الشيوعيون والطبقة العاملة
«إنهم يستطيعون قتل كل الورد، ولكنهم لن يستطيعوا منع الربيع من القدوم» • غرامشي
إن اهتمام القوى السياسية المختلفة (البرجوازية منها والتقدمية) وتعاطيها بالشأن العمالي والنقابي ليس وليد المرحلة الحالية، بل عمره من عمر الحركة العمالية، ونشوء أول نقابة عمالية خاصة في سورية، وهذا يعكس الوزن التي تحتله الطبقة العاملة والحركة العمالية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
الشيوعيون والنضال العمالي
ولدت الطبقة العاملة وترعرعت وصلب عودها في خضم صراعٍ ضارٍ كانت الحركة الوطنية السورية تخوضه من أجل الاستقلال التام عن المستعمر الفرنسي، وكان النضال الجماهيري في الشارع جزءاً أساسياً من معركتها التي كان للطبقة العاملة دور مهم فيها، ما أكسبها تجربة وخبرة ساعدتها في الدفاع عن حقوقها التي كانت تنمو مع نمو الصناعة الوطنية وتوسعها وتنوعها الذي أدى إلى نموها كماً ونوعاً، وكذلك تنويع أشكال وطرق نضالها ابتداءً من تقديم العرائض، وصولاً إلى الإضراب الجزئي والمفتوح. هذا التدرج الذي استخدمته الطبقة العاملة قد أكسبها تجربة هامة، عمقتها مساعدة القوى السياسية الوطنية وخاصةً الشيوعيين، الذين لعبوا دوراً أساسياً في الشارع، من خلال المظاهرات التي كانوا يقودونها في مواجهة البرجوازية الوطنية، والرأسمال الأجنبي الذي قدم مع قدوم الاستعمار الفرنسي، والذي كان مهيمناً على صناعة التبغ (الريجه) والسكك الحديدية والكهرباء ....إلخ.
لقد قدم الشيوعيون خيرة مناضليهم من أجل قضية الطبقة العاملة السورية، ودخل الكثير منهم السجون والمعتقلات، وكانت قضية الطبقة العاملة حاضرة في معظم برامجهم ونشراتهم الحزبية، ومواقفهم داخل البرلمان وخارجه، وهذا يعكس وجود رؤية وخطاب عمالي واضح لدى الشيوعيين آنذاك، يتناسب مع طبيعة المرحلة تلك، ومع تطور الحركة العمالية، ومع موازين القوى الطبقية التي كانت سائدة في تلك الفترة، مما جعل الشيوعيين قادة حقيقيين للنضال العمالي، ولا يستطيع أحد إنكار دورهم ونضالاتهم في ذلك المجال.
ورغم المحاولات الكثيرة التي قامت بها القوى الرجعية لشق الحركة العمالية، وتأسيس نقابات أخرى، فإن الطبقة العاملة بقواها الحية قد أحبطت تلك المحاولات، ووحدت عملها في نقابات موحدة ومستقلة تمكنت من قيادة النضال العمالي، وانتزاع مكاسب حقيقية للعمال من خلال حركة إضرابية واسعة ومتصاعدة شملت سورية كلها، وأوجدت الأدوات والوسائل الضرورية التي مكنتها من متابعة عملها، مثل صناديق الإضرابات، والتضامن الواسع بين العمال في مختلف المناطق، والدعم الكبير المقدم من الأحزاب الوطنية وبالأخص الشيوعين، وكذلك دعم الاتحاد السوفيتي والنقابات التقدمية في العالم.
