«ملعون أبو الفقر»
من بين الرسائل التي وصلتنا رسالة من حلب، وجهتها إحدى موظفات القطاع العام التي طالتها قرارات الفصل. تجمع في سطورها وأسلوب صياغتها ما بين مشاعر الخذلان والقهر، وتعبر عن شدة الضيق الذي وصلت إليه، شأنها شأن عشرات الآلاف من الذين وجدوا أنفسهم خارج أعمالهم ووظائفهم، خسروا آخر ما تبقى لهم من لقيمات الحياة. وربما تحمل تلك الرسالة ما تعجز عنه أقلام المحررين ومنشورات الناشطين، وتصلح في مضمونها أن تكون نموذجاً لسلوك الموظفين المتضررين وسعيهم وإصرارهم على منع الظلم عن أنفسهم، أو الاستسلام لليأس والفقر القاتل الذي بات مسلطاً على رقاب الطبقة العاملة بأسرها، فكيف بمن خسر عمله ولقمة عيشه، فيكابد نتائج البطالة ومشقة الحياة التي لا ترحم.
من بعض ما جاء في رسالة ميادة: «لم تثنيني الشهور الماضية عن الإلحاح في متابعة القرارات الخاصة بالموظفين المفصولين، هذا القرار المجحف الذي وضع عائلاتنا في وضع اقتصادي محرج وسيّئ للغاية ضمن الظرف العام الذي تمر به البلاد. إن حالي كحال المئات من الموظفين الذين يصارعون قرارات هضمت حقوقهم، ومنعتهم عن مزاولة عملهم، بحجة أنهم «من مخلفات النظام البائد»، مع العلم أن معظمنا ممن تجاوز 35 عامًا من العمر، وهذا ما يزيد من صعوبة البحث عن مصدر رزق آخر لغالبيتهم» وتضيف: «من باب إلى باب، أنهكني التعب واستنفد طاقتي كلها، لم يساورني شك بالله بقدر ما أكل الشك قلبي من المسؤولين (في البلدية)، وأنا أقدم الكتاب وراء الآخر في محاولة لثني قرار الفصل عني وعن زملائي ولكن دون جدوى».
«كل محاولة لي للذهاب للقصر البلدي كانت بمثابة يوم دوام كامل، أخرج من الثامنة صباحًا بعزيمة وتحدٍّ، ولا أعود قبل الثالثة ظهرًا، يثقلني اليأس أكثر مما يثقلني التعب، وشيء من الخجل يوجع النفس وكأني أتذلل وأتسول العودة لعملي أو وظيفتي».
«أنا أحاول ليس لأجلي فقط بل من أجل 190 موظفًا هُضم حقهم دون وجه حق، ومن المفترض أن نتحرر من قيودنا من فساد واستبداد جاثم على صدورنا لا أن نتحرر من وظائفنا. من أصدر قرار الفصل وقّع على قرار إعدامنا وعائلاتنا اقتصاديًا. عائلات عدة يعيلها موظفون وموظفات بوضع صحي سيّئ، أو بواقع اقتصادي شحيح لانعدام مصادر الدخل الأخرى. لأي مصير نترك اليوم ونحن بظرف اقتصادي سيئ، يجعل كل الوعود الاقتصادية -إن صدقت- غير قادرة على سد ربع حاجات هذه الأسر المنكوبة جراء قرار الفصل».
