كنا بالإجازات القسرية صرنا بالاستقالات القسرية
تناولنا في «قاسيون» وبأكثر من مادة تداعيات ما تقوم به بعض الجهات الحكومية بتطبيق قرار الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية – شؤون مجلس الوزراء رقم 2533/ص المتضمن إنهاء الإجازات المأجورة لجميع العاملين بالقطاع العام، ونقلنا كيف يتم الضغط على العائدين من الإجازة بأساليب وقرارات مختلفة، وعلى رأسها عدم تأمين المواصلات ونقل العاملين للعمل في مواقع جديدة بعيدة عن أماكن إقاماتهم، بالإضافة لعدم تخصيص أماكن وأعمال لهم ضمن الدوائر. وهناك أيضاً عمال المعامل المتوقفة الذين أُلزموا بالدوام ودون مواصلات رغم عدم تشغيل المعامل. وكنا قد أشرنا في مقال «قاسيون» العدد 1244 (تعهد وتعجيز وتطفيش بطعم التسريح) إلى أن هذه الإجراءات والسلوكيات من بعض الإدارات بالجهات الحكومية هي بمثابة دفع الموظفين للاستقالة أو تجاوز القوانين، وبالتالي فإن إنهاء الإجازة القسرية المذكورة بالقرار لم يكن سوى إعلان استقالة مبكر لهم.
آخر الأخبار جاءت من فرع محروقات طرطوس، حيث تشير المعلومات المتوفرة إلى أن أكثر من 180 عاملاً قدموا استقالتهم بعد أن تم نقلهم لمواقع عمل جديدة تبعد عن أماكن سكنهم، بالإضافة لضغوط أخرى ومنع كامل للإجازات. وأوضح العمال أنهم يعتبرون هذه الاستقالة احتجاجاً عملياً على الإجراء المتخذ بحقهم، ليشكلوا حلقة من سلسلة الاستقالات التي بدأت تزداد وبوتائر غير مسبوقة، وهذا ما شهدناه في معامل النسيج ومصفاة حمص وغيرها من الجهات. وهذا إنما يدل على أن النهج المتبع لدى تلك الجهات التي لم تجد مهرباً من تنفيذ القرار إلا بهذه القرارات الضاغطة، التي ستؤدي بالضرورة للاستقالات الجماعية تحت عناوين عديدة أهمها التعجيز. وليس مستغرباً ما تداوله الموظفون المتضررون الذين وضحوا بأنهم حين اعترضوا على الإجراءات الممارسة بحقهم جاءهم جواب واحد: «إذا مو عاجبك استقيل».
شماعة لا غير
يبرر بعض المسؤولين قراراتهم بأنها نوع من إعادة التنظيم والهيكلة وتوزيع الملاكات بما يتناسب مع المصلحة العامة، وبأن زمن الفوضى انتهى، وأن التدقيق الإداري والتنظيم العالي لإدارة الموارد البشرية مستمر، وبأن الموظفين «ما بينعطوا وش»، وبأنهم متسيبون ومعتادون على الإجازات غير المستحقة والتسيب الإداري بالدوام وغيرها من الأمراض الإدارية التي لا يجوز إنكارها بحال من الأحوال. لكن تعميمها على الجميع وجعلها شماعة أي قرار غير موضوعي ومنطقي وعملي هو ذريعة لا أكثر، لأن نقل عامل لموقع يبعد عن مسكنه أكثر من 60 كم وعدم تأمين مواصلات له بذريعة ضغط النفقات لا يقبله عقل ولا عاقل. فأجور المواصلات (بعد إنهاء الدعم على المحروقات) ستتجاوز راتبه المقطوع الذي بالكاد يؤمن له ثمن الخبز الذي رفعوا عنه الدعم الحكومي وأصبح سلعة ليس بالسهل شراؤها. ومن الطبيعي أن تشهد الإجراءات مثل هذه الحملة الكبيرة من الاعتراضات، لحد الاتهام المؤكد بأن المقصود أصلاً من كل ذلك أن يقدم العمال استقالاتهم طوعاً (قسراً) كون القانون ما زال قادراً على حمايتهم وحماية حقوقهم لحد ما. ووفق المتابعات، فإن هذه الاستقالات ستشهد ارتفاعاً متسارعاً مع القادم من الأيام والأسابيع إذا ما بقيت الجهة المصدرة لقرار إنهاء الإجازات لم تتدخل بشكل مباشر ووضعت حلولاً جذرية لهذا الملف، الذي كلما حاولت السلطات الحالية حله تزيده تعقيداً ويعود بالسوء على القطاع العام والعمال معاً. وكان من الممكن تفادي كل ذلك نسبياً لو تم إصدار الإجراءات التنفيذية للقرار ملزماً للجميع.
