النقابات تجيب على (مالعمل).. فما العمل؟! (1/2)
أصدر الاتحاد العام لنقابات العمال رؤيته الاقتصادية- الاجتماعية التي شملت تقييمه للوضع الاقتصادي الحالي في سورية، وبدائله على المستوى الآني والاستراتيجي.
وستناقش قاسيون أهم ما جاء فيها على جزأين، منطلقة من تأكيدها على ضرورة استعادة النقابات لدورها الوظيفي كمدافع عن مصالح العمال كونهم المنتجين الحقيقيين للثروة، وهم غالبية الشعب، ومصلحتهم من مصلحة الوطن، والتي قد تكون هذه الرؤية نقطة انطلاق هامة فيها.
يمكن القول أن الرؤية قد نجحت في رصد معظم نتائج الأزمة الممتدة لـ 5 سنوات على الاقتصاد السوري، أو على الأقل رصد ماهو ظاهر للعيان، وهذا تقدم هام يحسب للاتحاد في ظل تلكؤ معظم الجهات الرسمية والحكومية وغيرها عن محاولات كهذه. لكن ما لم يراه الاتحاد قد يكون حجر الزاوية الغائب عن الرؤية، والتي جعلها تقع في مطبات إشكالية أحياناً، فما هو ذلك؟
لم تلحظ الرؤية بشكل مباشر قضيتين رئيسيتن هما:
التفاوت الشديد في توزيع الثروة.
تغول شريحة الرأسمالية الطفيلية في الاقتصاد الوطني.
إن هاتين القضيتين، اللتين تحاشت الرؤية إبرازهما، هما سببان رئيسيان للأزمة السورية، كما أنهما تعمقتا أثناء الأزمة بشكل مهول، ويشكلان تهديداً وجودياً لمصالح ومكتسبات الطبقة العاملة والدولة السورية في آن معاً.
سياسات وليست مجرد إجراءات!
من هنا مثلاً وقعت الرؤية في إشكال رئيسي عندما وصفت الإجراءات الحكومية بأنها: (لا ترقى إلى مستوى استراتيجية حكومية واضحة المعالم تتولى إدارة الأزمة بشكل مسؤول... بدليل القرارات المتناقضة التي صدرت خلال فترات متباينة من عمر الأزمة).
ليست هذه التناقضات في سلوك الحكومة إلا شكل التحولات الاستراتيجية الكبرى في طبيعة القوى المختلفة المتحكمة بالاقتصاد السوري، أما مضمونها، أي تعزز هيمنة رأس المال الطفيلي وتراجع وزن الطبقة العاملة بفعل التفاوت الكبير في توزيع الثروة، فهو قائم على أرض الواقع وباتت السياسات الحكومية انعكاساً له، سواء تأخر القرار الحكومي المتوافق مع مصلحة قوى رأس المال، أم جاء سريعاً، أم التُفّ عليه بتطبيق قانون أو توقفه واستبداله بآخر أسوأ منه. والأدلة على ذلك كثيرة، فقانون الحكومة الذي فرض تعليق استيراد المنتجات التي تزيد رسومها عن 5% في بداية الأزمة، لم يصمد إلا بضعة أيام، ليتم بعدها التراجع عنه بضغط من التجار، الذين زاد وزنهم في العقد الفائت بفعل سياسات اللبرلة، لا بل إن كل ما سُنّ لاحقاً في التجارة الخارجية عزز من مصحلتهم أكثر فأكثر، ولو أن التراجع عن القانون لم يتم حينها لكن بقي شكلاً والتُفّ عليه من أقنية الفساد.
