مئة عام على ولادة النقابات
قبل مئة عام من اليوم ظهرت أوَّلُ نقابة عمّالية في سوريّة، لتدشّن بداية انفصال العمّال عن أرباب العمل في الجانب التنظيمي منه، ولتبدأ معه ولادة الحركة النقابية السورية، التي مرّت بالعديد من الأطوار المرتبطة بالتغيرات التي شهدتها المنطقة عموماً وسورية بحدودها السياسية الحالية خصوصاً. ولم يكن ظهور نقابة عمّال التريكو الوطنية بدمشق في 1925 آتياً من فراغ، بل نتيجةَ محاولات كثيرة سابقة وغير منقطعة عن بعضها البعض، منذ إعلان استقلال سورية في آذار 1918.
ففي ذلك العهد أثمرت المحاولات الأولى عن تشكيل نقابةٍ في حلب عام 1919، عرفت باسم رابطة عمّال الأحذية، التي ضمّت أكثر من 70 عاملاً، ولم يتم الاعتراف الشرعي بها. فأرباب الأعمال اكتشفوا أمرها وبادروا بالهجوم عليها بكلّ الطرق، وصولاً إلى الاشتباك معهم بالعراك بالأيادي والخناجر أيضاً. ولكن ذلك التناقض بين الرابطة وأرباب العمل بدأ بالتلاشي بعد أشهر قليلة، لأنّ الفرنسيين احتلوا البلاد بأسرها، وأصبح النضال العام ضدّ الفرنسين موحِّداً لكلّ القوى الوطنية المتناقضة طبقياً في معركة المقاومة ثم الاستقلال.
بعد ثلاث سنوات من تأسيس أوّل نقابة، تمَّ تأسيس نقابة عمّال المطابع في دمشق، منذ عام 1928، والتي كانت أكثر نضوجاً بالمعنى الطبقي. وخاضت تلك النقابة وقادت العديد من الإضرابات ضدّ أصحاب المطابع، ليتْبَعَ ذلك ظهورُ نقابة عمّال الصّرافة. ومع دخول المكننة الآلية واتساع المصانع، وخاصة مصانع النسيج، اتّسع حجمُ العمالة الصناعية وتشكّلت تجمّعات عمالية وازنة، وضعت بداية تضامنٍ عمّالي، انعكس كمّاً ونوعاً على الحركة العمالية، فارتقت على سلّم التحصيل العلمي والدراسي، الذي أصبح ضرورة لمواكبة المكننة الآلية وخطوط الإنتاج الكبرى، فأكسب بدوره بعض العمّال حدّاً أدنى من الوعي والتقدم الاجتماعي، رغم أنه لم يكن كافياً بعد لتمكينهم من قيادة الحركة العمالية بالكامل. لذلك لم تستطع الحركة العمالية آنذاك تطوير نفسها من قوة منفعلة إلى قوة فاعلة بها ولها، وذلك بسبب تبعثر قواها وتبعية كلّ طرفٍ لزعامة معيَّنة من الزعامات التي كانت تقود تلك الحركات. إلّا أنّ ملامح الشخصية النقابية أخذت تتكوّن لتحلَّ محلَّ الشخصيةِ الحرفيّة، وبدأت التجمّعات العمّالية تكتسب شيئاً فشيئاً واقعاً جديداً بمضمونٍ متقدِّمٍ نسبياً.
من الطبقي إلى الوطني
في الربع الأول من القرن العشرين تميَّزت الحركة العمالية بنشاطها المعادي لأرباب العمل من أصحاب الاستثمارات الأجنبية والشركات الرأسمالية ذات الأغلبية الأجنبية، والقلّة الأخرى من الرأسمال الوطني التابعين لهم والمرتبطين بمشاريعهم ورساميلهم الأجنبية. وهذا ما عزّز ارتباط الحركة العمالية بالحركة الوطنية التحرّرية، فقامت بدورها كقوة محرِّكة للنّضال الرامي لتخليص البلاد من الاستغلال والتحرر الاقتصادي الوطني. غير أنّ بطء التصنيع الجاري أبقاها مبعثرة في تكوينها وبنيتها ودورها في الحركة الوطنية، لأنها انغمست بصراعها الطبقي الاقتصادي المباشَر، مدافعةً عن مصالحها الطبقية والمعيشية، مما جعل دورها في الحياة السياسية قليل التأثير إلى حين، لأنّ استمرار وحدة هذا الصراع الدائر أكسبَها وعياً متنامياً وطنياً كارهاً للفرنسيين، فارتفع مستوى النضال إلى حد القيام بتنظيم الإضرابات الاقتصادية المحمَّلة بمطالب الحرّية والاستقلال، وفي دمج إضراباتها في كثير من الأحيان بالإضرابات السياسية التي كانت تحدث في تلك الفترة استطاعت الحركة العمالية السوريّة أنْ يكون لها دورٌ في المعركة الوطنية ضدَّ الانتداب الفرنسي.
تشير ولادة الحركة العمّالية وتالياً الحركة النقابية، إلى أنّ ترابط الجوانب الثلاثة الأساسية؛ الطبقي المباشَر (الاقتصادي-الاجتماعي)، والسياسي الوطني، والديمقراطي، هو ترابط موضوعي لا يمكن فصله ذاتياً، وهذا ما جعل كل محاولات الفصل المباشر من خصومها تفشل. لذلك تم اللجوء للهيمنة عليها وعلى مواقفها ونضالاتها من أجل إضعافها وإخضاعها لمصالح السلطة لا غير، وبالتالي تفكيك الثلاثية الضامنة بشكل غير مباشر. لذلك وجب على الطبقة العاملة والتنظيم النقابي التحرّر من كلّ أدوات الهيمنة والتسلّط، من خلال إعادة قراءة تاريخ الحركة العمالية والنقابية، وتعلّم الدروس وإيجاد العلاقة بين الثابت والمتغير، لوضع برنامجٍ شاملٍ تستطيع من خلاله مواجهةَ التحديات الكبرى أمامها في قادم الأيام، وممارسة دورها في التحرُّر والتغيير والبناء.
المصادر: الطبقة العاملة السورية وحركتها النقابية – عرض تاريخي وثائقي - إصدار الاتحاد العام لنقابات العمال.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1219