب المجلس العام الذي بدوره ينتخب الاتحادات المهنية، ومكتبه التنفيذي الذي يقود المنظمة العمالية والعمل النقابي طوال مدة الدورة التي سبق وذكرنا أنها تمتد لخمس سنوات كاملة، تعتبر كافية أمام أي قيادة لتطبيق برنامجها وخطط عملها.

ولا يخفى على أحد كيف كانت تجري تلك الانتخابات وسياسة التعيين المسبق جرّاء الهيمنة السلطوية والأمنية على المنظمة، ومنع الحياة والنشاط السياسي في النقابات شأنها شأن البلاد بأسرها. ورغم ذلك فالماهية التنظيمية للمنظمة وتمثيلها الطبقي فرضت بعض المساحات والهوامش التي يمكن النضال من خلالها وخاصة بالهيئات القاعدية. وهذا ما جعل كسر القبضة السلطوية عليها ممكناً، وهو ما تكرر حدوثه مراراً وتكراراً سواء من خلال خرق اللوائح الانتخابية المغلقة باللجان النقابية أو من خلال النشاط العمالي بالعرائض والإضرابات، وغيرها من الإشارات الدالة على أن الواقع الموضوعي للطبقة العاملة يجعلها تسير بنضالها الطبقي المتطابق مع مصالحها حتى في أشد حالات التسلط والإقصاء، وعادة ما كانت القيادة النقابية تحاول احتواء هذا الخرق بطرقها الخاصة لمنعه من النفاذ بمستويات قيادية أعلى تفرض موازين جديدة لا يمكن التعاطي معها بالطرق التقليدية.
في الدورة 26 التي بدأت في 2014 وانتهت في 2019، وبحكم الظرف السياسي المعقد في البلاد ودخول الأزمة الوطنية طوراً جديداً شديد الخطورة، استطاعت القواعد العمالية إحداث خروقات مهمة وعديدة في انتخابات اللجان النقابية، ليمتد لاحقاً لمؤتمرات المحافظات ومكاتب النقابات أيضاً. ورغم نسبيته الضئيلة إلا أنه كان شديد الأهمية في حينه، لقدرته على كسر قواعد التعيينات المسبقة والتحاصص والقوائم المغلقة. وترجع أسباب هذا النجاح الجزئي لعوامل موضوعية وأخرى ذاتية كثيرة، أهمها الظروف القاسية التي تمر بها الطبقة العاملة على كل الأصعدة، وخاصة المعيشية الاقتصادية، إضافة لارتفاع مستوى النشاط السياسي بشكل عام، وعدم قدرة السلطة على احتواء هذا التحرك الناشئ عفوياً. ورغم محاولات امتداد كسر الهيمنة لمستويات تنظيمية أعلى إلا أنها لم تنجح، كون القبضة هناك كانت أكثر قوة وأهمية لهم لدرجة أنهم لجأوا للتدخلات الأمنية المباشرة، ومن هنا ندرك أهمية تلك الدورة التي اجتمع النقابيون على وصفها بالاستثنائية، حيث شهدت المؤتمرات النقابية السنوية خلالها تطوراً واضحاً بسقف الخطاب العمالي الذي تجلى بمطالباتهم ونقدهم ومعارضتهم للسياسات الحكومية وللأداء النقابي الهش، إضافة لاعتصامات وإضرابات وعرائض أزعجت السلطة وأحرجت القيادات النقابية. ويبدو أن ما مرّ في الدورة 26 من خطوة عمالية صغيرة إلى الأمام كانت بالنسبة للسلطات إنذاراً يحتم عليها التنبه له والتعامل معه بطريقتها الاعتيادية الأقرب ما تكون للمؤامرة.