لقد ساهمت عدة عوامل إذاً في تبلور الطبقة العاملة، وتطور دورها وفعاليتها ووعيها بمصالحها وكيفية الدفاع عنها، نلخصها بنشوء الطبقة العاملة السورية في مرحلة المد الوطني المقاوم للاستعمار الفرنسي، والدور الذي لعبته الأحزاب الوطنية في التعبئة السياسية والجماهيرية. وتطور الصناعة السورية الحديثة وتنوعها، وبالتالي إزدياد عدد العمال وتطور مطالبهم وحقوقهم. هذا فضلاً عن وجود حزب شيوعي ساهم بشكل مباشر بالنضال الوطني والعمالي وقدم البرامج المعبرة عن مصالح العمال وحقوقهم، وخاض نضاله معهم على اساس تلك البرامج، مستنداً إلى الانتصارات التي حققها الاتحاد السوفيتي كدولة عمالية داعمة لنضال الشعوب المستعمرة من أجل استقلالها الوطني وخلاصها من الاستعمار.
لماذا تراجع دور الشيوعيين في قيادة نضال الطبقة العاملة؟
لم يكن تراجع دور الشيوعيين في الدفاع عن مصالح الجماهير، ومنها الطبقة العاملة منفصلاً عن التراجع العام والتدريجي الذي شهدته الحركة الثورية منذ بداية الستينات، والذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفيتي، وصعود الدور الأمريكي وهيمنته السياسية والاقتصادية والعسكرية، محاولاً فرض مصالحه في ظل ما استجد من اختلال في موازين القوى العالمية.
والتراجع العالمي هذا عكس نفسه محلياً من خلال تبني الشيوعيين السوريين لموقف الحزب الشيوعي السوفيتي حول دور البرجوازية الصاعدة التي كان يرى فيها المستقبل، والتي كانت تحمل شعارات ذات محتوى تقدمي، مما أدى إلى المراهنة عليها بعد أن قامت ببعض الإجراءات التي عبرت في تلك اللحظة عن مصالح العمال والفلاحين (تأميم المصانع والشركات، والإصلاح الزراعي) والتي اعتبرت حسب مفهوم التطور اللارأسمالي، نقلة نوعية تقوم بها البرجوازية على طريق الاشتراكية، التي سيتم الوصول إليها بمساعدة الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فإن الشيوعيين السوريين من خلال تبنيهم لتلك المواقف وممارستها على الأرض قد وضعوا كل البيض في سلة البرجوازية الصاعدة، وراهنوا على إجراءاتها في تحقيق برامجهم، ولم يدركوا في حينها أن قوانين التراكم الرأسمالي وتمركزه وقوانين الصراع الطبقي ستفعل فعلها وستنسف كل النظريات والمقولات والشعارات التي تم طرحها، والتي بدأ الشيوعيون على أساسها يغيرون طرق نضالهم وآليات عملهم الحزبي، وكذلك تحالفاتهم، لم لا، طالما أن الاشتراكية ستتحقق، ومن أجلها كل شيء يهون!!
لقد كان الحزب سابقاً في قلب النضال الوطني والطبقي، أي أنه كان يمارس على الأرض ما يقوله في أدبياته، فكان يقوم بدور طليعة الطبقة العاملة، بقيادته لنضالها والدفاع عن حقوقها، وهذا ما تراجع عنه الشيوعيون تدريجياً حتى وصلت بهم الحال إلى قطيعة شبه كاملة مع قاعدتهم الاجتماعية التي سرقت منهم، مما أدى إلى فقدانهم لدورهم الوظيفي في الدفاع عن الطبقة العاملة وحقوقها، واستبدل هذا الدور بشيء أخر، هو العمل من فوق وفقاً لمعايير العمل الجديدة التي فرضها الشيوعيون على أنفسهم.
