صحّة العمّال المهنية والتجربة الألمانيّة الشرقيّة
في ألمانيا الشرقية، حظيت صحة العمال بأهمية كبيرة منذ البداية، ولهذا من المهم أن نأخذ أبرز ما جاء في هذه التجربة. في عام 1947، أثناء الفترة التي كانت فيها ألمانيا لا تزال تحت سيطرة القوى الحليفة الأربع، أصدرت الإدارة العسكرية السوفييتية الأمر رقم 234، الذي نصّ على أنّ أماكن العمل التي تضم أكثر من 200 موظف عليها أن تُنشئ مراكز طبية، في حين كان على أماكن العمل التي تضم أكثر من 5000 موظف أن تخصص منشأة للعيادات الخارجيّة متعدّدة التخصّصات. وفي غضون ثلاث سنوات، تم إنشاء 36 منشأة عيادات متعددة التخصصات، وبلغ عددها بحلول عام 1989 أكثر من 150 منشأة.
ترجمة: قاسيون
وكانت أماكن العمل نفسها مسؤولة عن صيانة الغرف والمفروشات وتكاليف تشغيل هذه المرافق الصحية، بينما كان نظام الصحة الحكومي يوفّر ويشرف على الموظفين والمعدات الطبية. تمثّل هذه النقطة نقيضاً هامّاً لنظام الرعاية الصحية المهنية المُقدَّم من بعض الشركات الخاصة اليوم: في جمهورية ألمانيا الديمقراطية «ألمانيا الشرقيّة»، كان المهنيون الطبيون المشرفون على الصحة والسلامة المهنية يعملون لدى نظام الصحة العامة الحكومي، وليس لدى الشركة التي يعملون فيها. وعلى هذا النحو، كانت مصالح العمال، وليس أصحاب العمل، هي التي وجّهت قراراتهم الطبية.
في الدستور الأول لجمهورية ألمانيا الديمقراطية الشعبية في عام 1949، تمّ وضع الحماية القانونية لصحّة العمال جنباً إلى جنب مع نظام التأمين الاجتماعي الشامل. وفي الدساتير اللاحقة في عامي 1968 و1974، تم توسيع هذه الحماية، وأشرف العمال أنفسهم على تنفيذها: تم تكليف «اتحاد النقابات العمالية الألمانية الأحرار»، الموجود في جميع الشركات والمؤسسات في جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشعبية، بمراقبة إنفاذ الأحكام القانونية والإبلاغ عن آثارها. بموجب القانون، كان مكان العمل يمثّل أكثر من مجرّد مصدر للدخل. فقد وفّرت المؤسسات الإطار الذي يمكن للموظفين من خلاله متابعة الاهتمامات الثقافية والفكرية إلى جانب الأنشطة الترفيهية. وتمّ تشجيع فرق العمال على حضور الأحداث الثقافية والرياضية، ومناقشة التطورات السياسية، وزيارة المُخيَّمات الترفيهيّة التي تديرها المؤسسات. على سبيل المثال، احتوى قانون العمل في جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشعبية لعام 1977 على بنود لحماية وتعزيز الصحة البدنية والعقلية للموظفين. ويوضح هذا التشريع كذلك أن مصالح العمال تحدد اتجاه الاقتصاد.
كما هو الحال مع قطاع العيادات الخارجية، تمّ توسيع نظام الصحة المهنية تدريجياً. بحلول عام 1989، غطّى 7.5 مليون عامل من 21550 مؤسسة، أو 87.4% من جميع العاملين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وظّفت المؤسسات المخصَّصة لهذا المجال -مثل العيادات الاختصاصيّة والعيادات الخارجية والمراكز الطبية العاملة داخل المؤسسات- نحو 19000 متخصص في الرعاية الصحية. كما تمّ تأسيس الطب المهني كمجال رئيسي للدراسة، حيث كان في العيادات الخارجية طبيبٌ من كلّ سبعة أطباء تقريباً مختصاً في الطب المهني. كان المعهد المركزي للطب المهني يوظف الأطباء والعلماء للبحث في الأمراض المرتبطة بالعمل وتطوير التدابير الوقائية، وتتجلّى الأهمية التي حملها هذا القطاع في جمهورية ألمانيا الديمقراطية في حقيقة أن الجمهورية الاتحادية «ألمانيا الغربيّة» لم يكن لديها سوى نصف عدد المتخصصين في الصحة المهنية مقارنة بألمانيا الشرقية، على الرغم من أن قوّة العمل في ألمانيا الغربية كانت أكبر بثلاث مرات من نظيرتها في الشرقية.
في بعض المهن، تعرّض الموظفون لمواد خطرة و/أو ظروف بدنية شاقة بشكل خاص. شنّ مسؤولو الصحة حملة للحدّ من عدد مثل هذه الوظائف، وأُلزمت الشركات بالإبلاغ عن التدابير التي تتخذها لمكافحة الظروف الضارة. ومع ذلك، في قطاعات معينة من الاقتصاد الألماني الشرقي، مثل الصناعة الثقيلة، كانت عمليات الإنتاج تشكل خطراً غير مسبوق على الصحة العامة.
