اقتصاد السوق وإشكالية العمل النقابي
منذ تبني اقتصاد السوق «الاجتماعي» وحقوق الأكثرية تتآكل، الغلاء الذي لم يعالَج، وانخفاض القدرة الشرائية والتضخم النقدي، وانسحاب الدولة من الرقابة على سوق التجارة الداخلية وأسعار المواد التموينية وأثاره السلبية على حياة ذوي الدخول المحدودة، الأمر الذي أدى وسوف يؤدي أكثر فأكثر إلى الانهيار السريع في قيمة الليرة السورية وانخفاض قدرتها الشرائية. الارتفاع الكبير في تكاليف الإنتاج من مواد أولية وتجهيزات وآلات، تحرير أسعار الطاقة، استشراء الفساد الذي تتأتى منه دخول كبيرة غير ناتجة عن جهد أو تعب، ضرب القطاع العام وضرب القطاع الزراعي.
في المؤتمرات
جملة هذه القضايا الاقتصادية والمعيشية والعمالية أحجمت النقابات العمالية في مؤتمراتها السنوية عن طرحها في تقاريرها ومناقشتها والحوار حولها، وحتى أمام الحكومة طرحت قضايا هامة وأساسية وكان اللقاء أو الاجتماع ينتهي بالتوافق وفي الخندق الواحد. والاقتصار عاماً بعد عام على الطرح والتنظير فقط، في حين تمضي قافلة الحكومة إلى الليبرالية والوصول إلى ما تريد، وهو أمر خطير جداً ليس على العمال والحركة النقابية فقط، وإنما على مستقبل الوطن واقتصاده.
تقرير الاتحاد العام المقدم للدورة الرابعة عام 2008 يقول في فقرة منه «إن التراجع في دور الدولة الاقتصادي يتوافق، وربما موجَّه، مع نصائح صندوق النقد والبنك الدوليين، ومعلومة للجميع أهداف هاتين المؤسستين وما هي النصائح التي قدمتها للدول الأخرى ونتائج هذه النصائح». أبرز الأمثلة على ذلك الأزمة المالية العالمية التي تنطلق من إيديولوجية نهاية التاريخ والنيوليبرالية وتفوق النموذج الرأسمالي. ومازال اتحاد العمال يؤكد على دور الدولة انطلاقاً من أهميته الاقتصادية والسياسية، وأن بناء اقتصاد السوق الاجتماعي يتطلب مجموعة من الآليات والأدوات بيد الدولة لتدخلها وتوجيه السوق نحو الأهداف الاجتماعية، وإن تراجع دور الدولة في ظل تطبيق اقتصاد السوق سيؤدي إلى نتائج غير مرغوبة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، تنجم عن ترك الطبقات الأضعف في المجتمع خاضعة لقوانين السوق وتحكم التجار.
طبيعي أن الاقتصار على النضال المطلبي، على أهميته، لا يلبي أهداف الطبقة العاملة الطامحة إلى تصفية الاستغلال، والإبقاء على القطاع العام، وإقامة علاقات إنتاجية واجتماعية وإنسانية، والسؤال: هل رفع المذكرات وتقديم المداخلات في المؤتمرات يكفي؟
التطوير في الخطاب النقابي إنما يعني، أن تتجاوز الحركة النقابية الركود القائم، انطلاقاً إلى عمل ميداني بين صفوف الطبقة العاملة في القطاعين العام والخاص، إلى نهج جديد لا يعيد إنتاج الأساليب القديمة، وإنما خلق الشروط الموضوعية لعلاقة تفاعلية بين الحركة النقابية والطبقة العاملة.
تؤكد الحركة النقابية السورية في كل أدبياتها بأن منهج الليبرالية الاقتصادية لا يتفق مع المصالح الوطنية للدول النامية في التنمية والتقدم، وتؤكد أنه ليس من مصلحة سورية من أجل تقدمها ومواجهتها للتحديات الإقليمية والعالمية الاستمرار على نهج الليبرالية الاقتصادية الجديدة، ولا بد لها من العودة إلى مفاهيم التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، المتجهة نحو الداخل والمعتمدة على الذات وطنياً، يؤكد هذا التوجه دور الدولة ومسؤوليتها عن التنمية اقتصادياً واجتماعياً دون نفي المسؤولية ودور القطاع الخاص وراس المال المحلي في عملية التنمية، ويعزز المشاركة الشعبية الواسعة من خلال تنمية الإحساس بالمسؤولية الجماعية الوطنية، والوعي للحقوق والواجبات في إطار العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
اقتصاد السوق الاجتماعي يفترض وجود قوي للدولة تشرف على تطبيقه، وتضع استراتيجية التنموية لتتجسد حقيقة على أرض الواقع. وبهذا الشكل ستلعب الدولة دور المحرك للانطلاق الاقتصادي والنمو، ودور المنظم والمراقب لتحقيق السياسة الاقتصادية، وتوفير شروط المنافسة النزيهة وحرية الاستثمار والملكية مهما كانت طبيعة المؤسسات، سواء عامة أو خاصة، ومحاربة الغش والتهرب الضريبي والفساد وتعزيز دور القطاع العام.
الاتحاد العام لنقابات العمال مطالَب بدور فعال بالدفاع عن مصالح الطبقة العاملة والحركة النقابية، والحفاظ على القطاع العام ليرتقي إلى مستوى التحديات التي رآها، ويقول: «لا يمكن لبلد في مواجهة هذه التحديات أن يعتمد على قوى السوق الحر في بناء اقتصاده وأن يلقي جانباً أحد أهم الأسلحة التي يملكها في مواجهة الضغوط، وهو القطاع العام».
إنه خطاب نقابي هام يؤسس لنشاط نقابي لاحق لمواجهة نهج الليبرالية الجديدة، وهذا لم يتحقق حتى الآن، لذلك حدث خلل كبير لصالح راس المال والسياسة الاقتصادية التي لا تأخذ البعد الاجتماعي، والتي هي عامل عرقلة للنمو وليس عامل تحفيز.