عودة الكفاءات المهنية أزمة أم فرصة؟
لطالما تمّ الحديث الرسمي عن خطورة ظاهرة هجرة القوى العاملة والكفاءات المهنية والفنية، بحثاً منهم عن حياة أفضل نتيجةً للحرب التي ضربت البلاد طوال السنوات السابقة، والتأثيرات السلبية والكارثية لهذه الظاهرة على الاقتصاد الوطني، دون أي إشارة إلى كيفية معالجة هذه الظاهرة أو الحد من خطورتها عبر الوقوف عند أسبابها الأساسية والاقتصادية تحديداً، خاصة في ظل السنوات القليلة السابقة للأزمة التي اتسمت بأزمة اقتصادية نتيجة السياسات المتبعة ومحاربة السوريين بلقمة عيشهم.
ولكن ظرفاً قاسياً كالعدوان «الإسرائيلي» على لبنان، أجبر الكثير من السوريين على العودة إلى وطنهم، حيث بلغ عدد السوريين العائدين منذ 23/9/2024 وحتى منتصف شهر تشرين الأول الماضي نحو 255 ألفاً، وفق آخر إحصاء للمكتب التنفيذي لمحافظة دمشق. ومع عودتهم القسريّة بدأ الحديث عن المشاكل التي سترافقهم وخاصة على المستوى المعيشي، سواء من ناحية ارتفاع الأسعار، أو تعمق أزمة البطالة المتعمقة أساساً، خاصة وأن نسبة العاملين تقدر بنحو 20% من إجمالي العائدين، أي أن نحو 51 ألف عامل سوري خسرتهم البلاد سابقاً واليوم يعودون إليها، ولكن هل من مستجيب؟
لا شك أن عودة هذا الكم من العمالة – التي خسرناها سابقاً – يشكل فرصة ذهبية للقيام بإجراءات من شأنها أن تشجع ليس على بقائهم في الوطن وعدم الهجرة مرة أخرى وحسْب، وإنما على تشجيع السوريين في مختلف البلدان على العودة أيضاً، وبالتالي البدء الفعلي بحل مشكلة الهجرة، ونزيف القوى العاملة والخبرات، من جذورها.
ولكن هذا الأمر بحاجة الى إجراءات وطنية وعملية وسريعة وتتصف بالشمولية على مستوى البلد، لأنّ كل المؤشرات والمعطيات الحالية بدءاً من سياسات الأجور «شديدة التدني»، مروراً بمستويات البطالة المرتفعة، وليس انتهاءً بمسار الأسعار المتجه نحو الارتفاع بشكل صاروخي وجنوني، لا تساعد الموجودين في سورية على البقاء، حتى تُشَجِّعَ العائدين على ذلك.
والواضح أنه في ظل التعنّت والتشدّد في الاستمرار بالسياسات المفقِرَة أكثر للفقراء، فإنّ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية متجهةٌ من سيِّئٍ إلى أسوأ، وبالتالي فإن العائدين لا يوجد ما يشجّعهم على البقاء في وطنهم، بل العكس؛ سينتظرون إلى أن تُتاحَ أمامهم الفرصة ويهربوا إلى بلاد أكثر أماناً بالمعنى الاقتصادي والمعيشي والأمني، وكما هو معلوم فإن العائلات السورية باتت تعتمد بشكل أساسي في سبيل تأمينها متطلباتها المعيشية على التحويلات المالية الخارجية التي يرسلها ذووهم، بدلاً من أن تستفيد البلد من هذه الخبرات والإمكانيات في تعزيز العملية الإنتاجية والنهوض بالاقتصاد الوطني. والذين هم غير قادرين على السفر والهجرة مرة أخرى، سيلجؤون وأيضاً قسراً وتحت وطأة العوز، إلى خيارات غير مجدية لا على الصعيد الفردي بالنسبة لهم، ولا على الصعيد الوطني بالاستفادة من خبراتهم، كالعمل على البسطات، أو اللجوء إلى التجارة بالمواد المهرَّبة وما يتبعه من خطورة، أو أن يصبحوا جزءاً من شبكات الفساد التي تتاجر بالمحروقات في السوق السوداء وغيرها الكثير من الخيارات غير المجدية.
استغلال الفرصة سهل، ولكنه بحاجة إلى إرادة وطنية
إذا كانت الحكومة تعترف بوجود ظاهرة الهجرة ونزيف الاقتصاد الوطني من الخبرات والإمكانيات، وتعترف بأن انعكاسات هذه الظاهرة كارثية وخطيرة على الوضع الاقتصادي في البلاد، فلا بد لها من أن تعترف بوجوب اتخاذ الإجراءات الفعلية والعملية التي تساعد على الحد من هذه الظاهرة، وها هي الفرصة سنحت أمامها لاستيعاب العائدين من لبنان، ولا بدّ من اتخاذ بعض الخطوات المُجدِية في ضوء ذلك، ومنها أوّلاً تحسين سياسات الأجور، ودعم الصناعيين والمهنيين بالشكل الذي يجعلهم قادرين على الاستمرار بأعمالهم وتوسيعها، وبالتالي احتياجهم إلى المزيد من العاملين، وعليه فإنّ هذا يؤدي إلى إصلاح الخلل المشوَّه في توازن العرض والطلب على القوة العاملة. وأخيراً فإن ذلك سيساعد على تنشيط العملية الاقتصادية بالشكل الضروري والمطلوب بما يساعد على استيعاب المزيد من العاملين العائدين أو العاطلين عن العمل أساساً، إضافة إلى أنه يؤدي إلى تقليل اعتماد الاستهلاك المحلّي على التحويلات المالية الخارجية، واللجوء بدلاً منها إلى تعزيز ودعم العملية الإنتاجية والاقتصادية ونهوضها كما هو مفترض وضروري.
وبالتالي فإن القيام بهذه الإجراءات التي تعتبر جزءاً من مهام المعنيّين ومسؤولياتهم بل حتى أنها استحقاقٌ تاريخيٌّ يقع على عاتقهم تجاه سورية وعموم السوريين، بحاجة إلى إرادة وقرار وطنيَّين، خاصة وأنّ بقاء الوضع على حاله، والاستمرار بتعميق الأزمات، من شأنه أن يساعد كما ذكرنا سابقاً على المزيد والمزيد من الهجرة والنزف الذي يضرب الاقتصاد الوطني في مقتل. وبما أن كل ذلك لا يصبّ في مصلحة سورية عموماً وأبناء الطبقة العاملة والمهنيين والحرفيين ضمناً، فإنه دون أدنى شك يوجد مَن هو مستفيد من كلّ هذا التردي والسوء والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، ومِن مصلحتهم تعميقه أكثر وأكثر، وهذه الجهة المستفيدة هم أصحاب المال، أو القلة القليلة المتنفذة والمتحكمة بشؤون البلاد والعباد، ومن ذوي المصالح الخاصة والضيّقة، والتي دائماً ما تنحاز لهم كلُّ الإجراءات والقرارات التي تتخذها الحكومة والمعنيّون، على حساب أكثر من 90% من السوريين وبالتالي على حساب مصلحة سورية بكاملها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1199