الضرورات والحدود المسموح بها
بحلول عام 1989، ظلّ نحو 1.69 مليون عامل معرّضين للملوثات الضارة والضغوط مثل الحرارة المفرطة أو الضوضاء أو الاهتزازات. وللحدّ من الإصابات التي غالباً ما تنتج عن مثل هذه الوظائف، قدّمت إدارة الصحة المهنية رعاية خاصة/مُصمَّمة للعمال المعرضين للخطر. من بين 7.5 مليون عامل خضعوا للمراقبة بموجب نظام الصحة المهنية في عام 1989، تلقّى نحو 3.34 مليون عامل رعاية مصمّمة وفقاً للظروف المحددة التي عملوا فيها. على سبيل المثال، أُجريت اختبارات سمع منتظمة لأولئك الذين يعملون في البناء، في حين أُجريت فحوصات رئة منتظمة لأولئك الذين يعملون في المصانع الكيميائية. إلى جانب هذه التدابير، قامت مفتّشيات الصحة المهنية المتخصصة بمراقبة امتثال الشركات لمعايير السلامة ووضع حدود للمواد الضارة أو ضغوط العمل المسموح بها.
كان مجال الصحة المهنية مهمّاً بشكل خاص في سياق الحظر التجاري الذي فرضته جمهورية ألمانيا الاتحادية (الغربية)، والذي دفع ألمانيا الشرقية إلى الاعتماد بشكل كبير على مصدر الطاقة الوحيد المتاح بسهولة في ألمانيا الشرقية: الفحم البنّي، وهو مادة تعتمد على مادة «الليجنيت» وتنبعث منها كميات كبيرة من التلوث عند حرقها. أدت هذه الضرورة الاقتصادية، إلى جانب النقص في التحديث التقني في بعض الشركات، إلى السماح بإعفاءات خاصة فيما يتعلق بالتعرّضات الضارة في بعض أماكن العمل. وبالتالي أصبحت الصحة والسلامة المهنية مجالًا مثيراً للجدال حيث ناقش المسؤولون الأولويات التي يجب تحديدها. وقد أدرك لودفيغ ميكلينغر، وزير الصحة في ألمانيا الشرقية من عام 1971 إلى 1989، هذه المعضلة، مشيراً إلى أن السياسات الصحيّة مقيدة حتماً بالضرورات الاقتصادية والعوامل الخارجية.
اهتمام الاشتراكية بالصحة النفسية للعمّال
كان الإجهاد العقلي المرتبط بالعمل قضيّة رئيسيّة أخرى في ألمانيا الشرقية، وأصبح محور اهتمام مجال علم النفس المهني. وهنا توصل الباحث وينفريد هاكر إلى نتائج مهمة، حيث ركّز بحثه على التنظيم النفسي لنشاط العمل في سياق المجتمع الاشتراكي، حيث يتطلب إشباع احتياجات الناس بشكل أكبر زيادة إنتاجية العمل. وفقاً لهاكر، يجب تصميم العمل بطريقة لا تحافظ على صحة العمال الجسدية فحسب، بل تعزز أيضاً نموّهم النفسي: فالعمل المملّ والمنفصل عن واقع العمال المعيشي سيؤدي إلى الاغتراب، في حين يجب أن تكون العلاقة الصحية مع العمل متعددة الأبعاد، وتسمح للعمّال بتطوير أنفسهم ومنتجات عملهم في الوقت نفسه.
لاستكشاف هذه الأفكار، طور هاكر وفريقه من الباحثين أساليب لتحديد الخصائص الموضوعية في مكان العمل التي أثرت بشكل إيجابي على الصحة والنمو النفسي وقياس مدى تأثيرها على الإدراكات الذاتية. وعلى الرغم من أنّ مقترحات هاكر لم يتمّ تنفيذها على نطاق واسع، إلا أنّ بحثه وضع المعيار في علم النفس المهني. اختلف عمل هاكر عن المناهج السائدة في علم النفس المهني في ظلّ الرأسمالية، والتي تعطي الأولوية لزيادة كفاءة عمليات العمل بدلاً من تطوير صحة الموظفين وحالتهم العقلية.
اليوم، أدى إضعاف قوة النقابات العمالية وظهور العمالة غير المستقرة إلى تدهور ظروف العمل في معظم الدول الرأسمالية. وفي حين كانت هناك تقدّمات في عمليات الإنتاج نفسها، فإن الأعباء الصحية الجديدة تظهر باستمرار، وخاصة فيما يتعلق بأماكن العمل الرَّقمية، جنباً إلى جنب مع الزراعة والصناعات الغذائية. وعلى هذا النحو، زادت أهمية الصحة المهنية، وتظل تجارب ألمانيا الشرقية في هذا المجال ذات صلة ليس فقط من وجهة نظر طبّية، ولكن أيضاً من خلال إثبات أنه من الممكن اتباع نهج مختلف تماماً لحماية الصحة في مكان العمل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1199