استهداف مستمر لدور النقابات


في شهر تشرين الأول من عام 2018 وخلال أحد الاجتماعات العمالية النقابية غير الرسمية التي كانت تجري بشكل دوري في بعض مكاتب اتحاد عمال دمشق والاتحاد العام، والتي تضم ثلة من النقابيين والخبرات في الشأن العمالي النقابي، تم الحديث والنقاش وتبادل الآراء حول الانتخابات النقابية على مستوى اللجان التي كانت قد بدأت بالفعل في أغلبية المحافظات السورية، فالدورة 26 شارفت على نهايتها وبالتالي فنتائج العملية الانتخابية ستحدد مستقبل المنظمة لخمس سنوات جديدة تبدأ في 2019 وتنتهي في 2024. ورغم ما كانت تعانيه المنظمة من هشاشة بنيوية وتراجع شديد في الوزن والدور، وازدياد الهوة بين العمال ومنظمتهم، وشدة الهيمنة السلطوية والسياسية والأمنية على مفاصل القرار والبرنامج والممارسة، بقيت القوى العمالية الواعية متمسكة بما بقي فيها من حيوية وتطمح للعمل مع من يتبنى قضية الطبقة العاملة، وينشد التغيير ويعمل عليه حسب موقعه ووفق قواه والهوامش المتاحة له آنذاك. حينها توصل النقاش لرأي واحد بما يخص الانتخابات التي تجري ونتائجها المعدة مسبقاً، ولم يكن هذا الرأي المتطابق نتيجة الانتماء لمرجعية سياسية أو فكرية واحدة، إنما على العكس من ذلك تماماً، فالواقع المرصود من الانتخابات التي كانت تجري على مستوى القواعد، إضافة لنتائج القيادية العليا التي ستفوز بالتزكية حكماً، أوضحت مهمة هؤلاء المتمثلة بالإجهاز على ما تبقى للمنظمة من قوى طبقية نضالية ودور ووزن واستقلالية، وهذه المرة ليس من خارجها وحسب بل من داخلها. فما إنْ استلمت القيادات الجديدة حتى أصبح تنبؤنا واقعاً يومياً فكممت الأفواه وحلت لجان نقابية بكاملها ودمجت لجان أخرى، وأزيحت الخبرات بقرارات تعسفية وتهديدات أمنية، وعينت فرق الحرس الأمني وشكلت هيئات مستحدثة على قاعدة الولاءات والطاعة، وتم التحكم المركزي بكل صغيرة وكبيرة، وأُصدرت القرارات من فوق لتحت، تأمر هنا وتنهى هناك، في مصادرة لكل قرار نقابي مستقل نافع، رُمّمت المكاتب وفرشت بيوت القيادات في مشروع دمّر ووزعت السيارات الجديدة السوداء «المعتّمة» ووقعت عقود الاستثمار بالمكاتب المغلقة بعوائد شحيحة على الورق عظيمة بالقنوات الأخرى، كل ذلك والعمال يناضلون من أجل تعديل بدل الوجبة الغذائية الوقائية بمعامل الرصاص والنحاس لا يجدون لذلك سبيلاً، بالمختصر نعم لقد نجح أمراء السنوات الخمس المباركين من السلطة والأمن بإدخال الطبقة العاملة العناية المركزة الحرجة.


إلى متى الانتظار؟


بسقوط سلطة النظام البائد الفاسد، تفاءلت القوى العمالية والنقابية وأعدت نفسها للمرحلة الجديدة التي من المفترض أن تستعيد فيها حقوقها وحريتها ومنظمتها النقابية الكبرى. ولكن وبعد مرور كل تلك الأشهر الطويلة بات واضحاً أن المسار الذي ما زالت النقابات تمضي به هو استمرار للمسار السابق نفسه، رغم اشتداد المظلومية والواقع الاجتماعي والمعيشي والوظيفي الكارثي التي وصلت إليه الطبقة العاملة بسبب سياسات الحكومتين المتعاقبتين، وقراراتها التعسفية الجائرة إجرائياً من خلال قرارات الفصل وملحقاتها، ومعيشياً من خلال رفع الدعم عن الاحتياجات الأساسية وارتفاع كلفة المعيشة، ومختلف الظروف التي لا تخفى على أحد. لذلك لا بد من تذكير مَن يُسيِّر أعمالَ التنظيم النقابي بشكل مؤقت أن يقطع مع السياسات السابقة التي قادت المنظمة، لا أن يستمر بها. ولا يوجد أي مبرر يمنع مُسيِّري الأعمال اليوم من البدء ببرنامج إنقاذ حقيقي يستند على الهوية الطبقية للمنظمة وحقيقة تمثيلها الجامع، أمّا أن تستمر الأمور على ما هي عليه فهذا ما لا يستطيع أحدٌ التنبؤ بنتائجه اللاحقة، وللحديث صلة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1253