لقمة العيش خط أحمر
ما الذي بقي لموظف القطاع العام وعامله ليدافع عنه غير مكان عمله والأجر الشحيح الذي يقتات منه؟ لماذا يتقاوى المسؤولون عليه وكأنه المسؤول عن انهيار الاقتصاد وشح الخزينة وضياع المال؟ كيف استطاعوا أن يطلقوا رصاصة الرحمة على روحه المختزِنة لآلاف العذابات والقهر والعوز والفقر؟ لماذا تمَّ تجريدُه من أحقّيته بالامتنان لكلِّ ما قدَّمَه في سبيل الحفاظ على منشآت الدولة والشعب؟ أليس هو مَن بذلَ سنواتٍ وسنوات من عمره المليئة بالجهد والعرق مقابل ليرات «لا تسمن ولا تغني من جوع»؟ أليس من المفترض إكرامُه وتعويضه عن كلّ ما ألمَّ به وعاناه؟ أليس قطع الأرزاق كقطع الأعناق بل أشدّ قسوة؟
ألم يكن من العدل بمكان أنْ يتعامل المسؤولون عن هذا الملف برويّة وحكمة ودراية وهم الذين تحمّلوا المسؤولية؟ أليس هؤلاء العمّال ومنشآتهم ومعاملهم مِن مسؤوليتهم وفي أعناقهم؟ فبدل أنْ يوقفوا عملَ المعامل لأنّها مخسَّرة وغير مجدية، فليعيدوا بناءها وتشغيلَها، وسيُدهِشهم العمّالُ بما لديهم من عزيمة ومهارة، وإنْ كان هناكَ مَن لا عملَ له، فليفتحوا جبهاتِ العَمَل في كلّ القطاعات -وكم البلاد في حاجة إلى ذلك- وسيرون ما يمكن لهؤلاء فعله، وإن كان هناك مِن فاسدٍ أو «مفيِّش» أو موظَّف وهميّ، فليدفعوا به للقضاء وسيرون العمّالَ قبلَهم لا وراءهم وهم أوّلُ مَن يطالِب بذلك، وإن كانوا يريدون بذلك تأمين تمويل زيادة الأجور للبعض من البعض الآخَر فبِئسَ الزيادةُ تلك التي تكون لأخٍ على حساب أخيه.
اليوم توحَّدت المطالب وغداً تتوحد السّاحات
شهد الشارع السوري خلال الأسبوعين الأخيرين عشرات الاحتجاجات العمّالية العفوية في مختلف المحافظات، التي شملت مختلف قطاعات العمل، ولا يبدو أنّها ستنحسر قريباً، بل على العكس من ذلك، كون ارتدادات قرارات حكومة تصريف الأعمال على جميع العاملين بأجر ما زالت في بدايتها، وتأثيرُها الكارثي المباشر على حياة مئات آلاف العائلات العمالية يتصاعد طرداً مع مرور الأيام بل الساعات. ورغم زحمة المطالب وطريقة التعبير التي تناولتها جموع الاحتجاجات عبر هتافاتها وشعاراتها وتصريحاتها الإعلامية، إلّا أنّها توحّدتْ على مجموعة من المطالب والأهداف تنمُّ عن حرصٍ ووعيٍ شجاع يرفض العيش الذليل، فتلك الحناجر ما استجدت مساعداتٍ أو صدقات، ولا خَرجت لتسلبَ حقوقَ غيرِها، ولا لتبثَّ الفوضى وتعكِّر الأجواء، بل كلُّ الذي طالبت به الحفاظ على ممتلكات القطاع العام، وعلى وظائفها وأعمالها ولقمة عيشها. فمعامل ومؤسَّسات الدولة وأجور العاملين فيها هما آخِرُ ما تبقى لهم، وبعدها لا يوجد غير الموت والضياع، لذلك توحَّدت المطالبُ على ما يصلح ليكون برنامجَ نضالٍ شاملٍ صاغَه العمّال وصنعوه بوعيهم وعزيمتهم وروحهم الوطنية، وهو الكفيل بتوحيد الساحات وعودة الحقوق لأصحابها. ومضمون هذا البرنامج تحت عنوان «لقمة العيش خط أحمر» هو الآتي:
أولاً- رفض أيّ نوعٍ من أنواع الخصخصة، فالقطاع العام بمنشآته ومعامله وأملاكه ملكيّة عامة للشعب وضمناً الطبقة العاملة.
