المتقاعدون والضمان الصحّي.. عش كريماً أو مت عزيزاً!!
لعلّ أول قانون ألزم ربّ العمل بالمشاركة في ما يمكن أن يُعَدّ تأميناً صحياً عن العمال كان في أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا، وتحديداً في عام 1883م، ثم تبعتها في هذا النمسا ثم النرويج وبريطانيا وفرنسا، قبل أن يعمّ هذا الإلزام بالتأمين دول أوروبا الصناعية، وذلك تحت ما سُمِّيَ التأمين ضد المرض والشيخوخة.
وقد حصلت الطبقة العاملة على هذا الحق بفضل نضالاتها المتراكمة؛ والتي كان لها بالغ الأثر في تطور التأمين الصحي. ولا شكّ أن الدول الاشتراكية قبل انهيارها كان لها السمعة العطرة في الضمان الصحي الشامل من دون استثناء. وما زال المعمّرون في تلك البلدان يتذكّرون بحسرة ومرارة مجّانية الطب أيام الزمن الجميل.
دائرة الخطر الصحي
سوف نغفل في هذا المقال مثالب التأمين الصحي في سورية ومعوقاته وما يواجهه المشمولون بالتأمين الصحي من مشكلات، ونقتصر في تناولنا على إحدى شرائح المجتمع السوري المظلومة المحرومة من الضمان الصحي. وهم الذين أفنوا عمرهم وصحتهم بالعمل في خدمة الوطن والمجتمع، وأقصد بهم المتقاعدين. كون هذه الشريحة بأمسِّ الحاجة للضمان الصحي، لأنها الفئة الأكثر إصابةً بالأمراض والأكثر حاجةً للرعاية الصحية بعد إحالتهم على المعاش. فهم دائماً في دائرة الخطر الصحي، ويكاد لا ينجو متقاعد من مرض وتالياً من تناول الأدوية.
لقد صدر المرسوم التشريعي رقم 46 تاريخ 3/4/2011 القاضي بتشميل (500 ألف) من متقاعدي الدولة والقطاع العام والمنظمات الشعبية من المدنيين والعسكريين بالتأمين الصحي، على أن تتحمل الدولة 62.5% من القسط السنوي للتأمين الصحي للمتقاعد والبقية يتحمّله المتقاعد ويقطع من معاشه. وقد أكد آنذاك رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال السابق «محمد شعبان عزوز» أنه لن ينتهي هذا العام (التصريح في بداية عام 2011) قبل أن يكون المتقاعدون قد تم تشميلهم بقانون التأمين الصحي ليصار بعدها إلى تشميل عائلاتهم. وها قد مضى على هذا التصريح أكثر من ثلاث سنوات ولم نلحظ أيّ طحين!!.
أشباه التجّار
قد يتساءل البعض: ما حاجتنا إلى الضمان الصحي طالما أن المشافي العامة تستقبل المرضى مجاناً في أغلب محافظات القطر؟ الإجابة بكل بساطة لأن تلك المشافي مع الأسف لم تعد تقدّم الخدمات ذاتها التي كانت تقدّمها سابقاً؛ فخدماتها أصبحت محدودة جداً، وبعضها مأجور وهي باتت مراكز لاصطياد المرضى إلى العيادات والمشافي الخاصة، وابتزازهم مادياً حتى الرمق الأخير، فالطبيب موظف في مشافي الدولة ودوامه ساعة أو أقل يومياً ليذهب إلى عيادته. وأصبح الكثير من الأطباء أشبه بالتجار. حتى أن العديد من المقالات ظهرت مؤخراً يطالب كتّابها بضرورة شمول مهنة الطب بأحكام قانون التجارة.
