شيوخ الطبقة العاملة
كل تشكيلة اقتصادية لها مفاهيمها الاجتماعية و(أدبياتها) وهذه المفاهيم تحدد حسب اعتبارات المنفعة التي يتحصل عليها أفراد المجتمع في هذه التشكيلة، أي أن الفرد تختلف حقوقه في المجتمع والأسرة بحسب النظام الاقتصادي السائد، وما دام استثمار الإنسان للإنسان موجوداً فسوف تبقى الحقوق شيئاً مبهماً أمام الفرد، حتى يتلقى الكثير من الصفعات، ويعلم من آلمه، وما هي حقوقه ويناضل مع من يعمل لأجلها.
نحن اليوم بصدد الكلام عن حقوق كبار السن، هل لهم حقوق أم أنهم استنفذوا كامل حقوقهم في المواطنة؟ وما أمامهم سوى انتظار الموت، ونحن الشباب، ما الذي ينتظرنا عندما نهرم وتهترئ أجسادنا من قسوة الحياة والعمل الشاق، مع غياب أدنى أشكال الضمان الاجتماعي والذي لا يشمل إلّا عمال القطاع العام، وجزء صغير من القطاع الخاص، على الرغم من هزالة ما يقدم، أضف إلى ذلك استحالة التكافل الأسري مع ازدياد درجات الطحن الاقتصادي على المجتمع السوري من قبل الفاسدين المتحكمين بأرزاق الشعب السوري. هؤلاء الكبار في السن الذين وصلوا لمرحلة التقاعد كانوا يوماً ما عمالاً وموظفين أو أصحاب مهن، والذي جعلني أكتب هذه السطور رؤيتي لعدد من كبار السن ممن تجاوزوا الخامسة والستين، وما زالوا يعملون، فعلى سبيل المثال سائق تكسي قد تجاوز الثانية والسبعين، يعمل بحدود عشر ساعات على سيارة أجرة، وبالكاد يستطيع القيادة، سألته: يا (عم) أليس من المفترض أن تكون الآن بسنوات الراحة بعد كل الجهد والكفاح الذي بذلته في سنوات عملك وحياتك، كان جوابه: ( بهل بلد ما بيرتاح غير الميت)، وأنهى الحديث وكأنه يقول: لا تسأل أكثر. لن أسأل أكثر ولكن (لشيبتك حقوق ويجب أن تؤخذ)، ومما يزيد الطين بلة أنه يعمل على هذه السيارة على النسبة، ومن مشاهداتي أيضاً في سوق الحريقة، رجل في حدود الستين عاماً يعمل على عربة نقل بضائع (عربجي) وهذا أقسى ما شاهدته عيناي، فهذا الرجل يجر أثقالاً يعجز الشباب عن جرها لمسافات طويلة، فعلى سبيل المثال: من سوق الحريقة إلى كراج الصناعة، حيث يسلم البضائع هناك لشركات الشحن، ويمر بهذه البضائع بطرقات أقل ما يقال عنها ساحة حرب نتيجة الازدحام المروري، وأجرة هذه التوصيلة تتراوح بين 500 ليرة و 1000 ليرة، ولا تنسوا أيضاً أنه مهدد بأية لحظة بأن تصادر عربته من المحافظة، والأمثلة عن هؤلاء كثيرة، ويستطيع الجميع أن يلمسها لمس اليد والنظر في المطحنة السورية، ثنائية سارق ومسروق.
