العمال والمهندسون المصروفون من الخدمة
إن أكثر القضايا التي شغلت الرأي العام والمجتمع السوري منذ سنوات وإلى الآن هي قضية الفساد الكبير، الذي كان وما زال سمة أساسية من سمات السياسات الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والفساد الكبير ليس المقصود به نهب المال العام فقط على أهمية هذه المسألة من حيث نتائجها السياسية والاجتماعية، بل نعني به أيضاً الفساد الإداري (الكبير) الذي هو وجه آخر من أوجه الفساد لا يقل تأثيره من حيث نتائجه عن الفساد المالي، ومكمل له.
لقد رفعت الحكومة السابقة شعار مكافحة الفساد.. وما يزال الشعار مرفوعاً حتى الآن، ووضع العديد من اللوائح والتعليمات التنفيذية له، وأخذ الأعلام يهيئ الرأي العام والمجتمع لهذه الحرب، موحياً بأن هناك موقفاً جدياً لمكافحة الفساد، وأن هذه الظاهرة ستحاصر إلى أبعد الحدود على طريق القضاء النهائي عليها في الدولة والمجتمع، ليعيش بعدها المواطن مطمئناً ومرتاح البال، لأن نتائج مكافحة الفساد ستعود عليه بالخير من حيث تحسين مستوى معيشته، وسيجد أولاده مكاناً لهم في سوق العمل، ويصبح العلاج والتعليم مجانيين تقريباً ودون تكاليف مرهقة، وستقف شركات القطاع العام على قدميها ثانية، والقطاع الخاص الإنتاجي ستدور عجلة الإنتاج فيه ليساهم إلى جانب القطاع العام في تأمين مستوى النمو الحقيقي المطلوب لانجاز برامج التنمية، كل هذه الأحلام الوردية والأمنيات الطيبة قد عشمنا بها الإعلام الرسمي وغير الرسمي من خلال اللجنة العتيدة المسماة (لجنة مكافحة الفساد).
لنترك الآن الأحلام الوردية والأمنيات الطيبة ونعود إلى الواقع لنرى من الذي كافحته لجنة مكافحة الفساد، وهل هي فعلاً لجنة لمكافحة الفساد أم أنها اعتُمدت لمآرب أخرى في نفس الحكومة السابقة؟
الفساد المالي والإداري
لقد تطور الفساد المالي والإداري لدرجة أصبح فيها يوازي أو يكاد من حيث نتائجه التخريبية على سورية أرضاً وشعباً أشكال النهب الأخرى، الذي ترعاه القوى المعادية لشعبنا من أجل تفتيت أوصاله وضرب وحدته الوطنية وتمزيق وحدته الجغرافية، وهذا ما يجري على الأرض الآن من أفعال تقوم بها قوى الفساد الكبير في الداخل والقوى المعادية في الخارج، حيث تتكامل الأدوار للوصول للهدف الواحد المرسوم لبلادنا وللمنطقة، ولا يمكن فصل ما جرى من تراكمات خلال السنوات السابقة بفعل السياسات الليبرالية الاقتصادية كتحضير لما يجري الآن، فقد تم الإعداد له بدقة وبرعاية مباشرة من المؤسسات المالية الرأسمالية (صندوق النقد والبنك الدوليين) وبشعارات محلية (التطوير والتحديث، مكافحة الفساد، إصلاح القطاع العام..) وإعادة هيكلة وكل هذه المفردات لها وقع خاص عند المواطن لأنه فعلاً يريد التطوير ومكافحة الفساد وإصلاح القطاع العام وتحسين مستوى المعيشة، وتأمين السكن والعمل والضمان الصحي وغيرها وغيرها من المطالب والاحتياجات... التي هي بالأصل يقع على عاتق الحكومة تأمينها وفقاً للدستور السوري الذي جرى انتهاكه ومخالفته بمواضع كثيرة، كانت ومازالت تتطلب محاسبة من قام بهذا الفعل عبر محاكمة علنية، ولكن كان وراء الأكمة ما وراءها، فلم تتم المحاسبة، ولا القضاء قام بدوره، وانكسرت (الشربة) كما يقال، برأس من كان لا حول لهم ولا قوة في مواجهة آلة الفساد والنهب الجبارة المسلحة بكل ما يلزمها من قوى ودعم من أجل أن لا يرتفع صوت العامل أو المهمش، أو العاطل عن العمل أو المحروم، ولكن لم تجر الرياح بما تشتهي سفن الفساد والنهب حتى الأخير، حيث سقطت كل المساحيق التي كانت تجّمل وجه السياسات الليبرالية القبيح ومن تبناها بالقول والفعل.
