التحركات العمالية ... إلى أين؟
انطلقت خلال الأشهر الماضية موجة جديدة من التحركات العمالية في بعض البلدان العربية، حيث شهدت المغرب تحركات جدية بعد أن دعت أربعة نقابات كبرى في المغرب في 24 القطاعات جميعها لإضراب عام، ولمدة 24 ساعة، احتجاجاً على ما اعتبرته فشل سياسات الحكومة، وعدم تحمل مسؤوليتها في التعامل مع المطالب المادية والاجتماعية والمهنية للطبقة العاملة، وعموم العاملين بأجر في المغرب.
الإصلاح الحكومي مجرد فساد
قال البيان الصادر عنها أن النقابات ترفض الانفراد الحكومي في اتخاذ القرارات، وضرب الحريات النقابية وقمع الاحتجاجات الاجتماعية المشروعة، وبأن الحكومة تقود مشروعاً تراجعياً تسميه باطلاً بأنه إصلاح، لكننا نعتبره فساداً، ويضيف أن هذه الحكومة ليست لها الإرادة السياسية من أجل فتح حوار جدي، الحركة النقابية تحملت مسؤوليتها، بعد أن استنفدنا المحاولات كلها معها، قررنا خوض الإضراب العام الوطني.
وكانت الحكومة المغربية قد استمرت بسياسات اقتصادية قالت عنها بأنها إصلاحية، وآخرها رفع الدعم عن مجموعة من المواد، على رأسها مادة البنزين، كما أنها طرحت مشروع قانون إصلاح نظام معاشات التقاعد، ورفع سن التقاعد لـ 63 عاماً، وكذلك تقليص عدد المعلمين المتدربين إلى النصف، وفصل تكوينهم عن التوظيف، وقالت النقابات إن الحكومة «أغرقت البلاد في المديونية دون توظيفها في الاستثمار المنتج».
35 ألف إضراب في سنتين
أما في تونس، وحسب دراسة لباحث بريطاني في العلوم والنظريات السياسية، الذي توقف مطولا عند الإضرابات العمالية التي شهدتها تونس بعد تنحي الرئيس زين العابدين، قد أشار أن عدد الإضرابات قد وصل لأكثر من 35 ألف إضراب في أقل من سنتين، نفذت النسبة الكبيرة منها وتم تسوية النسبة الباقية من خلال المفاوضات، وكانت الحكومة قد أوضحت أن 72% من الإضرابات تمّ تسجيلها في قطاع الخدمات، يليه قطاع الصناعات المعدنية والميكانيكية 21%، فقطاع النسيج والملابس والأحذية 17% .
ويعتبر الاتحاد التونسي للشغل هو التنظيم النقابي الذي ينظم ويقود هذه الإضرابات، وكان لافتاً موقف الاتحاد التونسي بعد أحداث بن قردان، حيث ركز على ضرورة أن تقوم الحكومة بالإسراع بتنفيذ القرارات المعلنة الخاصّة ببن قردان وتعميمها، والعمل على تطويرها، والالتزام بفضّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن تداعيات المعركة مع الإرهاب، وعبر عن مخاوفه من تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وما سيترتّب عنهما من تأثيرات سلبية في ظلّ الهجمة الإرهابية، ودعا إلى التعامل الجادّ والمسؤول مع الملفّات الاقتصادية والاجتماعية المطروحة، وخاصّة في قطاعات السياحة والفلاحة وغيرها التي دخلت في أزمة خانقة.
هل تغيرت الأنظمة؟
أما في مصر فقد عادت الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات العمالية إلى واجهة الأحداث من جديد، وبعناوين وشعارات ومطالب قديمة وجديدة، فحصلت الإضرابات بمختلف القطاعات، بدءاً بقطاع النسيج مروراً بقطاع الصحة والصناعات المعدنية، وليس انتهاءً بعمال الأفران، وإلى الآن لم تأخذ هذه التحركات طابعها العام الذي يشمل الطبقة العاملة المصرية، كما يحصل في المغرب وتونس، ولا يتم الحديث عن أي إضراب عام قادم، ولكن الملفت بالتحرك الجديد بأنه أكثر فاعلية وتنظيماً، ويبرز شعار يطالب باسترجاع القطاع العام، الذي بيع بثمن بخس، حين طبقت الخصخصة على الكثير من المنشآت الوطنية في مصر.
ويبقى للطبقة العاملة المصرية خصوصيتها، وستشهد قادم الأيام تحركات إضافية أكثر نضجاً، ستسهم في توحيد هذه التحركات، كون الوضع المعيشي للعامل المصري يزداد سوءاً، ومعدلات البطالة والتهميش ترتفع تباعاً، فلا تباشير بتغيير حقيقي للسياسات الاقتصادية بتغير نمط توزيع الثروة على عموم الطبقات المصرية، رغم التغيرات السياسية التي طالت شكل النظام مرتين، يبقى النظام المحابي للأغنياء قائماً بسياساته التي لم تتغير، فالغني يزداد غنى والفقير يزداد فقراً، مما يجعل هذه المهمة رهناً بالطبقة العاملة وبالحركة النقابية، التي عليها انجاز هذا التغيير لمصلحة العمال والكادحين، كي يستمروا بالحياة.
التغيير الحقيقي لا بد منه
ترتفع وتيرة التحركات العمالية على مستوى المنطقة، والتي يتفاوت مستوى نضوجها وتنظيمها من بلد لآخر، وذلك يدل على أن التناقضات تشتد وبأن عملية التغيير التي أملت بها شعوب المنطقة لم تنجز بعد، فتونس ومصر مثلاً لم تستطع (الثورات) فيهما من الوصول لأهدافها، بل تم تغيير شكلي وبقيت الأنظمة بسياساتها الاقتصادية، مما جدد التحرك الشعبي، وعزز دور الطبقة العاملة كونها الأكثر تضرراً من هذه الأنظمة، ولأنها تتمتع بمستوى وعي وطني وطبقي يجعلها قادرة على قيادة تحرك شعبي جديد، يفرض التغيير الحقيقي للأنظمة الفاسدة المفصلة على قياس رجال الأعمال، وصندوق النقد الدولي والشركات العابرة للحدود، وإحداث تغيرات جوهرية تصب في مصلحة الأغلبية الطبقية المنهوبة.
وتحاول الحركات النقابية جاهدة في بلدان التحاصص الطائفي، كالعراق ولبنان، استرجاع دورها وكسر هذه الحسبة للتحالف المالي، وبدأت بوادر هذا الاسترجاع بتحركات ستنضج بالتجربة، رغم الصعوبات كلها، ولكن التردي الكبير للوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والخدمي سيكون موحداً للقوى العاملة، وشركائهم في الشقاء، لإيجاد طريقهم الذي يؤدي لتغيرات كبرى، تصب في صالح العمال والكادحين والمنهوبين كلهم.