الانفتاح على الطبقة العاملة شرط الدفاع عن الوطن
من المؤكد أن الأحداث الجارية وتطوراتها قد أصابت بشظاياها كل المجتمع السوري، وجعلت الأسئلة تتوارد من كل حدب وصوب، وحتى (من الصغار قبل الكبار) عن الأسباب العميقة الكامنة التي أوصلت البلاد والعباد إلى ما وصلت إليه!
هل هي وليدة مزاج وفعل لحظي دفع بالناس إلى الشارع ليعبروا عما هو دفين في دواخلهم، أم أن هناك عوامل كثيرة تراكمت وتفاعلت، وكانت تحتاج إلى مفجر، حتى ولو كان بسيطاً، لتأخذ هذا المنحى الذي أخذته شعبياً وحكومياً؟
لقد أكدت التطورات الجارية القانون القائل: (إن التراكم الكمي سيؤدي إلى تغير نوعي)، فكيف هذا؟ وبأي اتجاه جرى؟
بعد انتهاء فورة المساعدات النفطية التي كانت ترد إلى خزينة الدولة من دول الخليج بعد حرب 1973، والتي من خلالها تراكمت ثروات هائلة بأيدي البرجوازية البيروقراطية التي تحكمت بمدخلات ومخرجات الاقتصاد الوطني المتمثل آنذاك بالقطاع العام، وهو قطاع قائد للاقتصاد الوطني، لم يكن لقوى السوق دور فاعل وحاضر بعد، بل كانت بطور التشكل والتكوُّن بفعل الخطوط التي فتحتها مع الرساميل المتكونة والتي كانت تبحث عن أقنية لها لإعادة إنتاجها مرة أخرى (تبيضها)، فوجدت ضالتها بالبرجوازية الطفيلية، وهو اسم يدل على شكل نشاطها الذي تقوم به وتمارسه على الأرض.
وقد شكل قانون الاستثمار الذي صدر في تسعينيات القرن الماضي البوابة والقناة الأساسية لانطلاقة قوى السوق والتقائها الحميمي مع الأموال التي نُهبت سابقاً، والتقاء المصالح هذا لابد أن يكون على حساب حاجات المجتمع السوري المتنامية، وعلى حساب الاقتصاد الوطني الذي هو الركن الأساسي في تحقيق نسب النمو المطلوبة والتنمية الضرورية التي تلبي تطور حاجات الشعب السوري، بفرص العمل والتعليم والصحة والسكن والنقل وإلخ، بالإضافة إلى تأمين مستلزمات الموقف الوطني الممانع للقوى الاستعمارية.
إن تطور آليات النهب والفساد الذي ترافق مع عملية التزاوج الجارية للمصالح بين البرجوازية والبيروقراطية وقوى السوق، قد دفع دفعاً قوياً بالسياسات الليبرالية إلى الواجهة، وأخذ ينتشر التعبير عن ضرورة تبنيها من خلال الدعاية والفعل الواسعين لها وما ستقدمه للبلاد والعباد من خيرات ورفاهية سينعم بها الشعب السوري، ويجاري بها أكثر الدول تطوراً، حتى بات الشعب السوري يُحسَد على ما سيجنيه من تلك السياسات. ويمكن القول إن سيادة مصالح أية طبقة هو تعبير عن موازين القوى السائد بين الطبقات، وموازين القوى عندنا واضحة للعيان فهي مختلة لمصلحة قوى السوق وحلفائهم الحكوميين، وإلا ما كان ليحدث في مجتمعنا من استعصاءات حقيقية لولا ذاك الخلل الحاصل، والذي كانت نتيجته الحقيقية التراكم الهائل للأزمات المعيشية المختلفة، والتي تراكمت وحفرت لها مجرى عميقاً في حياة الفقراء، وأصبحت سمة تطغى على حياتهم وتجعلهم مواطنين من الدرجات الدنيا، حقوقهم في حدود الفُتات الذي يُرمى لهم.
إن ما فعلته السياسات الليبرالية المنفلتة من عقالها، ومن تبناها وعمل على أن تصبح أمراً واقعاً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لم يكن عملاً بريئاً، بل كان خطاً مدروساً ومتصاعداً ومتوافقاً مع ما تسمح به الظروف المحلية، أي وفقاً لما تسمح به شدة الممانعة أو (الرخاوة) لهذا النهج، حيث بينت نتائجه الفعلية أنه يسير وفقاً لما تريده مخططات الدوائر المالية والسياسية الإمبريالية، وهذا يعتبر خرقاً داخلياً خطيراً يراد منه ضرب عدة عصافير بحجر واحد، وأهم ما في ذلك ضرب قدرة سورية على ممانعة ومقاومة المشاريع الإمبريالية بخططها المختلفة والمتنوعة والمتطورة، وفقاً لتطور الأحداث، والتي ما كان لها أن تحقق أي نجاح لو استطاعت القوى الوطنية وفي مقدمتها الحركة النقابية التصدي لها مبكراً وهي في خطواتها الأولى، بل الأسوأ من ذلك أنه جرى الدفاع عن تلك السياسات بأشكال مختلفة، وجرى تسويقها باعتبارها المنقذ الذي سيؤمن حل الأزمات والاستعصاءات الاجتماعية والاقتصادية التي أوجدها ذاك التحالف غير المقدس لقوى السوق مع البرجوازية البيروقراطية.
إن التحركات الشعبية والسلمية لم تأت من فراغ، ولم تكن نتيجة فعل مؤقت أو تأثر بما يجري حولنا، كما هي الحال في مصر وتونس، بل هي نتيجة تلك التراكمات من الأزمات التي فعلت فعلها ودفعت بها إلى السطح لتعبر عن نفسها وعن مطالبها التي يجب أن تُحمى ويدافَع عنها، ونحن نجزم ونؤكد على الدور الخاص الذي من الممكن أن تلعبه الحركة النقابية لو توفرت لها الشروط الضرورية بأن تقوم بهذا الدور الوطني المهم في هذه اللحظات، وذلك بأن تعيد تقييم تجربتها الخاصة مع الحكومة السابقة وفريقها الاقتصادي، وتتخذ القرارات والتوجهات الكفيلة بإسقاط تلك السياسات التي ساهمت في إنتاج ما نحن فيه، والتي لم يستفد منها سوى القوى الخارجية والداخلية المتحالفة معها، والتي بنت تحركاتها على أساس ما أنتجته تلك السياسات الليبرالية من بؤر توتر تنفجر في أية لحظة وتكون عاملاً مساعداً لاستكمال تنفيذ مشروعهم العدواني.
إن الحركة النقابية لقادرة على مواجهة تلك السياسات، وهذا يتطلب الانفتاح الحقيقي على الطبقة العاملة السورية والتخلص من كل أشكال الهيمنة عليها، وهو شرط لازم للدفاع عن الوطن، وإن تحقيق مطالب الطبقة العاملة والدفاع عن حقوقها هو مقدمة ذاك الانفتاح المنشود.