عفواً أيها «المسؤولون» قطاعنا العام ليس للبيع
لطالما كان العمال العائق الأكبر خلال العقود الماضية أمام المحاولات المستمرة للإجهاز على القطاع العام من قبل عرَّابي الخَصخصة والتشاركية، أعوان صندوق النقد الدولي وأتباعه الأوفياء. فالعمّال بحرصهم الشديد على القطاع العام المدعوم بمواقف الأغلبية الساحقة من الشعب السوري يعون تماماً خطورة النتائج المترتبة على وضع الاقتصاد ورقاب العباد تحت سكين رأس المال المتعطّش للربح الفاحش ولا شيء سواه، والمرتبط مشيميّاً بماكينات النهب الغربي. ولم تنجح كل محاولات وضع «كريمة البندق» على السُّم في تغيير خاصيّته وتأثيره القاتل.
شهدت المحاولات المباشرة للقضاء على القطاع العام مقاومةً شديدة، جعلت أصحاب القرار ينتقلون للمواجهة غير المباشرة من خلال المقولة المشهورة «دعه يموت». ولأجل هذا بدأت خطة قطع إمدادات الحياة عن القطاع العام بمختلف القطاعات، وخاصة الإنتاجية والسيادية، وأوّل تلك الإجراءات طالَ الملاكَ العددي للأيدي العاملة؛ حيث توقَّفَ ترميمُ الملاك العددي المتناقص تدريجياً بفعل التقاعد، وتراجع قيمة الأجور، وزيادة عمليات النهب، أضف إليه النزف اللاحق بفعل طلبات الاحتياط الإلزامي وارتفاع نسبة الهجرة، وبالتوازي تم إيقاف أيّ تجديد أو توسيع بخطوط الإنتاج، وتمَّ منعُ دخول القطاع العام ركبَ التكنولوجيا الحديثة، فأصبحت خطوط الإنتاج والوسائل الخدمية متخلّفة وصَدِئة، لتتوقف لاحقاً وتنخفض الإنتاجية والعائديّة إلى مستويات متدنيّة، وتخرج المنتجات والخدمات من المنافسة السوقيّة. ونَخَرَ الفسادُ الصغير والمتوسّط عظامَ المعامل والمؤسَّسات والمديريات جهاراً نهاراً، وبإشراف وتوجيه الفساد الكبير الممسك بمفاصل جهاز الدولة والمجتمع، الذي كان له حصّة الأسد من كلّ هذه العمليات. وبهذه العوامل الأساسية الثلاثة فُرِضَ التَّخسير على القطاع العام، وبدأت «كوانة» فائض العمالة والقطاعات الخاسرة والعبء على الاقتصاد وغيرها من الذّرائع التي لمْ تنطلِ، ولنْ تنطليَ، على الناس وأوّلهم العمّال.