كما أن تحرير أسعار الوقود والسماح للقطاع الخاص باستيرادها بالكامل يأتي ضمن خطة مدرجة في السياسات الحكومية منذ عام 2008 بالحد الأدنى، وإنْ مَنَع اندلاع الأزمة الفريق الاقتصادي الليبرالي في حكومات ما قبل الأزمة من تطبيقه في بدايتها، إلا أن الحكوميين الحاليين وجدوا في نتائج الأزمة المتصاعدة الذريعة الأنسب لتطبيق هذه السياسة دون أي وازع، وهو ما مثل ضرورة لتدوير الرساميل المكدسة في الأزمة، واستثمارها في قطاعات رابحة، أي أن ما حصل فعلاً هو سياسات ممنهجة تتأخر أو تتعطل بفعل التناقضات الطبيعية للنظام الاقتصادي ولا مجال هنا للمواربة.
تصحيح رؤية...
وإذا ما أعدنا قراءة المشهد الاقتصادي وفق بنود رؤية الاتحاد، آخذين بعين الاعتبار موضوعتي توسع هيمنة الشريحة الرأسمالية الطفيلية وإزدياد التفاوت الاجتماعي، كنقطة انطلاق، سَتُوضَع الأمور في سياقها الطبيعي، لنرى المشهد في استمراره منذ ما قبل الأزمة وصولاً لها، ليغدو (الاستهداف الممنهج للمنشآت الاقتصادية والخدمية الوطنية وتأثير العقوبات الاقتصادية الغربية الظالمة) الذي كان مدخل الرؤية، هو الاستمرار الطبيعي للسياسات الليبرالية لمرحلة ما قبل الأزمة وإن بشكله الأعنف والدموي والأشد رجعيةً.
كما أن (تذبذب سعر الصرف الليرة.. وتسببه بارتفاع كبير في أسعار السلع.. وخسارة كميات كبيرة من القطع... الذي استفاد منه المضاربون وتجار العملة) هو نتيجة طبيعية لسياسات تحرير قطاع الصيرفة، التي سنته قوانين ما قبل الأزمة، واعتماد اقتصاد السوق وآلياته المستندة على تحرير كل شيء من يد الدولة، بما فيها العملة الوطنية أحد رموز السيادة. لم تكن الأزمة عملياً إلا مرحلة لإنضاج شروط أكثر ملائمة لمستوى أعلى وأعنف من اللبرلة، التي أسهمت بها (هوامير) المال بالتوازي مع الهجمات التي شنت على الليرة السورية من قبل دول الخليج والغرب.
وبناء عليه من الممكن رؤية كل البنود الهامة في الرؤية ولكن بشكل أعمق وبسياقها الطبيعي كـ (توسع دائرة الاستغلال.. وضعف أداء معظم مؤسسات الدولة... وتسريح آلاف العمال.... وعجز الحكومة عن مسؤولياتها تجاه 7 ملايين نازح...) استمراراً لسياسات تخفيف حجم ودور الدولة في الاقتصاد.
العكس صحيح
وللتاريخ ينبغي التأكيد على أن أهم القضايا التي لمستها الرؤية تمت صياغتها بطريقة معكوسة، عن غير قصد ربما ، تحت بند (المطلوب آنياً) فجاءت أهم المطاليب آخرها وهو:
- تحديد الجذور الاجتماعية الاقتصادية للأزمة... ثم بند
- الوقوف على التحولات الاجتماعية التي أصابت المجتمع السوري منذ بداية عام 2011...(التي قد يفهم منها بحث الانزياحات والتحولات الطبقية لكل الشرائح الاجتماعية وفق فهمنا).
- بيان واقع المؤشرات التنموية وما لحق بها من متغيرات جراء الأزمة....
- توثيق حجم الخسائر... التي تكبدها المجتمع السوري بفئاته كلها (ربما ينبغي توثيق المكاسب والأرباح التي حققتها شرائح طبقية محددة أيضاً)...
لن تكتفي قاسيون بهذا الحد، ففي العدد القادم ستسكمل نقاش المهمات الاستراتيجية التي صاغتها الرؤية، فتوقفت في هذا العدد عند خطورة غياب هاتين الموضوعتين عنها، والتي أفقداها قدرتها على صياغة المهمات النضالية الضرورية، وتحديدها بشكل دقيق وملموس، في الوقت الراهن، وليس لإدارة الأزمة فحسب بل للخروج منها ومنع تكرارها نهائياً.