إن تغير دور الشيوعيين، وتغير أدواتهم النضالية، وعدم تمكنهم من التوصل إلى رؤية تحدد المجرى الحقيقي للتطورات العالمية من حيث اختلال موازين القوى العالمية والمحلية لمصلحة الامبريالية، ورؤيتهم المغلوطة بأن القوى الثورية في العالم في حاله تقدم، وأن الإمبريالية بحالة تراجع وانكفاء، قد عكس نفسه داخلياً بالانشقاقات المتتالية في الحركة الشيوعية السورية، وتحول الحزب الواحد إلى فصائل عدة، كل واحد منها يدعي امتلاكه للحقيقة، وقدرته على الانتصار في معركته التنظيمية، مما اضعف الجميع وأصبح الخاسر هو الطبقات الشعبية، وخاصةً الطبقة العاملة السورية، التي أصبحت الهوة واسعة بينها وبين كل الحركات السياسية في البلاد ومنها الحركة الشيوعية، فأصبح الشارع السوري يعيش حالة فراغ سياسي تحاول ملأه القوى الرجعية والسلفية والليبرالية بشتى الطرق.
وحدة الشيوعيين والطبقة العاملة
إن ما يجري تداوله منذ سنوات في أوساط الشيوعيين، وتحديداً على مستوى قواعد الفصائل المختلفة هو ضرورة وحدة الشيوعيين، وإعادة بناء الحزب الشيوعي السوري ليستعيد دوره مجدداً، وليسترجع قاعدته الاجتماعية التي هي خزانه الحقيقي في استمرار دوره وفعاليته النضالية في الدفاع عن الوطن، والدفاع عن حقوق الشعب السوري في حياة كريمة، خاصةً وأن البلاد تشهد منذ عقدين من الزمن تطورات هامة عكست نفسها على الطبقات الشعبية، من حيث ظروفها المعاشية وحقوقها الديمقراطية، مما يتطلب وجود حزب شيوعي لديه الرؤية والخطاب والممارسة للدفاع عن القضايا الوطنية الكبرى، ومنها قضية الطبقة العاملة السورية التي تتعرض لأوسع هجوم تشنه القوى الليبرالية على حقوقها ومكتسباتها، تلك القوى التي تسعى إلى شق وتفتيت وحدة الطبقة العاملة ما بين عمال يعملون في القطاع العام وعمال يعملون في القطاع الخاص، وإيجاد قوانين عمل منفصلة يخضع لها العمال في كلا الموقعين.
أن استمرار الهجوم على حقوق العمال بهذا الشكل المتواتر دفع العمال لفتح ثغرة في الجدار العازل المضروب حولهم، محاولين بذلك الدفاع عن حقوقهم وحيدين مكشوفي الظهر بعكس ما كان سابقاً، حيث كان العمال يجدون من يشد أزرهم ويكون معهم في نضالهم وصراعهم مع الرأسمال، مما كان يدفعهم لتصعيد نضالهم، ويعزز ثقتهم بقدرتهم على تحقيق مطالبهم وحقوقهم.
إن الطبقة العاملة الآن ترسل الكثير من الرسائل والإشارات التي تعكس الحالة التي وصلت إليها أوضاعها المعيشية ومستوى أجورها، وأيضاً مستوى نضجها ووعيها لحقوقها، حيث جسدت ذلك بعدد من الإضرابات والاحتجاجات الجزئية هنا أو هناك في القطاع العام و الخاص، وهذا يؤكد وحدة نضال العمال في القطاعين الخاص والعام في مواجهة الرأسمال وأرباب العمل، سواءً كان رب العمل دولة أو مستثمراً أجنبياً أو محلياً.
إن استمرار واقع الشيوعيين على ما هو عليه من الفصائليه يعني تأخرهم عن الالتقاء بحركة الطبقة العاملة وقيادة نضالها بما يحقق مصالحها، وسيجعل قوة أخرى تدخل على الخط وتركب الموجة، وتقطع بالتالي على الشيوعيين طريق عودتهم مرة أخرى، ليأخذوا دورهم الكفاحي والوطني الذي هو مبرر وجودهم.
إن الاستحقاقات كبيرة والمهام التي تواجه شعبنا كبيرة أيضاً، فهل نتوحد على أسس مبدئية لنحقق كرامة الوطن والمواطن؟