عمّال ماكدونالدز مرسيليا يحتلون مطعمهم
كان المطعم التابع لشركة ماكدونالدز الأمريكية متعددة الجنسيات الشهيرة، والواقع في الجادة 14 من مدينة مرسيليا الفرنسية على وشك الإغلاق، عندما حدث ما لم يتوقع أحد حدوثه.
ترجمة: قاسيون
في يوم عطلة أحد، ملأ العمّال أروقة ومطبخ المطعم، عابرين غرف التخزين حيث اللحوم النيئة معلقة من السقف، وصناديق البطاطا مرصوفة إلى جانب الجدار. فوق طاولة المحاسبة كان يوجد إطار مرسوم بداخله شعار ماكدونالدز الشهير «المسمّى بالأقواس الذهبية» على شكل حرف «m». لكن لم يكن أحد من العمّال الموجودين يرتدي زيّ الشركة الرسمي.
في الخارج كانت هناك سيارة تصدر ضجيجاً، اقتربت إلى حيث الشاشات المعتمة التي كانت مليئة بقوائم الطعام من قبل. مدّ الرجل في السيارة رأسه، فقال له أحد المتطوعين من داخل المطعم: «عذراً، لم يعد هذا مطعم ماكدونالدز». ثمّ أشار بيده إلى اللافتة التي كانت معلّقة فوق المطعم والتي كتب عليها: «l’apres M» أو «ما بعد م». تابع المتطوع الكلام قائلاً: «هذا بنك طعام* الآن».
في كانون الأول من 2019، كانت شركة ماكدونالدز على وشك إغلاق المطعم في مرسيليا. لكنّ عمّال المطعم رفضوا قرار الشركة، وهمّوا باحتلال مكان عملهم. ثمّ بعد بضعة أشهر، ومع انتشار فيروس كورونا في أوروبا، تحوّل البناء بشكل غير مخطط له إلى مركز لتوزيع المعونات.
تحوّل المطعم الذي يحتله العمّال، بشكل مخالف للقانون الفرنسي، إلى رمز للهوة الاقتصادية والصدع الاجتماعي الذي عمقه الوباء في فرنسا. كانت آثار الأزمة التي ترافقت مع الوباء ظاهرة بشكل خاص في أكثر المناطق ضعفاً في المدينة، ومن بينها الجادة 14. تجاوزت معدلات الفقر هناك 40% قبل أن حتى يضرب الوباء.
يرى البعض بأنّ الطوابير الطويلة الواقفة قبالة مركز «ما بعد م» هي إشارة تحذير على ما هو قادم في مرسيليا أو غيرها من المدن الفرنسية. لكنّ كثيرين يرون في احتلال المطعم بارقة أمل، ويترقبون ما سيؤول إليه الأمر.
السلطات الرسمية في المدينة، والتي كانت شركة ماكدونالدز تعلّق الآمال على قيامها بالتنديد بما حصل، قامت على العكس من ذلك بالثناء على عمّال المطعم واعتبرتهم نموذجاً يحتذى. السلطات المحلية اليسارية في مرسيليا، فاجأوا الجميع بالإعلان عن نيّتهم دفع المدينة لشراء البناء ومنحه رخصة قانونية ليصبح بنك طعام، حيث ستضمن بذلك عدم إغلاقه من قبل الشرطة.
لكن رغم ذلك، صرّح لورنت لارديت، نائب المحافظ للشؤون الاقتصادية، بأنّ تحركهم هذا لا يعني «دفع الناس للقيام بعمليات الاحتلال غير الشرعية»، ولكنّهم يأملون أن يحفّز الآخرين للقيام بمبادراتهم الخاصة. وتحدّث لارديت عن أنّ المواطنين الفقراء في مرسيليا واجهوا عوائق في الوصول إلى الخدمات العامة منذ عقود، وبأنّ قلّة من يؤمن بأنّهم سيتمكنون من فعل أيّ شيء لوحدهم: «إنّه لأمر كارثيّ لمدينة مثل مرسيليا، وهو أمر كارثيّ بالنسبة لهؤلاء البشر».
وتابع معلقاً على احتلال عمّال ماكدونالدز لمنشأتهم: «الأمر شديد الأهميّة بالنسبة لنا بخصوص هذا المشروع، إنّه ملك للناس الذين ولدوا في هذه المنطقة». علّق وليام كرونبلوم، بروفسور علم الاجتماع في جامعة المدينة في نيويورك، والذي كان يُجري أبحاثاً في مرسيليا: «هذه الحركة شديدة الرمزية بحق، ولن تكون حركة عابرة».
يصطفّ اليوم مئات الأشخاص خارج «ما بعد م» للحصول على أكياس الغذاء المجانيّة. تقول كواردا غاتوتشي، وهي أحد الذين يقدمون المساعدة لعمّال ماكدونالدز منذ احتلالهم مطعمهم، بأنّ مهمّة الفريق بالإضافة إلى أداء العمل هو نشر العدوى الإيجابية بين الذين يحضرون إلى المكان: «يأتون دون ابتسامة، لكنّهم يغادرون وعلى وجوههم واحدة».
