مندوب مبيعات يعطي درساً بالاقتصاد السياسي

مندوب مبيعات يعطي درساً بالاقتصاد السياسي

تختلف طبيعة العمل في وظيفة مندوب المبيعات عن غيرها من الوظائف الفنية والمهنية بشكل جذري، سواء من ناحية وقت العمل، أو من ناحية إنفاق قوة العمل أو من ناحية محدادت تجديد قوة العمل، وعلى الرغم من هذه الاختلافات الجذرية فإنها تلتقي بجوهرها مع مجمل المهن والوظائف الأخرى في أنها إنفاق لقوة العمل والحاجة لتجديد هذه القوة وذلك بصرف النظر عن طبيعة هذا الإنفاق أو حاجات تجديدها.

بناء على طبيعة عمل هذه الوظيفة فإن مندوب المبيعات يعتبر الحلقة الأخيرة من الحلقات التي يتألف منها أي نشاط تجاري أو صناعي، وبالتالي فهو على احتكاك مباشر مع الزبائن وإلخ، إضافة إلى ذلك فإن ساعات العمل في هذه الوظيفة مرتبطة بتحقيق الهدف البيعي المحدد مسبقاً للمندوب، حيث يظل لاهثاً طوال الشهر وعلى مدار السنة– صيفاً متحملاً حرارة الشمس وشتاءً متعرضاً للمطر والبرد القارس– من أجل تأمين معيشته اليومية في أحسن الأحوال. إضافة إلى ذلك فإن طبيعة عمله تحكم عليه التنقل من منطقة إلى أخرى ومن محافظة إلى أخرى، وذلك في ظل انعدام أو ندرة وسائل النقل بشكليها العام والخاص، وبغض النظر عن طبيعة هذه الندرة أو الانعدام، فالوسائل العامة هي فعلياً غير متوفرة بالحد الأدنى المطلوب، والوسائل الخاصة أيضاً تعتبر خياراً غير موجود بسبب ارتفاع تكاليفها وأعبائها المخيفة.
بعد هذا العرض الموجز لطبيعة عمل مندوبي المبيعات في البلد، ننتقل إلى السيد وليد الذي قابلناه في أحد مقاهي دمشق الشعبية في نهاية الشهر الحالي وفي ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار المواد الغذائية بشكل مخيف وتحديداً مع ارتفاع سعر الصرف وتجاوزه عتبة 5600 في السوق السوداء، وبالتالي تزامن اللقاء مع السيد وليد مع مفاوضات جديدة لتحسين راتبه مع إدارته في العمل.
يعمل وليد في معمل لتصنيع الألبسة الجاهزة، علماً أن هذا المعمل يبيع بضاعته بنمط الجملة، وبالتالي فإن المحرك الأساسي لعمليات البيع لهذا النمط من العمل هم مندوبو المبيعات الذين ينتشرون في مجمل المناطق والمدن سعياً منهم إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المبيعات وذلك من أجل مواجهة التكاليف المعيشية المخيفة.
انطلاقاً مما سبق فقد سرد لنا وليد المفاوضات التي خاضها مع مديره العام من أجل زيادة الرواتب المستحقة منذ أكثر من شهرين والملحّة في ظل هذه الظروف الجديدة على حد تعبيره. ويكمل وليد أنه ارتكز في مفاوضاته على عدة نقاط أساسية وهذه النقاط منها ما هو يومي ومنها ما هو أسبوعي أو شهري ونوضحها بالجدول التالي:

 