إن لجنة مكافحة الفساد التي شُكلت هي بمثابة ذر للرماد في العيون، فلم تطَل هذه اللجنة بقراراتها من شُكلت لأجلهم من الفاسدين الكبار الذين نهبوا البلاد والعباد حيث يقدر حجم نهبهم من الدخل الوطني ما يفوق 30%، وهذا الرقم كبير، بل وكبير جداً، وكان يحتاج لمكافحته ليس لجنة صغيرة مفصلة على القياس، بل كان يحتاج لمحاكم تفتيش تجتث النهب والفساد من جذوره، ولكن الذي حدث أن هذه اللجنة فعلت فعلها بمن هم ليس لهم علاقة بالفساد الكبير، بل هم أحد نتائجه ليس إلا، وهؤلاء أقلية من الذين صرفوا من الخدمة، ولكن الأغلبية ليس لهم علاقة مباشرة بما ادعي عليهم زوراً (صرفوا لأمر يمس النزاهة)، حيث شُهر بهم بالصحافة الرسمية ونشرت أسماؤهم الثلاثية الصريحة..
المهندسون نموذجاً
من بين من الذين صرفوا من الخدمة عمال البلديات والمهندسين بمحافظة حلب ودمشق، وذلك بتوصية مرفوعة من المدراء والمحافظين لرئيس مجلس الوزراء استناداً للمادة /137/ من قانون العاملين الأساسي رقم /50/ لعام 2004، والتي تنص على تشكيل لجنة ثلاثية للنظر في وضع العامل المراد فصله، وهي تقرر الفصل بناء على المستندات والوثائق والتحقيق المفترض إجراؤه مع العامل، ولكن ما جرى لهؤلاء المهندسين والعمال أن صرفوا من الخدمة دون تحقيق ودون اللجنة الثلاثية لأسباب (تمس النزاهة) كما ادعى محافظ دمشق بتوصيته العتيدة لرئيس مجلس الوزراء السابق.
لقد مضى على قضية المهندسين والإداريين والعمال المصروفين من الخدمة عام ونيف، وخلال هذه المدة الزمنية الطويلة من تاريخ قرار الفصل وإلى الآن، لم يتوصلوا إلى نتيجة مفيدة تعيد لهم حقوقهم التي كفلها لهم الدستور السوري وهو حق العمل، حيث جرى انتهاك لهذا الحق الدستوري في الطريقة التي تم بها صرفهم من الخدمة، مع العلم أن جهات كثيرة منها نقابات العمال، ونقابة المهندسين، قد أقرتا ببطلان وعدم مشروعية قرار الفصل لعدم وجود مستند قانوني (لجنة تحقيق) تؤيد قرار الفصل ومخالفته الصريحة لقانون العاملين الساسي.
إن العمال والمهندسين المصروفين قد سعوا مع الجهات الرسمية وغير الرسمية من أجل عودتهم إلى عملهم، ولكن الفساد الإداري كان يتقاذفهم من مكان إلى آخر، وكل جهة ترمي الكرة في ملعب الجهة الأخرى، لتستقر الكرة في النهاية في ملعب محافظ دمشق الذي أبلغهم بأن قرار الصرف من الخدمة هو بمثابة عقوبة لهم، وأيضاً لتأديب غيرهم، لكي يسيروا على الصراط المستقيم الذي رسمه!! إن محافظ دمشق ومن حوله من الأعوان تعامل مع هؤلاء العمال وكأنهم يعملون في مزرعته الخاصة، ولا قانون نافذاً سوى القانون الذي يضعه هو، والمحافظ بهذا العمل يقول كما قال المثل الشعبي (يا فرعون من فرعنك؟ قال: ما لقيت حدا يردني).. ما هكذا تورد الإبل يا سيادة المحافظ.
إن الانتقال من شكل عمل إلى آخر متطور عنه ليس فقط بالبرامج والأدوات، وإنما أيضاً بتطوير الكادر البشري المؤهل الذي سيتعامل مع التكنولوجيا والبرمجيات المتطورة، التي الهدف منها اختصار التكاليف والزمن على المواطن وعلى المحافظة، وأيضاً قطع الطريق على الفساد المستشري في جنبات المحافظة. وهنا نتنور بالمذكرة التي تقدم بها العاملون في محافظة دمشق الصادر بحقهم قرار رئاسة مجلس الوزراء رقم /5749/ تاريخ 20/11/2010 والمتضمن الصرف، وهذه المذكرة تعبر بشكل حقيقي عن الأسباب الكامنة لقرار الفصل لأن أهل مكة أدرى بشعابها..