لا استخفاف بقطع الأرزاق
إن تعامل بعض الجهات الحكومية مع موظفيها بهذا القدر من الاستغفال والتعالي يبعد كل البعد عن الدور المناط بتلك الجهات، وإن غياب تقديرها لنتائج سلوكها وعلى رأسها انقطاع أرزاق هؤلاء السوريين يجعلها مسؤولة عن كل تلك النتائج الحالية واللاحقة. وكل ذلك الأثاث الفاخر الذي يفرشون به مكاتبهم «المنقولة» الجديدة، وسياراتهم الفارهة، وبدلاتهم الأوروبية، لم تسقط أثمانها من السماء، بل هي من الأموال العامة التي ما كانت لتكون لولا كدُّ يمين هؤلاء المستبعدين من وظائفهم وسائر العمال والكادحين والمنتجين والفلاحين. فكيف تتغير معايير هؤلاء المعنيين ويُلوى عنق القوانين على أهوائهم بعيداً عن مسؤولياتهم كجهات حكومية لا يقتصر دورها على ممارسة دور رب العمل ونقطة من آخر السطر، بل هناك دور رعوي أبوي اجتماعي هو أساس الدور وجوهره. وأما الحديث عن النفقات والترهل الإداري والفساد وغيرها فمعالجتها ليس بالأمر الشديد الصعوبة على أن تكون ضمن معايير قانونية وحقوقية وإدارية صحيحة تضمن العدل وتقي من الارتجال والتعالي والظلم.
ارتدادات بجميع الاتجاهات
إن ما نشهده من تداعيات تفصيلية في هذا المعمل أو تلك المديرية، وفيما يتعلق بعمال العقود أو الإجازات وغيرها، ليست سوى نتائج حتمية الحدوث نتجت عن المرحلة الأولى من القرارات المجحفة التي طالت مئات الآلاف من الموظفين والعمال في القطاع العام. وكل نتيجة في سلسلة النتائج أصبحت سبباً لأزمة جديدة لن تنتهي كما يظن البعض. فالقرارات التي صدرت نوعاً وكماً أحدثت زلزالاً اجتماعياً بالمجتمع السوري، نظراً لضخامة جهاز الدولة من جهة، ولعدد العاملين الذين أصابتهم القرارات من جهة أخرى، وضف عليها ما يشبهها في القطاعات الأخرى غير المدنية، واجتماعهما رفع من قوة الزلزال، وبالتالي من شدة ارتداداتها التي ما زلنا نشهدها ولا مؤشر لتوقفها في القريب العاجل، كون منطق المسؤولين استيعابها وامتصاص قواها لا التراجع عنها وإعادة دراستها ووضع معايير منطقية لها. وإن كان الهدف كما قيل في البداية إعادة الهيكلة والإصلاح والبناء والتخلص من الترهل والفساد وغيرها، فقد كان من الممكن المؤكد الوصول لها إن دُرست ووُضعت أسس حقيقية للوصول لتلك الأهداف دون خسائر، بل جل ما سوف نخسره ذلك الفساد المعشش في قطاع الدولة، وما أجملها من خسارة.
ربما من المفيد تذكير المنظمة النقابية بكل هيئاتها وأفرادها بالعمل على هذا الملف جملة لا تفصيلاً، والتوقف عن التعاطي مع القضية بتفصيلاتها التي إن أثمرت عن نتائج ما، فإنها ستواجه ضعفها قبل أن تفرح بها. فأدرى الجميع بأن القصة تكمن في كل القرارات وبدايتها، هي النقابات نفسها كونها الأقرب لواقع العمال، كيف لا وهم منهم. فهل تستنهض نقاباتنا قواها وتواجه الأسباب بدل النتائج وتكون من المفلحين؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1245