1099a


قبل توضيح بعض الملاحظات على هذه المتطلبات الموجودة بالجدول السابق لا بد من استنتاج المتطلبات اليومية الإجمالية للسيد وليد – الضرورية لإتمام مهامه – وكما هو موضح فإن إجمالي المتطلبات اليومية تبلغ 32500 ليرة، في حين أن المتطلبات الشهرية تبلغ 425000 ليرة وبإرجاع هذه القيمة الشهرية إلى قيمتها اليومية تصبح 16350 ليرة تقريباً، وبالتالي فإن المتطلبات اليومية تقدر بـ48,850 ليرة يومياً، بما يعادل حوالي 1,270,000 تقريباً.
للوهلة الأولى قد تبدو هذه البيانات، بيانات ذات طابع ترفي، إلا أنها وفي ظل طبيعة عمل السيد وليد فتعتبر من الحاجات الأساسية لما يتناسب مع طبيعة عمله، علماً أنه على احتكاك مباشر مع العملاء والزبائن وبالتالي فإنه يوجد عوامل عديدة يجب أخذها بعين الاعتبار لإتمام مهامه بالشكل المطلوب ومنها (المظهر، الالتزام بالمواعيد، إلخ). ويتقاضى وليد حالياً راتباً شهرياً ثابتاً يقدر بحوالي 200,000 ليرة إضافة إلى نسبة 1% من إجمالي المبيعات التي يحققها وليد، وبالتالي فإن دخله الشهري يتراوح ما بين 450,000 – 550,000 ليرة شهرياً. أي ما يقارب 40% من الاحتياجات الفعلية لاتمام هذا العمل، وذلك بعيداً عن القيمة الفعلية لتجديد قوة العمل الإجمالية التي تتضمن مصاريفَ والتزامات أخرى (الطبابة، المواصلات والاتصالات، الطبابة، التعليم، الغذاء، إلخ) علماً أن السيد وليد هو المعيل الوحيد لأسرته التي تتألف من 4 أفراد وبالتالي فإن الحد الأدنى لمتطلبات هذه العائلة يتخطى عتبة 2,000,000 ليرة سورية أي إن الدخل البالغ 550,000 ليرة الذي يتقاضاه وليد حالياً لا يغطي إلا ما يقارب 27% من التزاماته الثقيلة.
وبناء على ما سبق فاوض السيد وليد إداراته بموضوع الرواتب، ولسوء حظ هذه الإدارة فإن وليد على اطّلاع شبه كامل باجمالي بيانات التكاليف والإيرادات، وإضافة إلى مستلزمات العمل المطلوبة يمتلك حجة إضافية يستطيع الارتكاز عليها في هذا التفاوض.
يقول وليد إنه يدخل حوالي 25,000,000 ليرة شهرياً إيرادات للمعمل لوحده، وعلى حد قوله فإن نسبة الأرباح من هذه الكتلة النقدية تقدر بحوالي 35% - 50% أي إن قيمة الأرباح تقدر بحوالي 8,750,000 – 12,500,000 في حين أن حصته هو من هذه الإيرادات لا تتجاوز 2% بالحد الأعلى بالرغم من أنه مساهم أساسي في تحقيقها. ولكن هذه الإدارة تفهم وتعي تماماً مصادر ربحها، فمن ينهب قوة عمل العمال المهنيين (الخالق الأساسي للقيمة) لن يتردد في سرق ونهب قوة عمل من يضمن تصريف هذه القيم وتحقيق الأرباح الفعلية وتحويلها إلى رأس مال.
ولكن السيد وليد يعطي درساً– بشكل عفوي– لإدارته في الاقتصاد السياسي، يوضح لها أن قوة العمل مثلها مثل أي مورد آخر بحاجة إلى تجديد من أجل أن تكون قادرة على إتمام عملها، بحاجة على الأقل إلى الحد الأدنى من الأدنى من أجل القيام بدورها وتحقيق ذاتها، ولكن على ما يبدو فإن مراكمة المال ورأس المال قد أعمى بصيرة هذه الإدارة عن هذه المعادلة البسيطة التي يطرحها وليد من أجل القيام بعمله على أكمل وجه (أي إنه يتعاطى مع الموضوع من وجهة نظر الإدارة). إن رقم 1,200,000 ليرة كدخل شهري لن توافق عليه أية إدارة مهما كانت وعلى الرغم من أن هذا الرقم الذي يبدو للوهلة الأولى كرقم خيالي، لا يغطي أكثر من 27% من الحد الأدنى للمعيشة. يبدو خيالياً لأنه لا يتناسب إطلاقاً مع منطق العرض والطلب على قوة العمل– الذي خلقته السياسات الليبرالية المتبعة من قبل الحكومة– من خلال تدمير القوى المنتجة ورفع نسب البطالة إلى مستويات تاريخية، كل ذلك من أجل تحقيق الأرباح.
إذا كانت النخب الرأسمالية المتحكمة بشؤون البلاد والعباد تضحي بكل الخدمات والأساسيات الضرورية للمعيشة من (تعليم، كهرباء، مواصلات، ماء، محروقات، إلخ) وبالتالي فإنها تضحّي تقريباً بـ90% من الشعب السوري، مما يؤدي إلى التضحية بسورية ذاتها كل ذلك من أجل مراكمة المزيد والمزيد من الأرباح.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1099
آخر تعديل على الأحد, 04 كانون1/ديسمبر 2022 21:56