مذكرة.. ومطالب
تقول مذكرة المصروفين من الخدمة:
«إن جميع العاملين الذي صدر بحقهم هذا القرار وعددهم /22/ مهندساً ومهندسة كانوا مرتبطين من قريب أو بعيد بمركز خدمة المواطن في المحافظة، حيث تم افتتاح هذا المركز في الربع الأخير من عام 2010 وكانت فكرة السيد المحافظ من افتتاحه هي تجميل صورة المحافظة التي أصبحت سيئة ومضرب المثل في فشل الإدارة ومحط تعليقات الصحف اليومية والهدف منها هي تبسيط الإجراءات للمواطنين بحيث يتم منحهم الرخص الإدارية لمحلاتهم خلال فترة 9 أيام وتم نشر هذا الكلام بالصحف والمجلات والمقابلات التلفزيونية مع المحافظ والمدراء.
وفوجئ السيد المحافظ ومستشاروه بزيارة السيد الرئيس للمركز في الشهر العاشر من عام 2010 حيث قدموا لسيادته العديد من ميزات المركز والتي هي صعبة التنفيذ وخاصة أن الموضوع كان بالأساس للدعاية فقط وقاموا بتشكيل لجنة لتبسيط الإجراءات ولكن هذه اللجنة لم تكلف نفسها أي عناء ولم تجتمع أصلاً من أجل إزالة العراقيل الإدارية والروتين الذي ترزح تحته المحافظة.
مما أدى إلى عدم الالتزام من قبل المحافظ ومستشاريه بالوقت الذي حدده من أجل منح الرخص.
فكان الحل الأسهل لديهم هو رفض أغلب المعاملات والطلب من المواطنين إعادة تقديم طلبات جديدة ودفع سلفة 10000 عشرة آلاف ليرة سورية مما أدى إلى تذمر المواطنين وتعرضهم إلى تعليقات الصحف والجرائد.
وللخروج من هذه الورطة نصحه مستشاروه بأن يتم تقديم كبش فداء يكون محط أنظار الصحف والمسؤولين بأن مجموعة من العاملين هم المسيئون والمقصرون في عملهم فيتم صرفهم من الخدمة مما يمنحهم وقتاً إضافياً لتحسين الوضع فما كان من أمين السر في ذلك الوقت السيد بشار الدادا، ورئيسة مركز خدمة المواطن رانيا عبود، ومدير المهن والرخص طارق نحاس، ومدير التنظيم والتخطيط العمراني عبد الفتاح أياسو، أن تقدموا بعدد من أسماء بعض العاملين ضمن مركز خدمة المواطن ومن مديريات أخرى مرتبطة معها، علماً أن هذه الأسماء قد تغيرت أكثر من مرة وتم بالمونة إزالة أسماء ووضع أسماء أخرى. رغم التحفظ من هذه الأسماء وإبقائها سراً حتى بعد رفعها للسيد رئيس مجلس الوزراء. الذي وقعها دون الرجوع إلى أي تحقيق أو جهة رقابية وكان اعتماده على كلام محافظ دمشق بأن هذه المجموعة سيئة وتحتفظ بالمعاملات في مكاتبها مما أدى إلى تأخر المعاملات وفشل النافذة الواحدة في مكاتبها ومن المفيد بالذكر أن المعاملات يتم الكشف عليها من قبل كشافين في مركز خدمة المواطن بالاستعانة لمجموعة مهندسي البلديات وتعود إلى مركز خدمة المواطن مباشرة مع الكشافين فكيف يتم الاحتفاظ بهذه المعاملات في أدراج المكاتب وهي لم تصل لأيدينا.!!؟
وفي النهاية فإن المصروفين من الخدمة يطالبون:
التحقيق معنا ومعرفة أسباب الصرف إن وجدت، وذلك من قبل لجنة محايدة ونزيهة.
بعد ثبوت براءتنا من الأسباب التي تمس النزاهة نطلب نشر ذلك في الصحف، وخاصة جريدة تشرين الرسمية التي نشرت قرار الصرف حرفياً بأسمائنا الثلاثية في عددها رقم /10959/ لعام 2010، وشهرت بنا أمام الناس جميعاً، مما أساء إلى أبنائنا وأسرنا نفسياً واجتماعياً قبل أنفسنا.
إعادتنا إلى الخدمة على اعتبار أن غالبيتنا أمهات ولدينا أولاد مازالوا ينهلون العلم، وهم بحاجة إلى المساعدة المادية التي قطعت بهذا القرار التعسفي الظالم».