ثانياً- تشغيل جميع منشآت القطاع العام وخاصة الإنتاجية منها، وفتح جبهات عمل جديدة في كل القطاعات ورفدها بالعاملين المُعطَّلين.
ثالثاً- رفض تسريح أو فصل أيّ عامل أو موظَّف إلّا بحكمٍ قضائيّ مستنِد إلى جُرم أو مخالفة أو فساد حصراً، وبمشاركة ممثلٍ حقوقيّ عن التنظيم النقابي.
رابعاً- تثبيت جميع موظَّفي العقود السنوية والمياومين والفاتورة، ومَن في حكمهم، الذين رفض النظام الفاسد البائد تثبيتهم.
خامساً- زيادة أجور حقيقة تشمل جميع العاملين والمتقاعدين ومَن في حكمهم.
سادساً- تعويض جميعُ العاملين عن الزيادات التي حصلت في كلفة المعيشة، وخاصة المواصلات والمحروقات والخبز.
سابعاً- الضمانُ والتأمين الصحّي حقٌّ أساسيٌّ من حقوق الطبقة العاملة لا يجوز المساسُ به.
ثامناً- منظَّمة نقابات العمال ملكٌ لعمّالها ولهم الحقّ بتقرير مصيرها والحفاظ عليها وعلى وحدتها واستقلاليتها.
تصلح البنود السابقة بأنْ تكون نواة وجوهر المطالبات العمالية المعبّرة بالضرورة عن سائر العاملين بأجر والكادحين، ومن المنطقي لاحقاً توسيعُها لتشمل عمّال القطاع الخاص الذين يعانون في هذه الأيام من تهديدات كبيرة، كون آلاف المنشآت الإنتاجية تتوقف عن العمل، بالتالي فإنها حكماً تفرض على العمّال بطالةً من نوع خاص جداً؛ فإيجاد عمل في ظل الواقع الاقتصادي الحالي والانهيارات الكبرى بالقطاع الإنتاجي والخدمي يجعل الحصول على عمل أشبه بالمعجزة، خاصة إنْ رَصَدْنا حجمَ العرض والطلب على الأيدي العاملة، التي تميل كفته لصالح العرض بهامش كبير، وهذا ما يهدّد حياتهم المعيشية بالكامل ويضعف قدرتهم على تحمل مسؤولياتهم الاجتماعية بالكامل.
«السوبر مان» شخصية خيالية والحكومة الانتقالية الجامعة ضرورة واقعية
إذا أردنا أنْ نكونَ موضوعيّين وننطق بالحق، لا بد لنا أن نعترف بصعوبة المرحلة وضخامة الملفات وتعقيدها. وإنّه لَحِملٌ ثقيل يصعب على جهةٍ واحدة حمله وايجاد الحلول الجدّية له، خاصة أنّ مهمّة الحكومة الحالية هي تصريف الأعمال والمرور إلى مرحلة انتقالية تتكاتف بها العقول قبل الأيادي، وإنّ مِن الخطأ للقائمين على الأمر اليوم إقحام أنفسهم بملفات ذات طابع استراتيجي معني باقتصاد الدولة من جهة وبمصير ملايين السوريين المعتمدين على الأجور من جهة أخرى. وهذا ما جعل لقراراتهم المتسرّعة ذلك المنعكسَ السلبيّ، فتحرَّكَ الشارعُ العمّالي بهذا الشكل، وإنّ عينَ الصواب اليوم التراجعُ عن جملة القرارات المجحفة، ريثما تتشكّل حكومةُ وحدةٍ وطنيّة انتقالية جامعة، تتطابق مع ماهية الطبقة العاملة وشكلها، حينها فقط يفرض المنطقُ نفسَه وتعتدل الكفّتان و«تَنفُذُ البلدُ بأهلها وناسها» مِن خطر لا يعلمه إلّا الله.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1210