تحدثنا في المقدمة أن كل تشكيلة اقتصادية لها مفاهيمها وأدبياتها، والتي يفرضها من يملكون أدوات العمل والانتاج على من لا يملكون، فعلى سبيل المثال في التشكيلة المشاعية كان للشيوخ وضع خاص فهم (المستشارون والحكماء) ولا تسند إليهم أعمال مجهدة، وما عليهم سوى إدارة المشاعة، وهذا يعتبر حقاً مكتسباً لهم بعد سنين عملهم لأجل المشاعة، ومع العبودية والاقطاعية أصبحوا يعملون، ولكن موروث المشاعة المستمر كان الحامي لهم، فلذلك كان الضغط أخف عليهم، فهناك من يعمل عوضاً عنهم ويقدم لهم العون، ولكن كتكافل أسري، وليس كحق مكتسب، وهذا يعني أن في الأطوار التي لحقت بالمشاعة فقدت الإنسانية قيمة أساسية من الضمان الاجتماعي، وبقيت بشكل جزئي على موروث المشاعة بالتكافل الأسري، ومنذ ذلك الحين ما زالت الإنسانية تفقد شيئاً فشيئاً من حقوقها نتيجة استثمار الإنسان للإنسان، وبدأت حدة التناقضات تتزايد بين الذين يملكون والذين لا يملكون، فوجب النضال لاسترداد الحقوق، وهذا الشرح يمثل الدول التي شهدت جميع مراحل التطور الاقتصادي والصراع بين الثنائي مُستثمِر ومُستثمَر، ففي أوروبا على سبيل المثال، رغم الطحن الاقتصادي الذي يمارسه النظام الرأسمالي على المجتمع، يوجد هناك نظام رعاية للشيخوخة، ويشمل رواتب وتأميناً صحياً، ولو كان مقتطعاً من أجر الموظف، وهذا يدل على أن اليد العاملة في الدول الكبرى تعمل ضمن نطاق العمل المنظم، ولا تعاني من مشكلة عدم تسجيلها بالتأمينات والجدير ذكره للأمانة التاريخية: أن هذه القوانين جاءت وطبقت في أوروبا نتيجة الصراع بين النموذجين الرأسمالي والشيوعي، فالرأسمالية حتى ترضي شعوبها وتبعد عند نفسها خطر العدالة الشيوعية أعطت لشعوبها آنذاك العديد من المكتسبات تحت ضغط اليد العاملة، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتصدر القطب الواحد بدأت دول الرأسمالية بالتراجع بشكل تدريجي ومستمر عن هذه المكتسبات، والمتابع للحركة العمالية في هذه الدول يعلم كمية الضغوط على الطبقة العاملة هناك، ولكن كما ذكرنا هذه الشعوب مرت بجميع مراحل الصراع حتى حصلت على مكتسباتها، أما الشرق فلم يشهد جميع المراحل بشكل كامل فما زالت مجتمعاتنا تحمل في طياتها أثقال التجربة البشرية، وتحاول التخلص منها، ففي أوروبا مثلاً من وصل إلى سن التقاعد هو حتماً كان يعمل في قطاع عمل منظم، وكان مسجلاً في التأمينات الاجتماعية، أما في بلادنا قطاع العمل غير المنظم هو قطاع ضخم جداً، وما زلنا نناضل من أجل تسجيل العمال في التأمينات، حتى في القطاع الخاص، وفي القطاع العام، فوجود عمالة يومية وعمالة العقود، والعمالة الموسمية أيضاً، يعتبرون عمالاً في القطاع غير المنظم، وليس لديهم أية حقوق، وهذه المشكلة بدأت مع بواكير الصناعة في سورية في بدايات القرن العشرين وعلى الرغم من كل التضحيات والنضالات التي قدمتها الطبقة العاملة والحزب الشيوعي في المعامل والنقابات وتحت قبة البرلمان، والمكتسبات التي أخذوها عنوةً ما زلنا نعاني من التهميش وهضم الحقوق العمالية، فكيف هو حال شيوخ الطبقة العاملة الذين استنزفوا طوال سنين عملهم خارج أي إطار قانوني يحمي حقوقهم العمالية، وهم في قوتهم، والآن قد كسا الشيب شعرهم والوهن عظامهم، وليس لديهم معيل لا من الدولة ولا من أبنائهم الرازحين أيضاً تحت ثقل الفقر والتهميش، من يدفع عن هؤلاء تكاليف الضعف والشيخوخة.! فكم من مسن مات نتيجة قلة الحيلة ولعدم مقدرته على العلاج وشراء الأدوية اللازمة؟
وصمة عار
نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين، ويعني هذا أننا يجب أن نكون بحجم التطور الذي مرت به البشرية، أليس من المعيب أن تكون المشاعة الأولى قبل آلاف السنين لديها قوانين تحمي كهولها ونحن اليوم كهولنا يعملون أعمالاً شاقه تحت مرآى الجميع، ولدينا جميع الأدوات لتنفيذ القوانين العمالية كوزارتي العمل والشؤون الاجتماعية والنقابات العمالية؟ أليس عمل شيوخ الطبقة العاملة الشاق وصمة عار على جبين كل من يدعي العمل والنضال لأجل الطبقة العاملة؟ ونحن العمال الشباب هل نرى خاتمتنا بشيوخنا ونفقد الأمل، ليس من حقوقنا فقط بل من الحياة نفسها؟! من يعيد لنا حقوقنا؟ الخلاصة هذه القضايا لا تؤخذ باستجداء الهمم والنخوة، بل بالنضال الجاد من قبل كل الوطنيين تحت برنامج حقيقي تؤمن به الطبقة العاملة، وتعلم من خلاله ما هي حقوقها الواجب أخذها عنوةً، من قبل السارقين الكبار.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 983