علّقت فاطمة من الجوار، والتي اعتبرت بأنّ ما قام به عمّال ماكدونالدز عمل بطولي: «يظنّ المرء بأننا في فرنسا في الطرف الرابح... لكننا نعيش في بؤس».
مركز اجتماعي بفضل العمّال
رغم أنّ الإعلام ينسى عادة هذه الحقيقة، فقد تصاحب وصول عملاق المطاعم ماكدونالدز إلى فرنسا مع تظاهرات عنيفة. لكنّ المطاعم باتت بعد ذلك جزءاً من المشاهد البصرية اليومية.
عندما افتتح أوّل فرع لماكدونالدز في 1992، تحوّل بعد فترة بحكم الواقع إلى مركز اجتماعي يبعد بضع شوارع عن العنف والمخدرات التي شكلت الوجه الفرنسي لهذا الجزء من مرسيليا. تمكن عمّال المطعم، وجميعهم من الحي، من منح القادمين شعوراً بالانتماء الاجتماعي في منطقة مهشمة.
علّق البروفسور كورنبلوم: «كان العمّال من اليافعين المليئين بالحياة، وكثيرون ممّن عملوا في ماكدونالدز كانوا يحصلون لأول مرة في حياتهم على أجر». كان أحد العمّال اللامعين الأوائل كمال غوماري، الذي يبلغ اليوم 39 عاماً من العمر، والذي بدأ العمل في ماكدونالدز بسنّ 16 عاماً بعد تركه المدرسة. قام غوماري بعد ذلك بتأمين عمل للكثير من يافعي الحي الذين تركوا المدرسة أو أدينوا بجرائم صغيرة، وبدأ بتشكيل مجموعات قاعدية جنينية من عمّال المطعم.
بدأ بعض عمّال المطعم في 2018 يطالبون بالتنظّم النقابي، وبدأت الأصوات تعلو لدعمهم وبدء التحرّك على الأرض. يقول البعض بأنّ شركة ماكدونالدز استجابت لذلك بالإعلان عن نيتها بيع المطعم بهدف إسكات الأصوات الداعية إلى التنظّم وجعلها عبرة لبقيّة أفرع الشركة. لكنّ الشركة رفضت الإقرار بأنّ هذا ما حصل، وقالت بأنّ سبب بيعها للمطعم هو خسارته المال. رفض فرع شركة ماكدونالدز في فرنسا الردّ على هذا الأمر، وكذلك التعليق على النزاع مع العمّال الذين احتلوا المطعم.
بعد قيام الشركة ببيع آخر وجبة لها في المطعم في أواخر 2019، قام غوماري مع رفاقه من العمّال الآخرين باحتلال المبنى. قال غوماري، وهو الذي جذب عمله مع رفاقه ثناء أهل الحي: «لشهرين أو ثلاثة كنت أنام لوحدي في المطعم كي لا أشرك عائلتي في الأمر». وقد حكم عليه العام الماضي بالسجن مع وقف التنفيذ بعد عراك خفيف مع أحد المدراء في فرع قريب آخر لشركة ماكدونالدز.
لا يقتصر عمل «ما بعد م» اليوم على تقديم الطعام للمحتاجين، فهو يستضيف النشاطات المجتمعية وورشات العمل التي تدعمها بعض المؤسسات الأهلية.
أعلنت سلطات مدينة مرسيليا بأنّها ستنسّق مع العمّال الذين احتلوا البناء لإيجاد صيغة طويلة الأمد لاستخدام المبنى. من بين الأفكار المطروحة إعادة عمله كمطعم يقدّم وجبات صحيّة يمكن تحمّل كلفتها.
يستمر المنظمون ببذل جهود مضاعفة حتّى لا يضطروا للاعتماد على السلطات السياسية للمدينة، خاصة وأنّ مرسيليا قد شهدت أثناء الانتخابات المحليّة التي جرت الشهر الماضي تفوقاً لقوى الجناح اليميني. يقول غوماري: «نشكر مكتب المحافظ، لكننا لا نريد أن نتحول إلى ضرر سياسي جانبي في المستقبل».
تقول غاتوتشي المتطوعة في المطعم بأنّ الفريق لطالما تخيّل تحويل المكان إلى مركز تدريب فني محلي، ذلك أنّ السلطات الرسمية لطالما أهملت دعم الموهوبين في الحي: «إمكانات هؤلاء اليافعين هائلة، ولن نقوم بهجرهم».
وبين إعادته إلى عمل المطاعم أو تحويله إلى مركز اجتماعي، يبقى الأكيد بأنّ أيّام البناء كمطعم لماكدونالدز قد ولّت.
* بنك الطعام: مكان يتوفر فيه مخزون من الطعام والمواد الغذائية، والتي تكون عادة من المؤن الأساسية والمواد غير القابلة للتلف، والتي يتمّ توزيعها بالمجان على الأشخاص المحتاجين.
بتصرّف عن:
https://www.washingtonpost.com/world/interactive/2021/mcdonalds-marseille-food-bank/
https://www.foodandwine.com/news/marseilles-mcdonalds-food-bank
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1029