هاتوا أموالَ الفساد لنبني قطاعنا العام
لا يمكنُ إنكار انتصار هذا الهجوم الممنهَج على القطاع العام وتحقيقه لمعظم أهدافه الخبيثة، وكان من الممكن أن يكون انتصاراً كاسحاً ومكتملاً لولا وعيُ العمّال ومقاومتُهم الشّديدة، وإصرارهم على التمسك بما هو ملكٌ لهم وللشعب السوري، وكم سمعنا من حَمدٍ وشكرٍ على سقوط سلطة النظام السابق قبل أن تتمّ السلطة الساقطة مهمّتها بالإجهاز على ما تبقّى مِن ملكية عامّة، والتي ورغم كلّ مساوئها الكبرى كانت وما زالت صمامَ الأمان الأساس للطبقات الضعيفة والمفقَرة قبل الأزمة وخلالها، فالمدارس والجامعات والمشافي والمستوصفات والسدود ومصافي النفط ومحطّات الكهرباء ومديريات النظافة والاتصالات العامّة، وعشرات المعامل والمنشآت والحدائق العامة...إلخ، مصابةٌ بمرضٍ شديد ومَديد، لكنّها لم تمتْ بعد، وليس مسموحاً أنْ تُترك لمَوتِها، بل على العكس من ذلك يجب صبُّ كلّ الطاقات لإنقاذها، بإزالة أسباب مرضها، لاستعادة عافيتها وتنشيط دورها بالحياة الاقتصادية والاجتماعية. فما الذي يمنع أن ننكبَّ على إصلاح قطاعنا العام وإعادة بنائه وتوسيعه، ورفع قدراته للحدود القصوى، ورفده بمئات آلاف العمّال والموظَّفين بدلَ أنْ يُسلَبوا لصالح رأس المال الاستثماري، ويراكِمَ ثرواتِه من خلالهم. ألسنا أحقَّ بهم منهم وهم أحقّ بنا؟ وطبعاً سيخرج علينا مَن يقول «ومِن أين نأتي بالأموال اللازمة لذلك ونحن لا نملك ليرة واحدة؟». إنَّ المال موجودٌ إذا ما أردنا أنْ نراه، بل مكنوزٌ بالأطنان عند الفساد الكبير بحساباته واستثماراته وأصوله وأرصدته في البنوك المحلّية والعربية والدولية. أضف على ذلك مئات الاستثمارات السيادية والاستثمارية التي تمّ التخلّي عنها لصالح المتنفّذين السابقين، وهي ليست خفيّة عن الأعين، والتي لا تحتاج لمعاملةَ «طابو» كي يتم استردادُها. وحجمُ كلّ ذلك كفيل بإعادة بناء القطاع العام بالكامل، بل وتحويله للحامل الأساسي لكامل الاقتصاد الوطني المنشود.
«مين جرَّب المجرَّب كان عقلُه مخرَّب»
إنّ قوّة أيّ اقتصادٍ مستمَّدةٌ من قوّة قطاعه العام بشكل أساسي. والخصخصة ما هي إلّا قرارٌ رَجعِيٌّ بامتياز، حيث نرى بأنّ الدول التي اخترعَت الليبرالية والنيوليبرالية تعمل على رفعِ دور الدولة بالاقتصاد منذ سنوات، وها نحن الآن نُسوِّق للخصخصة بل ونمضي بتنفيذها بعلم أو غير علم! مضحّين بآخرِ فرص نجاتنا، والمضي به هو استكمال لما عجزت السلطة السابقة عن إنجازه، وعليه فإنّ الإصرارَ على المضيّ في هذا الطريق الخطير ما هو إلّا تدميرٌ شاملٌ للقوى المنتِجة، وبالتالي للمجتمَع بأسرِه، ممّا يعيدنا للمربَّع الأوّل، الذي يُعتَبَر جذرَ الأزمة السورية وأساس انفجارها؛ حيث تراكُم الاستياء والاحتقان لعقود من الفقر، ومصادرةُ الحقوق، أثقلَ كاهل الأغلبية الفقيرة والشغِّيلة من الشعب وسلبهم الحدَّ الأدنى من المعيشة والاحتياجات الخدمية، وصنع الظرف الموضوعي الكفيل بالانفجار. فأيُّ نهجٍ اقتصاديٍّ لا يُبنى على مصالح الطبقات الأضعف سيحطّم هذه الطبقات ويحوّلها لقنبلةٍ اجتماعية شديدة الانفجار، وهذا ما لا تحتاجُه البلاد أصلاً ولا يجب المضيّ به، وبالتّالي لا يجبُ التفريطُ بالقطّاع العام الضامن الأهمّ لحصول الطبقات الضعيفة على حقوقهم العادلة، ومهما حاول أصحاب القرار تزيين الخصخصة أو تبريرَها بذرائع من هنا وهناك، فلن يجدوا من يناصرهم في الخصخصة أو يقبل بها، فقطاعنا العام بمعامِلِه ومنشآته ومؤسَّساته ليسوا للبيع و«مين جرَّب المجرَّب كان عقلُه مخرَّب».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1209