«طيب شو الحل»
وقد أجرت «قاسيون» لقاءات عدّة مع بعض المتقاعدين ليدلوا بدلوهم عن أوضاعهم فكان التالي:
المتقاعد إبراهيم بو شعلان: «يا أخي الله وكيلك راتبي بعد الزيادة الأخيرة لا يتعدّى الـ (27) ألف ليرة، أُنفق ربعه على الأدوية. فماذا سيبقى للأكل والشرب والمواصلات؟ ناهيك على أنه لديّ ثلاثة أبناء في الجامعة! وأنتم في (قاسيون) تقولون بأن الحدّ الأدنى للراتب يجب ألاّ يقلّ عن الـ (70) ألف! طيب شو الحلّ؟ - وزفر بحرقة متابعاً - اوووف عوجة يا أخي عوجة، عوضاً عن تكريم المتقاعد أسوةً بالدول التي تحترم نفسها، نحن نقول له: (مت قاعداً)..!».
وليد عبد الله (طالب جامعي): «والدي متقاعد منذ خمس سنوات، وقد أٌجرِيتْ له عملية قلب مفتوح منذ عامين كلّفتنا ما يقارب الـ(400) ألف ليرة. وما يحزّ بالنفس من ألم أنه لو كان على رأس عمله لما دفع ليرة واحدة، فقد كان مشمولاً بالضمان الصحي. تخيّل أنه وخلال أيام تم (تشليحه) كل ما قبضه من تعويض مكافأة نهاية الخدمة للمشفى، بعد أكثر من ثلاثين عاماً قضاها في خدمة الوطن! وتساءل بمرارة: حقيقةً أنا لا أفهم لماذا لا يشمل الضمان الصحي المتقاعد إضافةً إلى أولاده الذين ما زالوا برعايته؟!».
طلب استرحام للجمعيات
المتقاعدة فدوى سليم: «لقد شارفتُ على الرحيل يا بنيّ! فقد تجاوزتُ الثمانين، والحمد لله لا أعاني من مرض عضال حتى الآن. التقاعد نعمة يا ولدي، لا أحد يتمنّن عليّ، لا أولاد ولا أقارب ولا جيران.. راتبي يكفيني، صحيح أنه هزيل ولكن (يكتّر خير الله) وقبّلت ظاهر كفها ولمست جبينها شاكرةً وأضافت: ولكن ما يخيفني أن أضطر، لا سمح الله، إلى مشفى وأدوية وما إلى ذلك.. عندها ستحلّ المصيبة، فالمتقاعدون غير مشمولين بالضمان الصحي يا حسرتي..».
المتقاعد زهير أبو سمره: «بعد حوالي أربعين عاماً في خدمة الوطن، بعد أن تتلمذتْ على يديّ أجيال من الشباب والصبايا وتخرّجتْ، فقد كنت مدرّساً تنقّلتُ في أكثر مدارس المحافظة.. بعد كل هذا أضطرّ مؤخّراً إلى تقديم طلب استرحام إلى إحدى الجمعيات الخيرية التي تتبع لإحدى شركات الخليوي لأتمكّن من العلاج؟! أيّ قهرٍ وأيّ ذلّ هذا! لم أكن أتوقّع يوماً أنني سأصل إلى أرذل مراحل العمر بهذه الصورة البشعة. يا حيف! الله يلعن هالزمن..».
ردّ الجميل
أخيراً نقول: لماذا يعتبر التقاعد في البلدان المتقدمة فرصةٌ ينتظرها الإنسان لكي يعود لممارسة هواياته ونشاطاته السابقة في الرياضة والقراءة وحضور المسرحيات والأمسيات الموسيقية؛ وممارسة مختلف النشاطات الثقافية والسفر حول العالم.. أما عندنا يصبح العالم موحشاً و بغاية الكآبة أمام المتقاعدين؟!.
إن الشخص الذي قضى حياته يعمل ويدفع ضرائبه كاملة من دخله، من حقه علينا أن نقدّم له الحدّ الأدنى من ردّ الجميل، بأن يكون مؤمّناً صحياً 100% بعد تقاعده، الأمر الذي يجب أن نسعى لتطبيقه على الجميع، حتى لو لم يكونوا موظفين في القطاع العام، لنصل إلى مرحلة يشمل فيها التأمين الصحي جميع المواطنين ومن دون استثناء.