«نحن اليوم ندور في حلقة مفرغة كنا ندور حولها سابقًا، نكمل الظلم السابق بظلم أكبر وأقسى، ولم يدفع الثمن إلا أضعف طبقة في المجتمع. معنى ذلك أن لا شيء تغير، لم نتحرر بل شُرِّدنا وهُضمت حقوقنا وفاسدو البارحة واليوم يسرحون ويمرحون. وكلما اجتمعنا مع مسؤول يقال لنا «كان النظام البائد يحارب بهؤلاء الموظفين»، نتَّهم وكأننا على جبهات القتال أو نعمل في القصر الجمهوري، وهذا ظلم لا يحتمل. هل يعقل أن تنسف حقوقنا فقط لأننا موظفون حكوميون؟ ألم نكن من السوريين ونخدم المواطنين كل المواطنين؟ وهل كنا موظفي نظام أم موظفي مؤسسات الدولة؟ هل يستبعد أو يستبدل كل هذا العدد في أرجاء البلاد السورية؟ هذا القرار هو قرار استقواء على الضعيف والأشد ضعفاً. المثبّتون هناك قانون يحميهم، أما العقود فليس لديهم ما يحميهم، وجاءت القرارات لتزيد واقعهم سوءًا وقهرًا. هل ما وعدنا به أنفسنا بعد سقوط السلطة البائدة الفاسدة تحول لكابوس؟ هل يستطيع المسؤولون أن يروا كمية الخذلان التي أصابت أولادنا وأسرنا ونحن عاجزون عن تأمين أدنى احتياج لعيشهم؟(ما معنا حق قرطاسية للمدارس ولا ثياب ومازوت للشتا)».
قد لا يكون في حديث موظفة القطاع العام ما يضاف على حديث نسمعه كل يوم في الشارع والمقاهي وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، بل يعتبر غيضاً من فيض، فالوضع أسوأ مما يظنه البعض، خاصة مع التراجع المخيف بفرص العمل وتوقف الآلاف من المنشآت الصناعية والتجارية والخدمية عن العمل، وانخفاض الطلب على اليد العاملة، وارتفاع مستويات البطالة الكلية والجزئية لمستويات غير مسبوقة. كل ذلك مع تدني القوة الشرائية للأجور، أضف عليه انتهاء العمل بالدعم الحكومي للمحروقات والخبز، مما شكل ضربة شديدة أخرى للطبقة العاملة بالكامل. وإن كانت الإحصاءات خلال السنوات العشر الأخيرة تشير إلى زيادة نسبة السوريين القابعين تحت خط الفقر المدقع، فإن هذه النسبة مستمرة بالارتفاع كل يوم بيومه لانعدام الإجراءات والحلول التي توقف ذلك، خاصة مع انضمام نسبة كبيرة من طبقة الفلاحين والمزارعين وعمال الزراعة لطوابير البطالة أو العمل الموسمي الذي لا يقي من جوع أو برد. ولذلك فإن من أهم معايير تقدم الدول هو حصة الفرد الواحد من الناتج القومي ومتوسط الدخل ونمط توزيع الثروة، وهي مؤشرات لمستوى العدالة الاجتماعية.
الفقر عدو قاتل
إن لعنة الفقر من أشد اللعنات التي تصيب المجتمعات الإنسانية، والتاريخ مليء بمحطات توضح تأثير الفقر على المجتمع والأوطان. وأكثر الدول أمناً ووحدة وسيادة هي التي تمتلك نسب بطالة وفقر متدنية، والعكس صحيح. لذلك من الطبيعي أن ترتفع معدلات التهميش والهجرة والعنف والجريمة والتسول والتسرب الدراسي واستغلال الأطفال وكل الظواهر الاجتماعية السلبية الأخرى مع كل فقر جديد. فالفقر إذا ما أصاب مجتمعاً فإنه يصيب الدولة ويضرب أسس وجودها وبنيان كيانها. وإن كانت الأزمة السورية بأطوارها المتلاحقة والمستمرة واقع موضوعي، فغياب العامل الذاتي المعاكس لها ما يزال غائباً، بل ما نشهده بالأمس واليوم أنه عامل مساعد يسرع من حدة الانهيار الاقتصادي والمعيشي، وبالتالي الاجتماعي. فماذا ينتظر المسؤولون اليوم حتى يبادروا لاتخاذ ما يجب اتخاذه من إجراءات وسياسات توقف انحدارنا الذي أصبح يهدد وجودنا بالكامل؟ وبما أن المعتمدين على الأجور يشكلون من المجتمع السوري أكثر من 85%، فهذا يحتم البدء بهم. وإذا ما تم تبني سياسات ونهج اقتصادي إنتاجي تشغيلي مبني على هذا الفهم وهذه الضرورة، فإن الأمور ستسير بالاتجاه الصحيح بشكل تصاعدي ومتسارع يبعد عنا شبح الموت، فالفقر عدو قاتل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1246